التعذيب والتعذيب المضاد

“ما الفرق يا سمية، اولاء كانوا يجمعوننا في الليل والنهار، وأولاء يجمعوننا في النهار والليل”.

 نبيل سليمان

رواية “جرماتي”

او”ملف البلاد التي سوف تعيش بعد الحرب”

   ما الفرق بيننا وبين الانظمة الدكتاتورية، اذا كنا سنمارس مثلهم التعذيب، هي الصرخة التي اطلقت يوم استطاع سيمون هرش كشف فضيحة سجن ابو غريب العراقي، الذي تحول من يد النظام الصدامي الدموي الى يد القوات الامريكية، التي ادخلت عليه بعض التحسينات التجميلية لا لالغاء اسلوب التعامل مع السجناء السياسين الذي كان سائدا في زمن صدام وزمرته القمعية، بل لجعله اكبر واحدث ليتسع الى اكبر عدد ممكن من المساجين السياسيين. ولقد جاء تقرير هيرش ليكشف معاناة المعتقلين في هذا السجن وبشاعة التعذيب الذي تعرضوا له على ايد “محرريهم” من عسف صدام وبشاعة تعذيبه.

        اليوم تعود فضيحة تعذيب المساجين السياسيين في العراق، والتي اكتشفت في اقبية وزارة الداخلية العراقية، التي يتزعمها بيان جبر احد رموز فيلق بدر، حيث دافع بكل وقاحة عن هذا التعذيب الوحشي، مفسرا اياه على الطريقة الرامسفيلدية (نسبة الى رامسفيلد، وزير الدفاع الامريكي) بان الذين عذبوا لا يستحقون الرحمة، كونهم “ارهابيين”.

        لماذا ينسى الذين يتولون السلطة من مضطهديهم، بان احد اهم المسائل التي حاربوا من كان قبلهم في السلطة، أنه كان يمارس ضدهم التعذيب بكافة اشكاله البشعة،  فيمارسون هم بالذات الاسلوب ذاته في التحقيقات مع المختلفين معهم بالرأي، وكأن السلطة السياسية هي عبارة عن مغطس ينسي الذين يتقلدونها كل القيم التي دافعوا عنها في نضالهم ضد السلطة التي كانت تمارس ضدهم التعذيب بكل بشاعته.

        اول كتاب اطلعت عليه في بدايات وعي السياسي حول التعذيب، كان للجزائري بشير الحاج علي، والمعنون “العسف.. او التعذيب الجديد في الجزائر” وهو يؤرخ الى التعذيب السياسي في الزمن البومديني (نسبة الى الهواري بومدين)، حيث سام البشير بو معزة المساجين السياسيين، من انصار الرئيس الجزائري المخلوع، والمنتخب شعبيا احمد بن بيلة، اشد انواع العذابات تفننا، ولقد كان بشير الحاج علي احد ضحايا هذا التعسف. استهجن الحاج علي كيف تحول بو معزة من مناضل ذاق صنوف التعذيب في سجون الاستعمار الفرنسي ليتحول الى جلاد في حق رفاقه في معركة الاستقلال اسوأ بكثير من جلادي السجون الفرنسيين، لا لشيء الا لكي يثبت السلطة غير الشرعية التي عرفتها الجزائر بعد انقلاب الخامس عشر من جوان(حزيران) 1965.

        السجن بلا محاكمة والتعذيب سمة من سمات المجتمعات المتأخرة حيث السلطة القمعية تعمل على الحصول على الاعترافات والمعلومات عن طريق استعمال اساليب التعذيب هذه، ضاربين بعرض الحائط بكل القوانين الدولية والمحلية التي تحمي حق الانسان في محاكمة عادلة، اضافة الى الحقوق الاخرى التي رعتها شرعة حقوق الانسان العالمية.

        ان استخدام التعذيب ان دل على شيء انما يدل على افلاس الانظمة التي تمارسه، حيث ان اجهزتها الامنية، التي تتلهى عن مهامها الاساسية في حماية الوطن والسهر على امن المواطنين، بالعمل على خدمة مصالحها الشخصية ومصلحة الانظمة التي تنتمي اليها، فنراها تلجأ الى ممارسة التعذيب على معارضي السلطة، وهي لا تكتفي بذلك بل نراها احيانا كثيرة تحضر هذا او ذاك الى اقبيتها ليس لخدمة الامن والعدالة، بل لخدمة هذا او ذاك من المتنفذين او في من يدور في فلكهم.

        وليس التعذيب حكرا فقط على الانظمة القمعية، فنرى حتى الانظمة التي من المفروض ان تحمي حقوق الانسان تتصرف بذات الاسلوب عندما تتعرض الى حوادث جسام، نتيجة عدم قدرة انظمتها الامنية على كشف ما يحدث، ومنعه من التحقق. ولنا في الولايات المتحدة الامريكية اكبر مثال ودليل على هذه الوضعية، فبعد الحادي عشر من ايلول، استشرست الادارة الامريكية في ردة فعلها تجاه ما حدث، فكان ايجاد وزارة الامن القومي، التي انشئت من اجل تطبيق قانون الامن القومي الذي يجيز لوزارة العدل السماح بتوقيف المشتبه بهم بلا محاكمة لمدة طويلة، حارمين بذلك الموقوفين من ابسط حقوقهم الانسانية الا وهي التحقيق معهم بوجود محام، اضافة الى السماح بالتجسس على المواطنين بلا امر قضائي وهو ما كان معمولا به قبل هذا القانون.

        اليوم هناك حملة كبيرة في الولايات المتحدة الامريكية ضد التعذيب، بكافة صنوفه ومبرارته القانونية وغير القانونية، حيث تشن مجموعة من اعضاء مجلس الشيوخ حملة ضد التعذيب، حيث اخذ ثلاثة من اعضاء مجلس الشيوخ من الحزب الجمهوري وثلاثة من الحزب الديموقراطي المبادرة الى رفض التمديد الطويل الامد لقانون الامن القومي، لا بل ذهبوا ابعد من ذلك الى المطالبة بتعديل هذا القانون، لكي يمنعوا مصادرة حقوق الانسان التي حماها الدستور الامريكي والقوانين الدولية، والتي ضربت بها عرض الحائط الادارة الحالية، وخاصة في عهد كل من اشكروف ورامسفيلد، حيث نقل المساجين الى سجون بعيدة عن الاراضي الامريكية، حتى يستطيعوا ممارسة التعذيب على المعتقلين.

        ولقد كان السناتور جون مكاين، وهو اسير حرب سابق في حرب فيتنام، صريحا جدا عندما رفض رفضا قاطعا اي تبرير لممارسة التعذيب على المعتقل سواء اكان اسير حرب او معتقل يحقق معه، وهذا ما اثار سخط رامسفيلد وتشيني والغلاة في الحزب الجمهوري، وجعلهم يطلقون حملة شعواء ضد كل من لا يؤيد مشاريعهم لتثبيت قانون الامن القومي، الذي بالمحصلة يسقط مبدأ هاما من مبادئ الديموقراطية في البلدان المتقدمة، الا وهو قانون حماية الحقوق الشخصية للفرد.

        الحملة اليوم على اشدها ضد هذه القوانين اللاديموقراطية سواء في الولايات المتحدة الامريكية او في بريطانيا، وهي حملة يجب مساندتها باي طريقة كانت، وكل ما نتمناه ان لا يحدث ما حدث اثناء فضيحة سجن ابو غريب، حيث ذبح الزرقاوي الرهينة الامريكية بطريقة بدائية ومقززة ادت الى محو كل ما عمل من اجل كشف ومعاقبة المسؤولين عن هذه الفضيحة واولهم وزير الدفاع رونالد رامسفيلد، حيث نسي المواطن الامريكي تلك الصور البشعة التي التقطت في ابو غريب لامريكيين يمارسون التعذيب البشع، ليحل محلها صورة احد الامريكين يذبح على شاشة الجزيرة وعلى صفحات الانترنيت.