نحو دولة وطنية ديمقراطية ورقة للنقاش .. حزب العمال الثوري العربي

منذ تاسيس حزب العمال الثوري العربي وهو يطرح المسألة الديموقراطية، سواء في كراسه " أزمة الثورة العربية والطريق الى تجاوزها " الصادر عام 1966 ، او من خلال جريدة الحزب المركزية الثورة العربية او من خلال كتابات امينه العام ياسين الحافظ. هذه الدراسة هي للنقاش ومن يرغب ان يناقشها يرجى ان يرسل مساهمة الى الايميل التالي

info@alhadarah.co

وسنقوم بنشرها فور استلامنا للمساهمة

نحو دولة وطنية ديمقراطية

ورقة للنقاش .. (حزب العمال الثوري العربي)

     لا يزال مفهوم الدولة الوطنية الحديثة من أكثر المفاهيم التباساً في فكرنا السياسي، لا بسبب التباسه بمفهوم السلطة فحسب، بل لأسباب أكثر عمقاً تتعلق بالتأخر التاريخي لمجتمع لم يعش تجربة الدولة الحديثة، إلا لماماً، بين عامي 1946 و 1958. فليس مستهجناً وهذه الحال ألا يعنى الفكر السياسي بمسألة الدولة ومسائلها، ولا سيما أن الأحزاب العقائدية العابرة للحدود، كانت على الأغلب، ولا تزال مناهضة للدولة الوطنية، سواء على صعيد الفكر أو على صعيد الممارسة. كما أن البنى والعلاقات ما قبل الوطنية كانت ولا تزال تحول دون تشكل فضاء وطني عام ومشترك بين جميع أفراد المجتمع السوري وبين جميع فئاته الاجتماعية. ومن المؤسف أن تشترك الأحزاب العقائدية، العابرة للحدود، بلا استثناء، والبنى العشائرية والدينية والمذهبية والإثنية في الحيلولة دون تشكل هذا الفضاء العام، ودون الارتقاء إلى حياة أخلاقية لائقة، وإن كان ذلك من مواقع مختلفة، فإن العبرة في النتائج الموضوعية، لا في الأهداف الذاتية والنوايا الحسنة.

     الفضاء العام المشترك بين جميع أفراد المجتمع وفئاته وطبقاته هو الدولة الوطنية الحديثة. ولكن التشارك في فضاء وطني عام لا يتأتى من الإرادة الذاتية لنخبة أو لحزب، بل من شعور أفراد المجتمع المعني بالحاجة إلى هذا الفضاء، الذي ليس بوسع أي فرد أن يعيش خارجه، ومن وعي مثقفيه ونخبته السياسية ضرورة هذا الفضاء العام للانتقال من جماعات طبيعية متحاجزة أو متفاصلة، كالزيت والماء، وتحكم كلاً منها أعراف وتقاليد وشرائع دينية وضعية تعمق خطوط الفصل فيما بينها، إلى مجتمع مدني حديث متدامج وموحد، يحكمه قانون وضعي عام، يضعه المجتمع لنفسه من خلال هيئة تشريعية منتخبة من الشعب انتخاباً صحيحاً. ومن ثم فإن فكرة المجتمع المدني الحديث أو فكرة العقد الاجتماعي الوطني لا تنفصل عن فكرة الدولة الوطنية الحديثة، بل هما، أي المجتمع المدني والدولة الوطنية، حدان جدليان في كلية عينية أو وحدة جدلية. كما أن الديمقراطية، التي غدت شعاراً براقاٌ، مرتبطة أوثق ارتباط وأشده بالدولة الوطنية، إذ الديمقراطية، مفهومة فهماً يتعدى التعريفات المختزلة، هي مضمون الدولة الوطنية، والدولة الوطنية شكلها السياسي وتعبيرها الأخلاقي، وإلا ستظل الديمقراطية مجرد طوبى أو شعار.

     الدولة الوطنية الحديثة فضاء عام مشترك بين جميع أعضائها، أو مجتمع سياسي عمومي هو التتمة الواقعية والمنطقية للمجتمع المدني المفتوح والتواصلي، وهي شخصية اعتبارية، قانونية وأخلاقية، تعيِّن الشخصية القانونية والأخلاقية لكل عضو من أعضائها. (من المعروف أن الأنظمة والتنظيمات الشمولية لا تبلغ تمامها إلا بتدمير الشخصية القانونية للفرد وتجريده من الحقوق التي تغدو امتيازات وهبات تحددها درجة الولاء، ثم بتدمير شخصيته الأخلاقية، فتحوله إلى مجرد تابع وواش، وإلى قاتل أحياناً) ويعرفها الحقوقيون بأنها أرض وشعب وسلطة عامة، ويعرفها الفلاسفة بأنها تجسيد للعقل والأخلاق الموضوعية، وتجريد للمجتمع المدني ولكل فرد من أفراده، وتحديد ذاتي للشعب، وبأنها الحياة الأخلاقية للأمة، لا تتحدد بأي شرط مسبق، دينياً كان هذا الشرط أم مذهبياً أم إثنياً. وهي من أهم منجزات الحداثة السياسية، والإطار الذي يضم جميع منجزات الحداثة الأخرى، العلمية والتقنية والفكرية والأدبية والفنية والأخلاقية. العمومية أو الجمهورية هي صفتها الرئيسة والقانون الوضعي العام ماهيتها وجوهرها.

    الدولة الوطنية تمنح جميع أعضائها بالتساوي هوية وطنية، سورية مثلاً، قوامها الحرية ومبدؤها المساواة؛ فإن عضوية الدولة التي قوامها الحرية ومبدؤها المساواة وغايتها العدالة، فضلاً عن الأمن والسلام والرفاهية، هي التي تجعل من الفرد الطبيعي المسوق بسائق حاجاته ومصالحه ورغباته وأهوائه وميوله ونزواته أيضاً، تجعل منه مواطناً يتعلق بقيم الحق والخير والجمال ومبادئ الحرية والمساواة والعدالة، أي تجعل منه شخصية قانونية وأخلاقية من طبيعة الدولة ذاتها.

     المواطنة مشروطة بالحرية والمساواة شرطاً لازماً، وإلا كانت ضرباً من رعوية قطيعية (نسبة إلى الرعية والقطيع). ولذلك نرى أن حل مشكلة الهوية حلاً جذرياً يكمن في إعادة بناء الوطنية السورية واستعادة الدولة الوطنية، لكي تكف الدولة عن كونها "سماء الشعب"، بتعبير كارل ماركس، وأداة قهر وإكراه، وتغدو تعبيراً عن خصائصه الإنسانية والوطنية ومجال حياته السياسية والأخلاقية. ولما كان لكل فرد منا، على الإطلاق، حياته الخاصة وحياته العامة، فإن العائلة والمجتمع المدني هما مجال حياتنا الخاصة ومجال نشاطنا الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والإبداعي، أي مجال العمل والإنتاج، والدولة مجال حياتنا العامة، السياسية والأخلاقية. هذان الاختلاف والتكامل بين الحياة الخاصة والحياة العامة لكل فرد سوي يعينان الاختلاف والتكامل بين المجتمع المدني والدولة السياسية، الوطنية بالتحديد.

      إن صفة الوطنية، التي نؤكدها هنا صفةً للدولة، تحيل على العمومية وعلى الكلية الاجتماعية، وتحيل على المواطنة بوصفها جملة من العلاقات والروابط الاجتماعية الاقتصادية والثقافية والسياسية والأخلاقية نسجها تطور تاريخي بين أفراد متساوين في الحقوق والواجبات، لأنهم متساوون في عضوية الدولة، وجملة من الحقوق والحريات الفردية والخاصة والعامة والالتزامات والمسؤوليات التي تعينها هذه الحقوق والحريات. فلا حقوق بلا التزامات ولا حرية بلا مسؤولية. فإن أسوأ ما وقعت فيه الأحزاب العقائدية هو اختزال الوطنية إلى حكم قيمة تسبغه على الموالين والمحازبين وتنزعه عن المختلفين والمعارضين.

      الوطنية صفة للدولة تمنحها الدولة لجميع أعضائها بالتساوي، وتسبغها على جميع مؤسساتها، لأن الأفراد في نظر الدولة هم مواطنون فحسب، متساوون في حقوق المواطنة وواجباتها، ولأن مؤسسات الدولة مؤسسات عامة، ولأن سلطة الدولة، أي سلطة القانون، سلطة عامة تسري على جميع أعضاء الدولة بالتساوي، ولأن وظائف الدولة جميعاً هي وظائف اجتماعية عامة. الوطنية كالإنسانية صفة لا تقبل التفاوت والتفاضل، وليست قيمة معيارية تفاضلية، مع أن الانتماء إلى الدولة يلبي، إلى جانب الحاجات المادية الجذرية، حاجة نفسية أو معنوية هي الحاجة إلى الانتماء، وهي أساس الهوية أو وعي الذات.

      الوطنية صفة للدولة ولكل واحد من أعضائها، لا يدركها إلا من ينظر إلى الدولة من خارجها، أما أعضاء الدولة فلا يرون في دولتهم (من الداخل) سوى دولة حق وقانون. سورية، على سبيل المثال دولة وطنية في نظر الأتراك واللبنانيين والعراقيين والأردنيين وغيرهم من مواطني الدول الأخرى، والمواطنون السوريون يعرَّفون ويعرِّفون أنفسهم، خارج سورية، فقط، بأنهم سوريون، وتلكم هي الهوية الوطنية أو وعي الذات: مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات في الداخل، وسوريون في الخارج. السوري يعتز بسوريته ويفخر بها إزاء غير السوريين، لا إزاء السوريين. الهوية الوطنية السورية لا تجب تعيينات الأفراد ولا تنفي صفاتهم وانتماءاتهم الدينية أو المذهبية أو الإثنية، بل تسبغ عليها جميعاً طابعاً وطنياً، وتمنحها مضموناً وطنياً، فتغدو هذه التعيينات والصفات والانتماءات عناصر في الهوية الوطنية، لأن الهوية الحية المليئة هوية مركبة، وقابلة للنمو بنسبة نمو المجتمع وتقدمه.

      القانون، بصفته العامة والمجردة، هو ماهية الدولة وجوهرها، وهو أيضاً من طبيعة الدولة ذاتها. يتجسد القانون في دستور، تضعه، وتقره، هيئة تشريعية أو جمعية تأسيسية منتخبة من الشعب انتخاباً صحيحاً، ويستفتى عليه الشعب بعد طرحه للنقاش العام، وفي مدونة قانونية متوافقة مع الدستور جملة وتفصيلاً، تقر قوانينها الهيئة التشريعية ذاتها. وللهيئة التشريعية وحدها حق تفسير القوانين وتعديلها وتطويرها أو إلغاء ما لم يعد مناسباً لتطور المجتمع منها. وللمحكمة الدستورية العليا وحدها حق الفصل في دستورية القوانين أو عدم دستوريتها. الدستور هو الصيغة الواقعية أو العملية للعقد الاجتماعي، أي تسوية تاريخية بين أفراد أحرار مختلفين وفئات اجتماعية مختلفة ومصالح متعارضة، تعينها نسبة القوى الاجتماعية.

       ويجب أن نلاحظ هنا العلاقة الضرورية بين الحرية والاختلاف وبين المساواة والتفاوت؛ الأفراد أحرار لأنهم مختلفون، ومتساوون في الحقوق والواجبات، لكي لا يمنح التفاوت الاجتماعي امتيازات لشخص دون شخص أو لفئة دون أخرى، الاختلاف والتفاوت هما مما يقتضي وجود عقد اجتماعي أي قانون عام ينزل له جميع الأفراد عن حقوقهم وحريتهم ليكسبوا من ذلك أكثر مما نزلوا عنه، أعني شرعية الحقوق ورسوخ الحريات وكفالة القانون لها جميعاً. العقد الاجتماعي الذي يجسده الدستور هو اعتراف متبادل بالحقوق الطبيعية والمدنية والحريات الأساسية بين أفراد المجتمع وفئاته وطبقاته. ولذلك كانت الدولة التي ماهيتها القانون تجسيداً للعقل والأخلاق وتجسيداً للحرية الموضوعية، وتعبيراً عن الإرادة العامة وتجسيداً لسيادة الأمة.

        ولما كان التأخر التاريخي الناتج من الاستبداد هو النسق الذي يولد الاستبداد المحدث، ويعيد إنتاجه، فلا سبيل إلى قهره ودك حصونه والتحرر من شباكه إلا بتبني نسق الحداثة (الغربية) مبدئياً ونهائياً، بلا تردد ولا مداورة ولا تلفيق ولا تدليس. فإن الحديث عن الدولة الوطنية أو عن المجتمع المدني أو عن الديمقراطية أو عن التغيير الديمقراطي، بمعزل عن نسق الحداثة المفتوح على آفاق كونية، لا يعدو كونه صف كلام، لا تنتج منه أي نتيجة فكرية أو سياسية أو أخلاقية، ولا يفضي إلى شيء سوى التباهي وذر الرماد في العيون.

     ولعل مرد التباس مفهوم الدولة بمفهوم السلطة أو مفهوم "الولاية العامة" السلفي والاستبدادي هو قطع مفهوم الدولة عن نسق الحداثة. فإن ممانعة الحداثة وإهدار ما تحقق من منجزاتها، باسم الأصالة والخصوصية والحفاظ على الهوية هو ما سهل إعادة إنتاج "الدولة" السلطانية، بوصفها ولاية على البشر تستمد مشروعيتها من السماء، والسماء هنا هي الأيديولوجية فحسب، دينية كانت هذه الأيديولوجية أم مذهبية أم "قومية" أم اشتراكية. فإن مسألتي السيادة والشرعية من أهم مسائل الدولة الوطنية، وللحداثة قولها الخاص فيهما. فقد أحلت الحداثة الأمة محل الملك رمزاً للسيادة والوحدة الوطنية ومصدراً للشرعية، وأعادت إنتاج مفهوم الشعب على أنه المواطنون الأحرار أعضاء الدولة المتساوون في الكرامة الإنسانية وفي حقوق المواطنة وواجباتها، وجعلت منه، أي من الشعب، مصدراً لجميع السلطات. وغدا الانتماء إلى الأمة، أي إلى الدولة / الأمة واحترام قوانينها هو أساس المواطنة وقوام الهوية الوطنية، وصار المواطنون يرون في الدولة حصناً منيعاً يحمي حقوقهم ويصون حريتهم وكرامتهم، فيدافعون عنها ويبذلون في سبيل استقلالها وسيادتها وحريتها الغالي والنفيس، وهنا بالضبط يتجلى الجانب الذاتي للوطنية أعني حب الوطن والتعلق به والذود عنه، وصار الدفاع عن القانون نظير الدفاع عن حدود الوطن. فالشعب الذي لا يدافع عن قوانين بلاده لا يدافع عن حدود وطنه. أليس تآكل الدولة الوطنية عندنا وغياب القانون وسيادة الامتيازات وفساد السلطة، التي ضمر طابعها العام أو تلاشى، في أساس هزائمنا المتتالية أمام إسرائيل وأساس عجزنا حتى الساعة عن تحرير الجولان، بالحرب أو بالمفاوضة؟!

       ونعني بالحداثة هنا اعتبار الطبيعة، بوجه عام، والطبيعة الإنسانية، بوجه خاص، مصدراً وحيداً لجميع الحقائق الموضوعية، واعتبار المجتمع مصدراً وحيداً لجميع القيم الذاتية، واعتبار الأمة موطن السيادة ومصدراً وحيداً للشرعية السياسية والأخلاقية، واعتبار الشعب مصدراً لجميع السلطات، واعتبار العمل والإنتاج الاجتماعي، بشقيه المادي والروحي، أساس جميع المعارف الإنسانية، وأساس الهوية الحية، إذ هوية الفرد الفعلية هي ما ينتجه الفرد وما يكتسبه، على الصعيدين المادي والروحي، في الحاضر والراهن، وهوية الأمة الفعلية هي ما تنتجه الأمة وما تكتسبه على الصعيدين المادي والروحي، في الحاضر والراهن، انطلاقاً من العلاقة الأولية التي تؤسس العمل البشري الخلاق، أي العلاقة الجدلية، الديالكتية، بين الذات والموضوع، بوصفها البذرة التي تحمل شجرة الديالكتيك. وليس من إنتاج ممكن خارج إطار المجتمع المدني وليس من هوية سياسية خارج إطار الدولة الوطنية. بل إن المجتمع المدني هو ميدان الإنتاج والاستهلاك والتبادل والتداول، وميدان التنافس وتعارض المصالح وصراع الطبقات، ولذلك وصفه ماركس بأنه المسرح الفعلي أو الواقعي للتاريخ.

        فإذا كان اعتبار الطبيعة مصدراً للحقيقة يقتضي الاهتمام بمناهج العلم الوضعي ومنجزاته وإدماجها في العمل والإنتاج، واعتبار البحث العلمي من أهم مجالات الاستثمار التي يتوقف عليها تقدم المجتمع، فإن اعتبار المجتمع مصدراً لجميع القيم، يقتضي الاهتمام بجميع العلوم الاجتماعية والإنسانية والسياسية ومناهجها لرصد ما طرأ وما يطرأ على مجتمعنا من تحولات، وما ينطوي عليه من إمكانات، لكي يكون للإرادة الذاتية أثر فعال في تحديد اتجاه سيره وتسريع وتائر نموه. ومن هنا تنبع أهمية السياسة بوجه عام وأهمية الأحزاب السياسية بوجه خاص. السياسة إرادة ذاتية لا تتحقق موضوعياً إلا بوحدة الإرادة وموضوعها وغايتها، وهذا ما يستدعي معرفة موضوع الإرادة من جميع وجوهه، أي معرفة قوانين الواقع وشروطه الموضوعية، فلكي يطيعنا الواقع يجب أن نطيعه.

        وإذا استقام للنظر العقلي اعتبار الحداثة أساساً لا غنى عنه فإن منطويات الحداثة ومنجزاتها ينبغي أن تكون هي الموضوعات الرئيسة للفكر والأهداف الرئيسة للسياسة، ولا سيما تلك التي لا تزال ملتبسة في الوعي الاجتماعي وفي الوعي السياسي، كالمجتمع المدني والدولة الوطنية وسيادة الشعب وسيادة القانون وفصل السلطات والتداول السلمي للسلطة .. إلى آخر ما هنالك من منطويات الحداثة ومنجزاتها. وقبل ذلك وبعده، فكرة الحرية وفكرة الحق وفكرة القانون. فلا بد، وهذه الحال، من تعريف الوطنية أو إعادة تعريفها، بدلالة المجتمع المدني والدولة الوطنية الحديثة، ومن ثم نقد الأيديولوجية الإسلامية والأيديولوجية القومية والاشتراكية القومية وكشف ما جرته كل منها على مجتمعنا من ويلات.

        إن فكرة الدولة الوطنية الحديثة يفترض أن تحتل موقعاً مركزياً في الوعي السياسي، وفي الممارسة السياسية، لحسم مسألة الهوية أولاً، وتحديد معنى الوحدة الوطنية، أو الاندماج الوطني، ثانياً، وتعيين العلاقة بين المجتمع المدني والدولة السياسية، بوصفهما حدين جدليين في كلية عينية أو وحدة جدلية، ثالثاً، ولتمييز مفهوم الدولة، بوصفها تجريد المجتمع المدني وتجريد كل فرد من أفراده، وتحديداً ذاتياً للشعب، كما وصفها ماركس، وشخصية اعتبارية لا يجوز أن تتصف بأي من صفات الفرد الطبيعي، أو تخضع لأي شرط مسبق، دينياً كان هذا الشرط أم مذهبياً أم إثنياً أم أيديولوجياً، رابعاً، ولتعريف السلطة العامة بأنها سلطة الدولة أو سلطة القانون، وبلورة مفهوم المواطنة ومعنى المساواة في الحقوق والواجبات خامساً، وإرساء مفاهيم سيادة الشعب وسيادة القانون وفصل السلطات والتداول السلمي للسلطة على أسس راسخة أخيراً. ومن البديهي أن جميع هذه الموضوعات متصلة بفكرة الدولة ونابعة منها، فما لم تكن فكرة الدولة الوطنية في أساس العمل السياسي يمكن لهذا العمل أن يؤدي إلى نتائج غير التي يستهدفها الفاعلون السياسيون. وهذا ما حدث عندنا على مدى نصف قرن.

        ولا يمكن فهم المسائل المشار إليها أعلاه على حقيقتها إلا في ضوء العلاقات الجدلية الآتية:

1 – العلاقة بين الفرد والمجتمع، التي تتعين، في ضوئها، حرية الفرد وحقوق الإنسان والمواطن، في نطاق جدل الوحدة والاختلاف، وحدة المجتمع والدولة واختلاف الأفراد والجماعات وتعارض المصالح وتنافس القوى.

2 – العلاقة بين الحرية الذاتية للفرد والجماعة وبين الحرية الموضوعية التي يجسدها القانون. أو العلاقة بين الحرية والقانون، على اعتبار أن القانون، بمعناه العام والمجرد، هو جوهر الدولة الوطنية الحديثة وماهيتها، من جهة، والتجسيد العملي للحرية الموضوعية، من جهة أخرى، فلا حرية إلا في إطار الدولة الوطنية، بحيث تغدو الحرية الموضوعية خضوعاً للقانون، والحرية الذاتية كفاحاً مدنياً سلمياً متواصلاً، في جميع الميادين، لتحسين القوانين وتطويرها بنسبة تحسن نوعية الحياة ونمو المجتمع وتطوره. العلاقة بين الحرية والقانون تضع العلاقة بين الإرادة الفردية أو الجزئية، التي تتحقق في المجتمع المدني وبين الإرادة العامة التي تمثلها الدولة. الدولة إرادة عامة حاكمة على الإرادات الفردية والإرادات الخاصة.

3 – العلاقة بين المصلحة الخاصة، الفردية والفئوية والطبقية، التي لا تجد تحققها الأمثل إلا في نطاق المجتمع المدني، وبين المصلحة العامة التي تجسدها الدولة. وهنا تتعين مسائل التنمية البشرية والاقتصادية والاستغلال الأمثل للموارد المتاحة، ومسائل النمو والتقدم الأخرى. وما من شك في أن المصلحة الخاصة لا تتحقق على أفضل وجه إلا في نطاق المصلحة العامة، التي تمنحها بعداً اجتماعياً وأخلاقياً. صحيح أن الدولة لا يجب أن تتدخل في النشاط الاقتصادي، على سبيل المثال، ولكنها هي التي تضع القوانين الاقتصادية وتعين الوظائف والمسؤوليات الاجتماعية والأخلاقية لهذا لنشاط. فإن حرية النشاط الاقتصادي تقتضي شبكة أمان قانونية ضد الفقر والعوز والبطالة ونتائج الحروب والكوارث الطبيعية، كالقوانين الضريبية التي توفر الموارد اللازمة لهذه الشبكة.

4- العلاقة بين المجتمع المدني والدولة السياسية، حيث تتعين فكرة السيادة، سيادة الأمة وسيادة الدولة / الأمة، وفكرة الشرعية المستمدة من الشعب بوصفه مصدر جميع السلطات. الفارق المفهومي والواقعي بين المجتمع المدني والدولة السياسية، هو نفسه الفارق المفهومي والواقعي بين الفرد الطبيعي (عضو المجتمع المدني) وبين المواطن (عضو الدولة الوطنية): الأول محدد بجميع تعييناته وصفاته ومحمولاته ومعرف بها، والثاني مجرد من جميع هذه التعيينات والصفات والمحمولات؛ الأول مختلف عن جميع نظرائه، بل عن جميع أعضاء المجتمع المدني الذي قوامه التفاوت والتنافس والتعارض، والثاني متماثل مع جميع أعضاء الدولة التي تقوم على المساواة في الحقوق والواجبات وعلى تكافؤ الفرص.

5- العلاقة بين الدولة الوطنية وبين الديمقراطية، على اعتبار الديمقراطية مضمون الدولة الوطنية وهذه الأخيرة شكلها السياسي وتعبيرها الأخلاقي. وهو ما يكشف عورة ما يسمى "الديمقراطية التوافقية"، التي ليست في نهاية التحليل سوى "حق" الأقوى في فرض إرادته على جميع القوى، وما ذلك إلا لأن العقد الاجتماعي الذي أنتج مثل هذه الديمقراطية الشوهاء عقد بين جماعات دينية ومذهبية وإثنية، كما هي الحال في لبنان والعراق، لا عقد بين مواطنين أحرار متساوين في عضوية الدولة، ما يجعل من هذه "الديمقراطية" هدنة بين حربين أهليتين ونزاعاً خفياً حيناً وظاهراً أحياناً بين هويات تفاضلية، يشير إلى غياب الدولة أو إلى ضعفها وهشاشتها وعجزها عن فرض سيادتها على إقليمها. كما يكشف النقاب أيضاً عما يسمى "الديمقراطية العددية"، التي تختزل الديمقراطية إلى حكم الأكثرية الدينية أو المذهبية أو الإثنية، وإلى مجرد صندوق اقتراع، ناهيك عن "الديمقراطية الشعبية، سيئة الصيت.

6 – العلاقة بين الفكر والأخلاق والسياسة. أو العلاقة بين الثقافة والسياسة. فالراجح، منطقياً وتاريخياً، أن السياسة تتأسس في الثقافة، وتنبع منها، وتنبني عليها، وتستمد منها لا عناصر وجودها فحسب، بل أفكارها ومبادئها وقيمها وتصوراتها الإستراتيجية والعملية أيضاً، ثم تعيد إنتاجها. الثقافة حاضنة السياسة وأساس العنصر الأخلاقي، الذي يفترض أن يلازمها، ولا ينفك عنها، أو تنفك عنه. لأن السياسة، منذ نشوئها، فاعلية جماعية، بل اجتماعية، من المرجح أنها نشأت مع نشوء الملكية الخاصة وتقسيم العمل وتوزيع عوامل الإنتاج، واقترنت بها. وأن جدلها الداخلي كان دوماً، ولا يزال، جدل الحرية والسلطة، ومن هنا تنبع قيمتها وأهميتها وضرورتها.

       الثقافة والسياسة حقلان أو مجالان متعارضان، وحدان جدليان، في كلية عينية، إذا انتفى أحدهما ينتفي الأخر بالضرورة. مجال الثقافة هو مجال الحرية؛ ومجال السياسة هو مجال السلطة، بمعناها العام. لذلك يتحول كل منهما إلى الآخر، وينتفي فيه، في حركة لا تفتر ولا تتوقف ولا تنتهي، لأنهما شكلان من أشكال الوجود الاجتماعي والإنساني، و"التاريخ تنويعة على الأشكال، أو سمفونية متموجة على لحن الشكل ومبدأ التشكل"، بتعبير الياس مرقص.

        لم يكن الاستبداد ممكناً، في أي زمان ومكان، إلا بسيطرة السلطة السياسية على المجال الثقافي سيطرتها على مجالات الإنتاج الاجتماعي، واستتباع المثقفين واستمالتهم أو تهميشهم والتنكيل بهم. بل إن سيطرة السلطة السياسية على مجالات الإنتاج المادية لم تكن ممكنة إلا بعد السيطرة على المجال الثقافي، بوصفه مجالاً روحياً وأخلاقياً عاماً ومشتركاً بين أفراد الجماعة المعنية؛ آية ذلك أن الاستبداد كان دوماً في حاجة إلى سلطة الدين الوضعي، من حيث سيطرة الأخير على عقول الرعايا وضمائرهم. وقد كشف الكواكبي باكراً عن تضامن الاستبداد السياسي والاستبداد الديني. ثمة علاقة ضرورية بين دولة وطنية ديمقراطية وثقافة وطنية ديمقراطية، حديثة وعصرية ومنفتحة على ما هو كوني وإنساني، ما يحتم أن يكون النشاط السياسي عندنا خاصة مقترناً بالنشاط الثقافي اقتران مجالين مختلفين ومستقلين.

7 – العلاقة بين التفاوت والمساواة، وتعريف الأخيرة بأنها تساوي الشروط وتكافؤ الفرص. فإن محاولة السيطرة على الاختلاف وإلغاء الفروق بين الأفراد والجماعات والفئات الاجتماعية، تحت شعار المساواة، أدت إلى السديمية والاختلاط وهدر الحقوق المدنية وأطاحت بمبدأ الجدارة العلمية والمهنية والأخلاقية، فوفرت بذلك الشروط اللازمة لظهور الأنظمة الشمولية (التوتاليتارية). الأفراد متساوون في الكرامة الإنسانية وفي حقوق المواطنة وواجباتها فقط، ومختلفون ومتفاوتون في ما عدا ذلك. الاستبداد وحده يساوي بين الأفراد على أنهم مجردون من الكرامة الإنسانية ومجردون من الحقوق، أي على أنهم لا شيء. من العلاقة الجدلية بين التفاوت والمساواة ينبع مبدأ "الشخص المناسب في المكان المناسب"، ومبدأ المباريات أو المسابقات القائم على أساس تكافؤ الفرص وتساوي الشروط، لاختيار الأكفأ والأجدر للخدمة العامة، ذلك لأن جميع وظائف الدولة وظائف اجتماعية عامة.

8 – العلاقة بين فصل السلطات، التشريعية والتنفيذية والقضائية، وبين استقلال مجالات الحياة الاجتماعية، الاقتصادية والثقافية والسياسية. إذ لا يمكن التوصل إلى فصل السلطات من دون استقلال كل مجال من مجالات الحياة الاجتماعية استقلالاً نسبياً، في نطاق الوحدة الجدلية بين المجتمع المدني والدولة السياسية. نشير هنا بوجه خاص إلى ضرورة استقلال النشاط الاقتصادي عن السلطة التنفيذية، واستقلال المجال الثقافي عنهما معاً.

9 – العلاقة بين الديمقراطية، بوصفها مضمون الدولة والوطنية، وبين العلمانية بوصفها، مضمون الوطنية والصفة الجوهرية للدولة السياسية، التي يحتم عليها طابعها العمومي أن تكون محايدة حياداً إيجابياً إزاء الأديان والمذاهب والإثنيات والطبقات الاجتماعية أيضاً. فلا يمكن نزع الطابع الأيديولوجي عن العلمانية إلا باعتبارها مبدأً من مبادئ المواطنة، هو المساواة في الكرامة الإنسانية وفي الحقوق والواجبات وفي عضوية الأمة أو عضوية الدولة / الأمة، التي لا تستطيع أن تقبل أي نوع من أنواع التمييز بين أعضائها، فلا تستطيع أن تنظر إليهم إلا بصفتهم مواطنين.

10 – العلاقة بين الدولة الوطنية وغيرها من الدول في نطاق المجتمع الدولي والتكتلات الإقليمية، أي العلاقة بين السياسة الداخلية والسياسة الخارجية، إذ يفترض أن الأولى هي التي تحدد الثانية، لا العكس. هنا يحضر بكل قوته مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة، تحت أي ذريعة، ورفض أي تدخل خارجي لأي دولة أجنبية في شؤوننا الداخلية، كما تحضر بكل قوتها ضرورة التزام القانون الدولي والقانون الإنساني، والتزام جميع المواثيق والمعاهدات أو العهود الدولية، وتكييف القوانين الوطنية وفق مقتضياتها.

       الدولة الوطنية عضو في مجتمع الدول، عليها التزام جميع قوانينه ومواثيقه، فإن في هذا الالتزام مصلحة جذرية للدولة ولكل فرد من أفرادها، لا لأنه يوفر لها شروط الأمن والسلام والمشاركة الفعالة في الحياة الدولية فقط، بل لأنه يسهم في تنمية الروح الإنساني والتواصل مع العقل الكوني واعتبار أن قضايا الإنسان في أي مكان، أعني قضايا الأمن والسلام والحرية والرفاهية لا تقل أهمية عن القضايا الوطنية. ولكن التعاطي مع هذه القضايا لا يكون بالتدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة، فليس من حق أحد أن يفرض السعادة على غيره فرضاً، بل بالاندماج في مجتمع الدول. فإن للمجتمع الدولي وحده الحق في التدخل لوقف النزاعات والحروب وحماية الأفراد والجماعات.

       نزاع الهويات الذي يخترق معظم البلدان اليوم، ولا سيما البلدان العربية، ناجم إما عن غياب الدولة وإما عن هشاشتها وضعفها وعدم ثقة المواطنين بها، إزاء القوى المناهضة لها، ولا سيما القوى التي تسمي نفسها "مقاومة إسلامية؛ فسكان هذه البلدان يتوزعون على هويات إثنية وعشائرية وقبلية ودينية ومذهبية وأيديولوجية تميل باستمرار إلى أن تبقى خارج الدولة أو فوق الدولة، وكلها هويات تفاصلية وتفاضلية وأنساق لإنتاج التطرف والعنف. ولا سبيل إلى استئصال جذور هذه النزاعات إلا بتضافر جميع القوى التي ترى لها مصلحة جذرية في الحداثة لإنتاج هوية وطنية جامعة"مستمدة من الدولة الوطنية، لا من أي مصدر آخر.

       فلا يزال التناقض بين التقليد والحداثة، وبين الاستبداد والديمقراطية وبين التبعية والاستقلال يحكم سائر البنى والعلاقات الاجتماعية والسياسية والثقافية، وليس من شأن هذا التناقض أن يرقى إلى جدل أو ديالكتيك، بدلالة تجربة نصف قرن من الزمن، وتجارب عدة لشعوب أخرى، ما يقتضي قطيعة معرفية وفكرية وسياسية وأخلاقية مع التقليد والتبعية والاستبداد، في جميع المجالات، وعلى جميع الصعد، وإنتاج رؤية فكرية سياسية تتمحور على فكرة الدولة الوطنية الحديثة وتنطلق منها، بوصفها أحد ممكنات الواقع. فإن إعادة بناء الوطنية السورية على مبادئ الحرية والعدالة وتكافؤ الفرص وتساوي الأفراد والجماعات، الدينية والمذهبية والإثنية، في الحقوق والواجبات هي المهمة الأساسية على جدول أعمال الأحزاب السياسية والنخب الثقافية، لتلافي احتمالات يبدو الوضع الراهن جيداً جداً مقارنة بها.

       الرؤية الفكرية السياسية التي تتمحور على فكرة الدولة الوطنية هي بالضرورة رؤية وطنية أولاً وديمقراطية مآلاً، فإن الوطنية شرط الديمقراطية اللازم وغير الكافي، مثلما الإنسانوية شرط الوطنية اللازم وغير الكافي. ولا تكون الروية وطنية إلا إذا شملت جميع فئات المجتمع وجميع مجالات الحياة العامة، وإذا افترضنا أن حزباً ما يمثل فئة اجتماعية أو طبقة اجتماعية بعينها، فإن هذا لا يحول دون أن تكون رؤية هذا الحزب وطنية، أي عامة تشمل جميع الفئات الاجتماعية، لأن الفئات الاجتماعية والأحزاب السياسية التي تمثلها إنما تتنافس في الفضاء الوطني على تقديم أفضل ما لديها للمجتمع كله، خلافاً للرؤية الطبقوية الضيقة والحصرية، وبعيداً عن مطلب احتكار السلطة. وعلى هذا الأساس فقط تنبني وحدة السلطة والمعارضة الجدلية، ويغدو التداول السلمي للسلطة أمراً ممكناً.

        تقتضي الرؤية الوطنية الديمقراطية، في أوضاعنا الراهنة، التحرر من الأحكام المسبقة التي راكمتها عقود من القطيعة والتفاصل بين السلطة والمعارضة، وبين أحزاب المعارضة والأحزاب المشاركة في السلطة، وإعادة بناء علاقات الثقة والحوار المفتوح فيما بينها، فليس من المنطقي أن يفكر أحدنا في مشروع وطني ديمقراطي ويستبعد منه الكتلة الأساسية من الجسم السياسي السوري، أو ينتظر سقوط السلطة وانفضاض محازبيها وحلفائها أو سقوطهم معها. وليس من المنطقي أن تتصدى أحزاب وشخصيات معارضة لمشروع "التغيير الوطني الديمقراطي" من دون مشاركة المجتمع المدني وفئات اجتماعية تتوفر على إمكانات التغيير وتملك بعض أدواته. فهل ننتظر مراجعة جذرية للذات المعارضة؟ وهل من تغيير ممكن من دون الانخراط في "وحل" الحياة السياسية، بدءاً من مؤسسات المجتمع المدني، ولا سيما النقابات، وصولاً إلى مؤسسات الدولة. فليس من عمل سياسي منتج إلا في الأطر المدنية، وبالمشاركة النشطة في الانتخابات المحلية والتشريعية.

        لا مفر من الاعتراف بواقع أن جميع الأحزاب القائمة في سورية اليوم أحزاب عقائدية تنتمي إلى الفئات الوسطى، التي أنجزت مشروعها السياسي باستيلائها على السلطة بالقوة عام 1963، إن لم يكن عام 1958، وليس مشروعها السياسي سوى النظام السياسي القائم هنا والآن، والذي يحمل جميع خصائصها، إذا كان للنتائج الواقعية أي قيمة في التحليل. فلا بد من استنطاق هذه الواقعة، في ضوء ما آلت إليه الفئات الوسطى، واستخلاص ما يجب استخلاصه منها، لإصلاح ما يمكن إصلاحه.

        فإذا صح أن النظام السياسي القائم هو نظام الفئات الوسطى السورية فسأغامر بالقول إنه غير قابل للتغيير سلمياً بقوة الفئات الوسطى ذاتها، ولا سيما بعد أن تعرضت أكثريتها للإفقار والتهميش والإحباط، ما يستدعي استبدال مطلب "الإصلاح الديمقراطي" بمطلب "التغيير الديمقراطي" الذي درجنا عليه منذ عام 1980. وأدعي أن مطلب الإصلاح الديمقراطي هو أحد ممكنات الواقع، والمطلب الأكثر عقلانية والأقل استفزازاً والأكثر قبولاً لدى شرائح واسعة من المجتمع. وإن تبنيه يثبت للجميع أن عملية مراجعة الذات ومساءلتها جدية وجذرية، وأن الحزب يتبنى مشروعاً وطنياً يربح منه الجميع.

        وما من شك في أن تبني مطلب الإصلاح بدلاً من مطلب التغيير يفرض استحقاقات نظرية وعملية، قد تكون موجعة وراضَّة للمشاعر، ولكنها تؤهل الحزب للمشاركة العملية في الحياة السياسية، على علاتها. لقد ثبت أن صناعة الأوهام وبيعها لمن يحتاجون إليها صناعة بائرة وتجارة خاسرة، فهل نتعلم من التجربة ونصغي إلى همس التاريخ؟

 

                                                                            جاد الكريم الجباعي