قراءة و معايشة للأسباب التي أدت للأزمة في سورية جاك جوزيف اوسي

قراءة و معايشة للأسباب التي أدت للأزمة في سورية

جاك جوزيف اوسي*

Jack pic

هناك أحداث في التاريخ تحفر في ذاكرة الشعوب عميقاً وتترك أثرها الواضح على مسيرتها في الحياة إن من الناحية الإيجابية أو السلبية.  ولذلك عمدت كثير من الشعوب والحضارات إلى تمييز تاريخها بما قبل الحدث. وهذا ما بدأنا نلاحظه في المناقشات السياسية الدائرة في سورية حول الأحداث التي تمر بها هذه الأيام ، فقد تختلف آراء الأشخاص ما بين قائل إنها ثورة لاسترداد الحرية والكرامة، وآخر يعتبر ما يحدث فصل من فصول المؤامرة التي تستهدف دور ومكانة سورية على الصعيدين الإقليمي والدولي، وثالث يقول إن تضافر العامل الداخلي مع الخارجي سمح للمتربصين شراً بسورية في التغلغل عميقاً في النسيج الاجتماعي السوري للعمل على تفجيره. ولكن الجميع يقرّ بأن سورية قبل 15-3-2011 تختلف عن سورية بعد هذا التاريخ.

وهنا نستطيع أن نطرح التساؤلات التالية، ما هي الأسباب التي أدت إلى تأزّم الأوضاع في سورية وجعلت الرأي العام ينقسم حولها ما بين مؤيد ومعارض، وهل هذه الأسباب هي أسباب داخلية تتعلق بمطالب اجتماعية وسياسية واقتصادية فقط وهذه من الأمور الخلافية في أي مجتمع يكون الحكم فيها صندوق الاقتراع، أم إن العامل الخارجي كان حاضراً منذ بداية الأزمة وبقوة وهذا ما يفرض توحّد كل أفراد المجتمع للدفاع عن الوطن ؟.

الوضع السياسي والاجتماعي في سورية

فرضت اتفاقية سايكس – بيكو على الرأي العام السوري حدوداً لم يستطع أن يتقبلها، الأمر الذي أدى إلى ضعف الاحساس بالولاء للدولة القطرية عند الكثير من المواطنين، وقد دفعهم هذا الأمر إلى البحث عن مصادر أخرى للهوية الوطنية خارج حدود الإقليم السوري. وتنازعت الهويات بين ثلاث اتجاهات، قومية عربية، سورية قومية، وتيار داعي لإعادة احياء الخلافة الإسلامية. وفي الوقت نفسه حافظ السوريون على الولاء للمنطقة وللطائفة والعشيرة، وفي بعض الأحيان للعائلة. هذا الولاء لعب دوراً سلبياً في أوقات الأزمات التي عصفت على المنطقة، حيث نرى أن مصطلحات من قبيل " القبيلة، العشيرة، الطائفة" تعود إلى الظهور وبقوة على المسرح السياسي للأحداث الراهنة.

العامل الخارجي في الأزمة السورية

ما يحدث الآن سببه تحول سورية من لاعب أساسي على الساحة الإقليمية، إلى حلبة تمارس فيها القوى العظمى سياسة تصفية الحساب وإعادة بناء قواعد لعبة الأمم بما يخدم مصالحها وأهدافها الاستراتيجية. وهي إعادة مكررة للحرب العربية الباردة التي دارت في أواخر العقد الخامس وبداية العقد السادس من القرن المنصرم ودفعت سورية والأمة العربية ثمناً فادحاً لخوضها هذه الحرب بالنيابة عن الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في ذلك الوقت، التي انتهت حرباً عربية إسرائيلية ساخنة عام 1967 لا زلنا نعاني من آثارها ونتائجها حتى الآن. هذه الحرب والآثار التي نتجت عنها كانت درساً بليغاً للقيادة السورية جعلتها تقرر أن تبدأ بتأسيس قواعد لعبتها الخاصة في الشرق الأوسط وقد حالفها النجاح في بعض الأحيان والفشل في أحياناً أخرى.

الأسباب الداخلي التي أدت لانفجار الأزمة

•       تفرّد حزب البعث العربي الاشتراكي في السلطة واحتكاره ممارسة العمل السياسي في  بعض قطاعات المجتمع بموجب المادة الثامنة في الدستور، ووضع خطوط حمراء أمام باقي الأحزاب أثناء ممارستها للعمل السياسي في الشارع السوري وخصوصاً في أوساط الشباب عموماً والطلاب خصوصاً. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فبعد انشغال حزب البعث بالسلطة ومتطلباتها ضعف الجانب العقائدي في ممارسته السياسية والاجتماعية وفتح باب الانتساب أمام الجميع من دون وضع قواعد صارمة لطرق اختيار أعضائه، مما سمح بدخول أعداد هائلة من المنتفعين والوصوليين والانتهازيين إلى صفوفه للاستفادة من الامتيازات التي يتمتع بها عضو حزب حاكم في الدولة. هذه الفئات تغلغلت في بنيان الدولة ومفاصلها الرئيسية، وشغلت مناصب رسمية وبدأت تستغل الدولة وأجهزتها في سبيل تحقيق مطامعها الخاصة وخدمة لأهدافها غير المشروعة. ولم يقف الأمر عند هذا الحد فكثير من هؤلاء نكصوا إلى ثقافتهم الدينية السائدة والتي بدأت تميل إلى التشدد شيئاً فشيئاً نتيجة قراءة قادمة من خارج حدود الدولة عملت على تغذية الحقد الطائفي بسبب ما اعتبرته احتكار السلطة من قبل فصيل معين للسلطة في سورية.

•       تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد وتلاشي الطبقة الوسطى في البلاد التي كانت حارسة التوازن في المجتمع. وقد حدد الكاتب ميشيل خوسودوفسكي أستاذ الإقتصاد في جامعة أوتاوا- كندا ومدير مركز أبحاث العولمة غلوبال ريسيرتش في مقاله المعنون: "سوريا: من يقف وراء حركة الاحتجاج"  الأسباب على الشكل التالي: أ- تزايد مستوى البطالة في الفترة الأخيرة. ب- تدهور الظروف والأوضاع الاجتماعية. .. إن حدوث هذين السببين يعود بشكل رئيسي إلى قيام دمشق بإتباع وصفة صندوق النقد الدولي الخاصة بسوريا في عام 2006 م، وهي الوصفة التي فرضت على سوريا القيام بانتهاج سياسات اقتصادية تركز على الآتي: 1- تطبيق الإجراءات التقشفية الصارمة القائمة على مبدأ تخفيض النفقات والحد من الواردات، وإلغاء الدعم وتقليل الإنفاق على الخدمات.. وهلمّ جرا. 2- تجميد مستوى الأجور والمرتبات، وذلك بما يتضمن عدم زيادة الأجور، وعدم فتح الوظائف الجديدة لتعيين الموظفين والعمال والمهنيين. 3- إعادة تنظيم النظام المالي والنقدي، بما يتضمن إعادة هيكلة المؤسسات المالية والنقدية إضافة إلى إعادة هيكلة السياسات المالية والنقدية بما يتماشى مع توجهات نظام السوق الحر الذي يعتمده صندوق النقد الدولي وبقية المؤسسات المالية والنقدية والتجارية الدولية. 4- القيام باعتماد الإصلاحات الجديدة في النظام التجاري، بما يعطي للأسواق قدراً أكبر من حرية التجارة، ويطلق يد التجار، وعلى وجه الخصوص عدم قيام الدولة بوضع القيود التي تحدد وتضبط أسعار بيع وشراء السلع في الأسواق السورية.5- القيام باعتماد نظام الخصخصة، وذلك بما يتضمن تصفية مؤسسات القطاع العام ببيعها للقطاع الخاص أو تصفيتها إذا تعذر ذلك، بما سوف يؤدي بالضرورة إلى تسريح الأعداد الكبيرة من الموظفين والعمال. ( المصدر موقع الجمل) هذه السياسات أثرت بشكل مباشر على الريف الذي أهمل، والذي عانى في الفترة الأخيرة من موجة جفاف قاسية أثرت على مستوى معيشة الأفراد مما جعلتهم يهجرون قراهم إلى المدينة في سبيل البحث عن فرص عمل غير متوفرة لهم كونهم بالأساس عمالة غير مدربة(خصوصاً القادمين من منطقة حوض الفرات(.

•       بدء تغير نمط العلاقات التجارية والاقتصادية والاجتماعية، حيث بدأ قطاع في المجتمع يتجه نحو استخدام الوسائل العلمية والدراسات الأكاديمية لدفع عجلة الانتاج إلى الأمام، بينما ظل قسم أخر يستخدم طرق الانتاج التقليدية تتألف عناصره من صغار التجار وأصحاب الحرف اليدوية وصغار المزارعين ومربي الماشية، وكان أمام هذه الفئة إما الانسجام مع التطور وما يتطلبه من رؤوس أموال غير متوفرة له، أو الاختفاء والزوال (وهذا ما بدءنا نلاحظه في اختفاء مهن من كثيرة الوجود). هذه الفئات أهملتها الدولة ولم تعمل على وضع خطط لتأهيلها وإعادة دمجها في المجتمع الصناعي والتجاري والزراعي.

•       عدم العمل على تطوير الحياة السياسية في البلاد، والتركيز على السياسة الخارجية للدولة وإهمال الداخل، وعندما تحرك المثقفون عام 2001 وطالبوا بإصلاحات خجولة في ذلك الوقت، نجح الصقور في أجهزة الدولة على تصوير الأمر وكأنه خطر على النظام، ذلك إن تقديم التنازلات البسيطة الآن قد تجّر إلى تغيرات كبيرة في المستقبل، وعمدوا إلى شن حملة سياسية وأمنية على المطالبين انتهت بزج بعضهم في السجون بتهم مختلفة. إن تجميد ملف الإصلاح، وعدم مكافحة الفساد الذي استشرى في كل مفاصل الدولة بشكل جدي وعدم ضمان حقوق المواطن المدنية والسياسية ، قد ضاعف نقمة المواطن على الحكومة وما زاد الطين بله شعوره بإمتهان الكرامة بسبب السلوك المتعجرف والفاسد وغير المسؤول لبعض المسؤولين في المحافظات، هذا السلوك كان بمثابة الصاعق الذي فجّر الاحتجاجات نظراً لطابعه الاستفزازي الذي لم يراعي حرمة العادات والتقاليد في تلك المجتمعات.

•       عدم العمل على نشر ثقافة دينية واجتماعية واعية لمشاكل المجتمع، قادرة على قراءة مشاكل ومعوقات التنمية والتطور فيه بشكل صحيح وعلمي، للعمل على تجاوز تراكمات الماضي والبدء في وضع الأسس الصحيحة لبناء المجتمع القادرعلى مواكبة عجلة تتطور الحضارة العالمية. ففي مجتمع محافظ محكوم بعادات وتقاليد عشائرية حالت دون العمل على تخطيط وتنظيم الأسرة، الأمر الذي أدى إلى انفجار سكاني هائل ( الذي يقارب المليون إنسان كل أربع سنوات تقريباً ). هذه الزيادة التي لا يستطيع سوق العمل المحلي استيعابها، أدت إلى بطالة هائلة في صفوف الشباب مما جعلهم يبحثون عن فرص العمل خارج البلاد. هذا الأمر أضعف روح الانتماء عند بعضهم وجعلهم عرضة للتأثر بأفكار ومعتقدات تتعارض مع قيم وعادات وتقاليد المجتمع السوري.

كل هذا جعل المواطن يتراجع إلى خط دفاعه الأخير (الدين) ويتقوقع حوله على أمل أن يجد فيه راحة البال و العزاء مما ألم به … وحتى في هذه الحالة لم يذهب إلى القراءة المتسامحة والروحانية الصافية للصوفية السورية بل اعتمد على القراءة المتشددة الرافضة للمخالف فكرياً وعقائدياً. هذا الفكر الذي غزا الريف السوري والقرية السورية ينذر بخطر شديد يجب معالجته بروية وهدوء بعيداً عن الخطب الجوفاء والكلام المنمّق، فالريف عموماً والقرية خصوصاً هم الملاذ الأخير الآمن والحامي لقيم التسامح في المجتمع ومتى وصلت إليهم أي آفة اجتماعية وتغلغلت فنحن أمام خطب عظيم يهدد كيان المجتمع كله.

الخاتمة

الأزمة في سورية مركبة ومعقدة تدور حول ثلاثة محاور، محورها الأول علاقة الفرد بالدولة حيث يجب إعادة تعريف مفهوم المواطن من هو، حقوقه وواجباته، مفهوم الانتماء والأسس التي تحدده هل هي دينية أم قومية وما هو الانتماء الذي يناسبنا ؟  مفهوم الدولة ودورها في المجتمع. أما المحور الثاني فهو العلاقة بين الدولة والمكونات الاجتماعية فيها ( القوميات والأديان والمذاهب ) حيث يجب إعادة كتابة عقد اجتماعي يضمن حقوق الجميع بحيث لا تحتكر السلطة فئة مستخدمة تبريرات الموروث التاريخي والمعتقد الديني. أما المحور الثالث وهو المحور الخارجي للأزمة والذي يتعلق بالصراع الأقليمي بين تركيا وإسرائيل من جهة، والصراع الإيراني السعودي الذي اتخذ الطابع المذهبي في المنطقة، وصولاً لصراع القوى العظمى بين واشنطن من جهة وموسكو وبكين من جهة أخرى.

 سورية الآن تقف عند مفترق الطريق فإما أن تعيد صياغة هويتها الوطنية معتمدة على إرثها التاريخي وخصوصيتها  الجغرافية التي جعلتها صلة الوصل بين قارات العالم القديم من جهة، وتعمل على إعادة بناء الشخصية السورية التي تمتاز بالتدّين الصوفي والتسامح الفطري التي كان ولا يزال همها الأول هو تأمين التنمية المتوازنة والاستقرار السياسي من جهة أخرى، لتستطيع ممارسة دورها كحامل لمشعل الحضارة بين الشرق والغرب.

كاتب سوري *