زخر الكثير من الكتب التاريخية والسياسية بتعاريف مختلفة للثورة أجمعت في أغلبيتها على أن الثورة هي لحظة (تغيير) كامل لواقع شاذ لم يلب متطلبات الشعب، بطرق مختلفة أكثرها شيوعاً ” تغيير أنظمة الحكم بواسطة القوة “.
فالثورة هي حدث خاص طارئ ولحظي في نشأته ينشد تغييراً تجلى عبر حوادث التاريخ بأنه يهدف أساساً لتغيير نظام حكم. ولا بد للحكم على هذه البدهية من الولوج إلى تاريخ الثورات واستقراء بعض الملاحظات حولها.
– لقد تزايد قيام الثورات، منذ قيام الثورتين الأمريكية (1765- 1775)، والفرنسية (1789- 1795)، بإطراد لافت حتى وقتنا هذا مروراً بستينيات وسبعينيات وتسعينيات القرن الماضي.
– بدأ تيار الثورات الكبرى في التاريخ الحديث في بلاد كانت تؤسس لتفاعلات رئيسية في الحضارة الغربية (أمريكا الشمالية – فرنسا)، ثم ما لبث أن اتجه هذا التيار نحو الشرق، ممهداً لقيام الثورة البلشفية في روسيا (1917)، وثورة أتاتورك في تركيا (1923)، وثورة الجيش الأحمر في الصين (1946- 1949)، وبعدها بدأ طوفان الثورات يغمر دول افريقية وأمريكا اللاتينية وبعض دول الاتحاد السوفياتي السابق ودول أوروبا الشرقية ثم بعض الدول العربية.
تشير الملاحظتان السابقتان إلى أن الثورات، والتي هدفت في الأصل إلى تغيير أنظمة الحكم، قامت في بلاد متطورة نسبياً، ثم سارت إلى بلاد أقل تقدماً، ومنها إلى بلاد أكثر تخلفاً، لتصل في مرحلة ما إلى ختام أو نهاية عصر الثورات عبر التاريخ مع نيل شعوب العالم المختلفة كامل حقوقها الإنسانية، في العدالة والمساواة والمواطنة.
وقد راهن الكثيرون على انتهاء عصر الثورات مع سقوط الاتحاد السوفياتي واستقلال دوله، غافلين عن حقيقة مهمة وهي أنه طالما بقي الخلل في التوازنات بين عناصر المجتمع، وانعدمت الأسس المدنية الحضارية للحكومات في التعامل مع شعوبها، وتهيأت القوة الدافعة، فلا بد من قيام الثورات لتغيير تلك الحالة.
من المفارقات الغريبة التي رافقت قيام الثورة السورية، هي الاتهامات التي وجهت إليها، ابتداء من تسميتها ( كثورة ) وانتهاء بسلوكياتها وردود أفعالها الصحيح منها والخاطئ، وكأنها لم تملك كل مقومات الثورة من تهيئة للقوة الدافعة وأسباب نشوء، علماً أنها كانت الأكثر امتلاكاً لمقومات الثورات عبر التاريخ. ومن المفارقة الغريبة أن يسمى انقلاباً عسكرياً ( ثورة الثامن من آذار 1963)، ثورة يحتفى بذكرى قيامها سنوياً. وتسمى انتفاضة شعبية ضد الفساد والفقر والاستبداد ( ثورة 15 آذار )، فورة ناتجة عن تآمر كوني على سوريا، بعيداً عن كل مظاهر التخلف والفساد وهلاك الطبقة الوسطى التي تمثل العمود الفقري للمجتمع. والغريب أن منتقدي سلوك الثوار يظنون أن الثورات آلات ميكانيكية لها كتالوكات تحتوي على مواصفات فنية لا يجب أن تتجاوزها، أو دستور يجب أن يتبع في ممارسة سلوكياتها، وكل ما يخالف تلك المواصفات والدساتير هو ليس ثورة، متجاهلين أن الثورة في واقع الأمر هي حالة انفعالية ليس لها أي ضابط أو قانون لدرجة أن المؤرخين يختلفون كثيراً حول ما يشوب الثورات من سلبيات.
لقد وصف المؤرخ الفرنسي ( جول ميشيل ) الثورة الفرنسية بأنها ثورة شعب بكامله ضد الفقر والحرمان والظلم. بينما نرى الكاتب الفرنسي ( اليكسي توكفيل ) يتفق مع ميشيل في أهداف الثورة ولكنه يقول : ” الحقيقة أن المخططين للثورة الفرنسية كانوا أكثر تحضراً وثقافة في فرنسا. ولكن القائمين بها كانوا أكثر الناس همجية ووقاحة” ومع ذلك سماها ثورة ولم يقل عنها فورة أو إرهابيين أو روبسبيريين أو دانتييين وما شابه ذلك من الأوصاف الكثيرة التي تعبر عن عدم فهم عميق لماهية الثورات وعبثيتها.
يقول المؤرخ ( جول ميشيل ) في معرض وصفه لعشية يوم الثالث عشر من تموز عام ( 1789 ):
” كان سجن الباستيل رمزاً للطغيان الملكي في فرنسا وحكاية من حكايات الظلم والقهر والتعذيب، و كان حفرة ذاب في غياهبها أجساد واختفى في أعماقها كل من تفوه بالحرية أو بالنقد أو حتى بالعلم. في تلك الليلة كان الشعب المشحون بالذعر والخوف، المحقون بدم الحقد المغلي، قد بات سيلاً من جمر متأجج، حمماً تحرق أمامها الأخضر واليابس، ولم تعد هناك أي قوة قادرة على صد الجحيم المتدفق. كان حراس السجن (يقصد الباستيل) يرون لهيب الحرائق والمشاعل تتوجه صوبهم، فصعد مدير السجن ( لونييه ) إلى أحد الأبراج ليراقب بنفسه هذا السعير القادم من أحشاء المدينة، فأوعز لجنوده بعدم التصدي للمتظاهرين وقال لهم ” افتحوا الأبواب وليدخلوا آمنين ” وعلى الرغم من ذلك تحتم على الحراس المواجهة، لأن الطرف الثاني لم يقبل الهدنة ونشبت المعركة وتناثرت الجثث وسقطت من أعلى الأسوار، والقي القبض على مدير السجن، وقطع رأسه بعد أن تناولته الأيدي باللكم والركل وقطع رأسه، ونصب على رمح وطاف المتظاهرون به في المدينة، التي أصبحت مسرحاً لا يحتل خشبته، سوى الشعب الحاقد والذي قدم أول مسرحية مأساوية في حياة الملكية الفرنسية “
هي صورة عن همجية أول يوم في سقوط الباستيل، والتي استمرت عبر شهور وسنوات، راح ضحيتها خمسون ألف قتيل وأزهقت أرواح أبرياء وعلماء وحتى منظري الثورة أمثال روبسبيير ودانتون، لأنها ثورة لا تعرف قوانين، وقيود لسلوكها، وعبثيتها والذين قاموا بها لم يكونوا يعرفون التوكسيدو وربطة العنق ولمعة الحذاء، بل تعرفوا عن كثب على الظلم والتمييز الطبقي والفقر والفساد والاستبداد.
ما نراه اليوم في سوريا وساحاتها الوطنية هو بداية تحول سياسي جذري لمفاهيم قديمة مؤطرة بقيم الحكم الشمولي العاجز، مع انفتاح الحدود على الاقتصاد والاتصالات والمعلومات، عن الإمساك بخيوط الحركة وتغيرات الذهنية في المجتمع والدولة معاً، لقد أفقد هذا الانفتاح السلطات الحاكمة دورها التقليدي بشكل متسارع في أن تكون المحور الذي يدور حوله كل شيء، ويحدد مجال حركة كل شيء. وإذا بقينا نحلل الأحداث من منظور سلطوي ذاتي بحت (المؤامرة الكونية) فلن نفهم حقيقة العالم وما يجري حولنا، ولن نستطيع أبداً فهم النتائج الكبرى للتغيرات التي ستأتي بلا شك، فلنمجد من نشاء ولنهلل لمن نشاء ولنذم من نشاء، ولكن كل ذلك يجب أن لا يحجبنا عن الرؤية النقية لحقائق تاريخية ومجريات الأحداث، إذا افترضنا أننا متحضرين ونعيش في عالم متحضر.
نقلا عن موقغ سيريا نيوز