من خصوصيات الكثرة الى هوية الواحد أو متى يكون الشعب السوري “واحدا”؟ بقلم الدكتور بدر الدين عامود

من خصوصيات الكثرة الى هوية الواحد

أو

متى يكون الشعب السوري "واحدا"؟

 بقلم الدكتور بدر الدين عامود 

  

موضوع الشعب ومكوناته أو المجتمع وفئاته ليس جديدا أو طارئا يفرضه حدث عارض على الفكر البشري . ومع أن الأحداث الجسام وما تنذر به من أهوال وتسفر عنها من نتائج كارثية تستحث الجدال حوله فيصير مادة اهتمام العامة والخاصة. إلا أن هذا الجدال لا ينتهي  بانتهاء الحدث ولا يتوقف مع زواله . لقد كان هذا الموضوع ولايزال مشكلة دائمة الحضور بمناحيها المتعددة وجوانبها المتشعبة : الاجتماعية والثقافية والسياسية تلح على المثقفين والسياسيين .

والمهتمون بهذه المشكلة والمعنيون بحلها يعلمون أن طرح هذا الموضوع وتناوله على نحو مناسب يخضعان لقواعد صارمة تتمثل في التطبيق المحكم والدقيق لقوانين ومقولات علمية ومنطقية . ويعلم هؤلاء كذلك انه ؛أي الموضوع المطروح , ينضوي تحت مقولة الكل والاجزاء, الواحد والكثرة ,التجانس والتنوع. فبهذه المقولة تفسر جميع ظواهر الكون بدءا بالذرة وصولا إلى اكبر جرم سماوي. وبها تتم مقاربة ظواهر المجتمع والإنسانية بدءا بالفرد مرورا بالفئة الاجتماعية  فالمجتمع ككل ثم الامة وانتهاء بالبشرية جمعاء .

ومن غير الدخول في مقدمات مع ما تستجره من تفاصيل لأجد ضرورة لها الآن فقد كانت سورية منذ القديم مصدر الأمن الذي ينشده الخائفون والجياع من سكان الأقاليم المجاورة والبعيدة . وعبر الهجرات المتعاقبة على امتداد تاريخها المديد شهدت حضارات كانت تزدهر بفضل التفاعل الثقافي الايجابي بين مكوناتها المتنوعة  التي كان عددها يتزايد ونشاطها يعمق شعورها بالانتماء إليها مع مرور الزمن .

وسورية باعتبارها مهدا لبعض الديانات القديمة والسماوية في وقت لاحق وامتدادا جغرافيا وثقافيا وروحيا لبعضها الآخر كانت مدنها مراكز ثقافية وتنويرية ودعوية لعديد الطوائف والفرق الدينية عبر آلاف السنين دون أن يؤثر ذلك سلبا في العيش المشترك  والتفاهم والانسجام بين سكانها وفي الاحترام المتبادل بين الطوائف والمذاهب المختلفة , وفي حرية كل منها في معتقده وأفكاره وممارسة طقوسه وشعائره .

ويعرض التاريخ محاولات الأجنبي إثارة الفتن بين مكونات الشعب السوري عن طريق تأجيج الخلافات الطائفية والمذهبية بشكل خاص وإخفاق مساعيه بسبب وعي أبناء هذا الشعب الذي كان يتجلى في إصرارهم على التسامح والمحبة والتعاون فيما بينهم وقناعتهم بان مصلحتهم جميعا إنما تكمن أولا وأخيرا في وحدة الوطن والشعب.

اليوم ثمة أكثر من خمسة وثلاثين مكونا اثنيا ودينيا وطائفيا وقبليا للشعب السوري. فهل في هذا التعدد غنى للجميع وفي هذه الكثرة فائدة للكل ؟ جوابنا لا ونعم . !!

ولئن كنا نؤثر ترتيب الإجابة على هذا النحو فما ذلك إلا لأننا أردنا أن نشير عبر ذلك إلى شروط حياة الشعب ( المجتمع) والقوانين التي تنتظم حركته وطبيعة العلاقة بين الكل وأجزائه من جهة ، وبين الأجزاء بعضها ببعض من جهة ثانية .

إذ أن بمعرفة هذه الشروط وتلك القوانين تتحدد وجهة الكل وحركته وموقع كلّ جزء منه ودرجة إسهامه فيهما . وبحدود معرفتنا المتواضعة فإن البشرية التي تدّعي بعض الدول تمثيل تطلعاتها المدنية المتقدمة في المساواة والعدالة وحقوق الإنسان مازالت ترزح تحت أثقال التقسيمات " القبلية" وتنوء بكلكل شرائع الغاب التي تخلع عليها تلك الدول لبوساً حضارياً تزهو به المؤسسات الدولية والإقليمية وما يصدر عنها من مواثيق وقوانين .

والمتابع اليوم يعلم ما وصلت إليه تلك الدول في مدارج احترام الإنسان ورفعة شأنه . ومع ذلك فإن وسائل الاتصال والمعرفة تحمل له أخبار المظالم التي تمس فئات اجتماعية وبعضاً من مكونات شعوبها وما تثيره لدى أفراد هذه الفئات وممثلي تلك المكونات من مشاعر القلق والإحباط تدفعهم إلى الاحتجاج والرفض والسّلبيّة كآليات يدافعون بها عن هويتهم وخصوصيتهم ، ويؤكدون عن طريقها تمايزهم وضرورة مراعاته بكلّ مشتملاته كحقيقة من غير الإنصاف التغاضي عنها أو تناسيها .

وإذا كان هذا الموقف السلبي لجماعة عرقية أو قومية أو دينية تجاه الحركة الاجتماعية في الدول الديمقراطية والمدنية التي قطعت شوطاً هاماً في مجال حقوق الإنسان والمساواة بين مكونات المجتمع ردّاً على قانون أو إجراء يحدّ من حرية أفراد تلك الجماعة ويخلّ في المساواة بينها وبين الجماعات الأخرى ، فكيف هو المشهد في دول الفساد والإفساد حيث نظم الطغيان والاستبداد ؟ . إنّه لأمر يثير كلّ ما هو سلبي من مشاعر وانفعالات لدى الإنسان حينما يتابع حركة المنظرين المثقفين وهم يلهثون خلف أعقاب السياسيين في هذه الدول ويتولون – بتكليف أو دون تكليف – مهمة تجميل وتسويغ أفعال أولياء نعمهم وأقوالهم ووضعها في  إطار أيديولوجي منّمق وجاهز . ومن هذا المنظور يتراءى لهم أن البلد بخير والناس بخير والوطن حر والشعب سعيد بجميع مكوناته وثقافاته المتعددة .

لا أعتقد أن وطناً سلبت واحتلت أجزاء منه هو وطن حر ومواطنوه سعداء والناس فيه بخير . واعتقد أن وطناً لا يسمع فيه إلا صوت واحد وخطاب واحد على الجميع أن يردده ويكون صدىً له هو وطن يفتقر إلى أبسط أشكال التعددية واحترام الآخر .

وبالتالي فإن أي حديث عن إيجابية تعدد مكونات هذا الشعب وتنوعها هو الوهم الذي تعمل حاشية السلطان على زرعه في عقول الناس والسراب الذي تحاول الإيحاء بوجوده كواحدةٍ من مزايا نفوذية الصوت وصوابية الخطاب .

لا أعتقد أن وطناً لا يعترف فيه إلا بمن يردد الخطاب بكل ما يملكه من جوارح ويكون صدى للصوت بقدرٍ أكبر من الحماسة بينما يستبعد صاحب الكفاءة والمهارة ويهمش فيه الحر الكريم هو وطن لا ينشغل المتسلطون فيه وعليه أبداً بما من شأنه توظيف تنوع فئات الشعب لتوفير شروط النهوض مادام هذا النهوض لا يقع ضمن دائرة اهتماماتهم.

إنني مع من سبقني إلى تناول هذا الموضوع الحيوي والأساسي في حياة  الشعوب أرى أن تعدد المكونات الديمغرافية للشعب لا يعني ولا يقود بالضرورة إلى زيادة نتاج هذا الشعب في ميادين الحياة المختلفة كما وتحسينه نوعاً ، ومع يقيني بأن أي شعب مهما تكن مكوناته يختزن طاقة روحية جبارة . ولكن هذه الطاقة لا تتحول إلى فعل بشري بنّاء ولا تدخل حيّز التأثير الايجابي ما لم يدرك من نختزنها بأن ذاك الفعل يسهم في خدمة صبواته وتحقيق تطلعاته وان هذا التأثير يتجسّم في واقعٍ محسوسٍ على صعيد رقيه الإنساني الشامل والمتكامل وتعزيز ثقته بحاضره وبمستقبل الأجيال القادمة .

إن الشرط الأساس للنهوض الاجتماعي والارتقاء بالانسان عبر التشديد على قيمه الوجودية في الحرية والكرامة والعمل والاستقرار والأمن والرفاه يتمثل بالمشاركة الفعّالة لكافة المكونات الاثنية والدينية والطائفية للشعب ولجميع التجمعات السياسية والثقافية والاجتماعية التي تضم مجموعات وشرائح ذات تطلعات متجانسة دون تهميش أو إقصاء لأيّ منها والمساواة بين أفرادها عن طريق توفير الفرص المتكافئة أمامهم دونما تمييز أو تفريق وتقويم ما يقومون به من مهمات وواجبات وفقاً لمعايير موضوعية واحدة وواضحة ودقيقة .

الثراء الثقافي للمجتمع ، بل والتقدم الاجتماعي بعامة ، هو نتاج تفعيل ما هو كامن في الكل ( الشعب) من قوةٍ على الفعل المبدع والخلاق ، والتاريخ يعلمنا أن لا سبيل إلى ذلك سوى إحساس جميع ممثلي مكونات الشعب وفئاته بكرامتهم وحريتهم وقيمتهم كبشر . فليس ثمة مصدر لطاقة الإنسان والشعب بوجه عام أكثر ثراء وديمومة من شعوره بقيمته وبأهميته بالنسبة للآخرين بقدر أهميتهم بالنسبة له ، وإحساسه بحريته وكرامته ممّا يمنح انتماءه  إليهم أبعاداً خلقية ومدنية وإنسانية ، ويعزز عنده نزعة التواصل معهم والإسهام بخبراته وإمكانياته في تأمين حاجاتهم المادية والروحية .

في هذا الزمان ومع التطور المتسارع للوعي الاجتماعي والفردي وانعكاساته في النصوص القانونية والمعايير الخلقية على وجه الخصوص ينبغي تهيئة الشروط البيئو-ثقافية والسياسية التي تقتضيها عملية شحن الطاقة الخلاقة والمبدعة للشعب وتفعيلها وتوجيهها لخدمة مشروع يقظته ونهوضه . ذلكم لأن هذا المشروع الذي طالما حلم به أسلافنا ومازال جيلنا يرنو إليه  بحماس وشغف ليس مجرّد أفكار فقط ، بل إنه فعل إنساني جماعي مركب متكامل وشامل . ولئن بذل مفكرون كثر في وطننا العربي جهداً كبيراً لوضع محددات هذا المشروع ومضامينه ، وعرض كلّ منهم أفكاره وتصوراته بشأنه ، فإن هذا الجهد الذي نجل ونحترم بقي في حدود الإنشاءات النظرية ، ولم يجد لدى أهل الحل والعقد من أنظمة الاستبداد والديكتاتورية أية أصداء أو مرتسمات له على أرض الواقع .

وحالما تتوافر تلك الشروط يمكننا الحديث بكثير من الموضوعية المقترنة بالثقة والتفاؤل عن ثراء التنوع العرقي والديني والطائفي للشعب . وفي هذا السبيل فإن الخطوة يجب أن تجسدها صياغة عقد اجتماعي يشارك فيها ممثلون عن كافة أطياف المجتمع دون إغفال أو إقصاء من أي نوع لأحد. وفي هذا العقد يجب أن يتم التأكيد على المساواة بين جميع أفراد الشعب بصرف النظر عن انتمائهم السياسي والقومي والديني والطائفي والجنسي ، والأخذ بمبدأ الكفاءة والنزاهة والعطاء كمعيار للتمييز بين المواطنين ووضع المناسب منهم في الموقع المناسب واعتبار حرية المعتقد والفكر والرأي والتعبير والتّجمع حقاً لهم لا يمكن اقتطاعه أو تجزئته

أو المساس به .

وإذا كان على ميثاق التعايش المشترك بين فئات الشعب ومكوناته أن يبرز هذه المساحة الواسعة من حقوق المواطنين أفراداً و جماعاتٍ ، فإن على هؤلاء أن يدركوا أن انتظام نبض هذا التعايش واستمراره محكومان باحترام حدود تلك المساحة ويعني ذلك أن الانتماء إلى حزب سياسي أو جماعة قومية أو طائفية يجب ألا يذهب بصاحبه إلى حدّ التعصب والتطرف واستبعاد الآخر . فالموضوعية التي يقتضيها العيش المشترك تحتم عليه الاعتراف بأن حزبه ليس هو الحزب الأمثل ، وأن أفكاره ليست مما يمكن النظر إليها كحقيقة مطلقة ، وأن معتقدات جماعته القومية أو الطائفية وممارساتها ليست هي الأفضل والأكمل . فأيّة جماعة إسلامية يمكنها الآن أن تدعي تمثيلها دون سواها لقيم الإسلام وروحه؟

وأية جماعة يسارية بمقدورها الزعم بأنها الوحيدة التي تمثل مبادئ اليسار وتتمثل قيمه وتحيط بجميع أهدافه ؟

لك أن تختار الحزب والجمعية والجماعة التي تشاء . ولك الحق في الدفاع عن اختيارك وموقفك . ولكن عليك أن تعلم أن للآخر حريته في الاختيار أيضاً ، وأن له الحق في الدفاع عن اختياره وموقفه . فكما أنه الآخر – بالنسبة لك- فأنت الآخر –بالنسبة له- ومثلما ترغب في أن يصغي إليك عليك أن تمنحه فرصة التعبير عن نفسه بالإصغاء له. ولعلّ أخطر ما نعانيه اليوم هو ادعاء كلّ طرف منا بالمعرفة الموسوعية ، وبأنّه وحده الذي يمتلك الحقيقة مع أنّه يجهل ما يمتلكه الطرف الآخر منها.

ومن المسلمات أنّه ما من أحد في هذا العالم أيّاً يكن موقعه وعلمه ، يملك الحقيقة الكاملة . فما يملكه أحدنا ليس سوى جانب من الحقيقة يزيد هنا وينقص هناك تبعاً للزاوية التي يتفاعل منها الإنسان مع العالم.

دعونا نقترب من بعضنا البعض أكثر ، وأن يتحاور بعضنا مع بعض دون قلق أو خوف . ليعرف بعضنا بعضاً بصورة أشمل وأعمق . فمثل هذه المعرفة تولد الشعور بالإخاء والتوادد والتعاون والمحبة، وتزيل آثام الجفوة والظنّ والتعصب الأعمى .