كان تاريخه النضالي الذي يشكل ملحمة يثقل على لقائنا الأول في سجن دمشق ربيع92،لحظة اقترابي منه بادرني وهو يشد بثقل على كفي أهلاً رفيق، أنا عمر قشاش. مهدود ومكلوم معاً ،يقبض على بوصلته بقوة فيها من يقين المؤمن المناضل، أكثر من قلق المحاور الذي تعصف به رياح التحولات التي لم تترك يقيناً يغفو في طمأنينة، كان انهيار التجربة السوفياتية التي لم تستطع التفلت من حتميات لاصقتها رغم كل مهارات و”مواهب” الزعماء الذين قدمتهم بعد رحيل القائد الملحمي للثورة “لينين” غياب شكل هوة عميقة،عن إنتاج أي مقاربة للواقع يشكل منصة لوثبة تتجاوز إستعصاءات فيها من ثقل البنية الإجتماعية الروسية وحركية الشروط العالمية في شقيها البورجوازي والعمالي وحركات التحرر الوطني، حالة لم يستطع حتى ماركسي” متهور” أن يقارب مآلاتها معرفياً، ولم يستطع فقهاء البيروقرطية ردمها ببيادر مؤلفاتهم ذات الأغلفة الأنيقة، ترافق مع سقوط العراقين والبصرتين إيذاناً بتثبت موقع فاعل للإمبريالية تجدد قواها على حساب أعدائها،كنا نركض خلف الحدث كطفل يلاحق الأشياء بكلمات كليلة، لم تتقو على عافية اللغة، ينهشها “الوباء”من كل مأمن، لساننا ثقيل نلوك حصى الحروف لنقول كلمة صحيحة ولا نستطع، نكسر جوز الكلمات وبندقها فلا يخرج لنا اللب، لم نكن موسى لننادي الرب الصاعد من خلف الجبل وأجمات الشوك أنفاث دخان ولهيب، أن شد حبال صوتي وهو صوتك، أن مرر هواؤك في حنجرتي لأقول الحقيقة، كنا شهوداً على هزيمة ارتدت ثوب نصر، رجالات تحولوا من قادة ثوريين “مفترضين” إلى رجالات رجعيين عنصريين، زعماء ينامون رجالات دولة و يستيقظون رجالات مافيا ومؤسسات الدولة هي نواتها الصلبة، بيروقراطيين يشترون المعامل التي أفنى العمال حياتهم في إنشائها بعد أن وسموها بالخاسرة، لم يمنحونا الوقت لنسأل من أين أتيتم بالمال، ولا كيف تتحول المعامل إلى الربح بأسابيع،كسرنا الخجل، من الحديث عن ثمن وتكاليف مهرجان الحرية وموكبها، وكنا نتقدم في هذا الموكب إلى محكمة أمن الدولة،بعد عشر سنوات من الاعتقال العرفي التعسفي، وقررنا أن نحول ساحة المحكمة إلى منبر لفضح الاستبداد والمطالبة بتحقيق البرنامج الديمقراطي للقوى الوطنية، والاستفادة من”ربيع المناخ الديمقراطي قبل عواقب شتاءه” الذي تعلو أناشيده بغنائية استظهارية لدعم مطالبنا ،التي هي مطالب الشعب برمته، لكن الجدران العالية والنوافذ المغلقة، حالت دون وصول الصوت إلينا، وأوصلت بعض أصواتنا إلى فناء غدا خارج الموسم المستدرك، بفتوى عدم ملائمة الديمقراطية لعموم الشعوب، وكان “الحلفاء” الصغار، وهم صغار دوماً، يجهزون عرس البورجوازية والطبقة العاملة، زواج متعة، تستمتع فيه البورجوازية بالطبقة العاملة وحزبها، وكان الضمير ومازال عند هؤلاء الصغار هو المصلحة، المصلحة المفصلة على مقاسهم، وكنا نسأل كيف تجتمع الخيانة الوطنية واللصوصية والاستبدادية والتبعية في حالة
” تقدمية” واحدة ،ومن أين يأتي هؤلاء برخيص الكلمات، كنا في حالة حرب غير متكافئة من أجل الحرية،ومتى تكون الحرب من أجل الحرية متكافئة، لكننا وحدنا، كل صباح نتفقد الأصدقاء ونتأكد من مواقعهم، وحالما يأتي المساء تصلنا الإعتذارات عن الغياب.
وعمر قشاش إعتاد أن يكون سنديانة تضرب في الأرض جذورها وتفرد خضار أغصانها على الأفق، تتغذى بنسغ التواصل الحميم، فتأتيها الطيور وطالبي الظل والأمان، وهي تحتفي بهم غير مكترثة بالفروق بين السنونو واليمام والحدأة والغراب، لا لشيء إلا لأنها شجرة سنديان كريمة، لايفوتها منطق الطير ولاطمأنينة السنديان يراقبها الحطابون، علماء الزراعة الوحيدون، في هذه البلاد، أسير زمن تفلت من صيرورة تعيد تدوين وتحديد الطبقات والشعوب والأمم ،54_58 يومها كان يشم رائحة الحبر الطازج من الجريدة الخارجة للتو من المطبعة لتتلقفها أيدي الشغيلة ويحولونها إلى نداء عمل، حيث التظاهرة رياضة تصقل العضل وتحيي الروح، والروح يومها موارة بالأمل الخارج من لهاث الشعوب وهي تعانق بعض حلمها بتأميم قناة السويس ودحر العدوان الاستعماري وإسترداد ما سرق من الأرض وبناء اقتصاد يشكل بساطاً تطمئن له النفوس وكل ذلك تحت مظلة الديمقراطية البرلمانية….. رسالتك ياعمر يحملها الآن شبان لا تعرفهم وربما لا يعرفوك، لكنها رسالتك، وقدر التاريخ بديمومة رسائله التي لم تبصر تحققها.
حلب أيار 2011