بعد مرور حوالي ثمانية عشر شهراً على انطلاقة الثورة السورية، لا شك أن الطريق قد ضاقت أمام النظام، إلا أنه بحكم طبيعته وبنيته سيستمر حتى النهاية في خياره ومقولاته، ولن يتراجع عنها، فضلاً عن أنه لا يمتلك القدرة والارادة اللازمين لحل سياسي يحقق مصلحة البلد والشعب. بالمقابل يمكن القول أن المعارضة المسلحة قد تقدمت على الأرض، لكن لم يحدث إنجاز حقيقي في مستوى المعارضة السياسية التي تحولت تدريجياً لتصبح عبئاً على الثورة لا نصيراً وداعماً لها. خيار المعارضة المسلحة هو بالضرورة رهن الدول الداعمة، وهذه الأخيرة رهينة الموقف الأمريكي الغامض والمتردد من حيث ازدياد مستوى الدعم أو محاصرته. أما المعارضة السياسية فإنها لا زالت تائهة ومشتتة ولا تبعث على الطمأنينة، إن كان في نفوس السوريين أو على المستوى الدولي.
خيار النظام واضح ومحدد منذ اليوم الأول للثورة، ولم يتغير، ولن يتغير، ولا يستطيع أن يغيره حتى لو توافرت الإرادة في لحظة ما، لأن التغيير هنا معادل لموت النظام. بالتالي كل المبادرات التي طرحت، أو يمكن أن تطرح، لا تخدم إلا التشويش وكسب الوقت.
لكن خيارات النظام تحتاج إلى خطة دائمة التجدد استناداً للظروف والتوازنات المتغيرة، فكيف يفكر النظام، وما هي مرتكزات خطته اليوم سياسياً وإعلامياً واقتصادياً وعسكرياً؟ هذا السؤال يفترض أن يحظى باهتمام كل المتنطعين لتمثيل الثورة بدلاً من التهافت على المناصب وممارسة السياسة على الطريقة السبحانية، حيث لا خطة ولا آليات ولا وحدة مسار ولا بوصلة للتحرك والفعل.
فالنظام لا زال يعتقد أنه يستطيع في المآل إخضاع الثورة وإعادة البلد إلى سابق عهدها، وبعدها يقوم حسب مزاجه بتقديم رتوشات تجميلية تُظهره أنه صاحب رؤية إصلاحية، وأن الثورة لم تكن إلا تخريباً ومؤامرة، ليتفرغ بعدها لترميم ووصل علاقاته الخارجية التي تقطَّعت.
كان النظام واعياً لعدة نقاط في التعامل مع الحراك الشعبي منذ البداية، فقد سعى لمنعه من تحقيق التواصل بين أجزائه ومكوِّناته في كل مدينة، كي لا تكون هناك إمكانية لتشكيل تمثيل حقيقي للثورة. وكان يرى أن التواصل الافتراضي لا يمكن له في المحصلة إلا أن يكون افتراضياً تشوبه الكثير من العيوب، وفي هذا السياق سعى للتخلص من النشطاء المدنيين الذين حملوا شعارات هذه الثورة في الأشهر الأولى من أجل ترك الشارع الثائر دون بوصلة أو توجهات واضحة. كما كان متيقناً أنه قد سحق قوى المعارضة السياسية خلال العقود الثلاثة المنصرمة، بما يجعل أداءها هزيلاً ومثيراً للشفقة. وبالتالي ستكون الحصيلة بقاء الثورة دون قيادة سياسية موحدة تطرح مشروعاً وطنياً جامعاً.
كان واضحاً أيضاً منذ البداية أن النظام لن يعترف بأن ما يحدث في سورية هو ثورة، لأن هذا ببساطة ينزع “شرعيته” المزعومة، لذلك اعتمد خطاباً إعلامياً يقوم أساساً على تشويه الحراك الشعبي، من حيث توصيفه بالمؤامرة والسلفية والتطرف. لقد عمل النظام على إسباغ سمات الحركة الإخوانية على الحراك السوري منذ البداية، وقد ساعده الإخوان المسلمون بشكل غير مباشر في ذلك، عبر تصدرهم للفضائيات بحكم علاقاتهم الخارجية الواسعة، وامتلاكهم للمال الذي سمح لهم بالاستئثار بالمواقع الأساسية في مجالس وهيئات المعارضة، رغم تواجدهم الضعيف كغيرهم في الداخل السوري. كما تلقى النظام مساعدة أخرى من بعض الأصوات الطائفية والثأرية التي لم تكن لتمتلك أي رصيد شعبي لولا العنف المقنَّع طائفياً من قبل النظام، ويمكن القول أن بعض الأصوات المعارضة الطائفية قد قدمت له فائدة كبيرة تفوق قناة الدنيا أضعافاً مضاعفة.
ويظهر واقعياً أن النظام أسند لمواليه ومحازبيه العمل استناداً للقاعدة: “تصرفوا بشكل طائفي كي تدفعوا الآخرين للرد بشكل طائفي، ومن ثم تكون النتيجة انفضاض بقية المجتمع عن الثورة وأصحابها”. يضاف إلى ذلك سعي النظام الحثيث لكسر تفوق الثورة الأخلاقي عليه، عبر دفع المعارضين لارتكاب الجرائم ولو بالحدود الدنيا، فهذا يفيده في تشويه صورة الثورة، ويعينه على تشكيل رأي عام في الداخل والخارج يستند إلى تفضيل بقاء النظام طالما أن الطرفين يرتكبان الجرائم ومتساويان في الرذيلة. كما يعينه ذلك على الإفلات من إطار المحاسبة القانونية طالما أن الجريمة أصبحت معممة والجميع تلوثت أياديهم بها. وللأسف يساعده في ذلك بعض المنفعلين بحكم ما ذاقوه من قتل وتدمير على يد قواته ومواليه، فقد ساهم عنف النظام الذي تجاوز جميع الخطوط الحمر، والطابع الطائفي المغلِّف لهذا العنف في ظهور ردات فعل لدى بعض الشرائح التي اندرجت في لعبة النظام بحكم الألم والدم والقهر. كما قام النظام بإطلاق سراح الكثير من الجنائيين الذين استفادوا من واقع الفوضى وساهموا في محطات كثيرة في تشويه صورة الحراك الشعبي.
وكان من ركائز النظام أيضاً وضع خيار تحويل البلد إلى خرابة وإشاعة الفوضى أمام السوريين، ونشر هذا في إعلامه وممارساته، واتضح جلياً في شعارات على شاكلة: “الأسد أو نحرق البلد”، “الأسد أو لا أحد”. وبالطبع هذا عنصر أساسي في تفسير الموقف الصامت أو الحيادي للكثيرين في المجتمع السوري، فالتخوف من الفوضى والحرب الأهلية وحالة عدم الاستقرار يشكل العنصر الأبرز في تردد كتل واسعة إزاء المساهمة في الحراك الشعبي، رغم عدم ثقتها بالنظام وتقييمها له كنظام استبدادي وفاسد.
ويمكن أيضاً اليوم استكشاف أن النظام يعمل واقعياً على إظهار أن سقوطه سيؤدي إلى تقسيم سورية إلى دويلات، خاصة عندما سحب قواته من المناطق ذات الأكثرية الكردية، مشجعاً بذلك بعض الأطراف الكردية على الاستيلاء على المراكز الحكومية في المنطقة، وهو الأمر الذي أثار حفيظة الأطراف الأخرى من المعارضة، وسيخلق حساسيات معيقة للثورة إن لم يتم تدارك الأمر ومعالجته.
في الجانب العسكري سيسعى النظام على الدوام إلى إحكام قبضته وسيطرته على دمشق تماماً، لأن ذلك يساعده في استعادة جزء من الهيبة المفتقدة لدى محازبيه وأنصاره، فدمشق هي مركز هيبة النظام ولا يمكنه التهاون فيها. لكنه بالمقابل سيعمل على أن يكون حاضراً من الناحية العسكرية في جميع المدن والبلدات. وفي هذه الأثناء يقوم النظام وحلفاؤه بتضخيم قوة الجيش السوري الحر، وإظهاره كجيش نظامي مدعوم بالعتاد والمال من قبل دول عدة، وتساعده في ذلك بعض الاستعراضات التي يقوم بها بعض عناصر هذا الجيش، إلى جانب محاولات بعض ممن يسمون أنفسهم “معارضين” بكيل المديح على الدوام للجيش الحر وتضخيم “انتصاراته” في سعي مبتذل للحصول على الانتماء للانتصارات التي يحققها هذا الجيش، ويساعدهم في ذلك الإعلام العربي، خاصة قناتي الجزيرة والعربية، حتى غدت أخبار الثورة مقتصرة على أخبار الجيش الحر، ليكون بذلك أمام النظام المبرر الكافي لدك المدن وحصارها وتوسيع دائرة القتل، طالما أنه في مواجهة جيش بهذه القوة.
الأهم من ذلك كله، أن هذا التضخيم لقوة الجيش الحر يساهم تدريجياً في اختزال قوة الثورة السورية في أذهان الرأي العام، في الداخل والخارج، إلى قوة الجيش الحر، فإذا ما استطاع النظام إخراج الجيش الحر من حلب مثلاً، فإن ذلك سيترك انطباعاً بانكسار الثورة وبالتالي خلق حالة من الإحباط لدى أنصارها. إن الحكمة تقتضي، على أقل تقدير، عدم اختزال الثورة بالجيش الحر، فهذا ظلم شديد للثورة من جهة، وخطر كبير على أهدافها الحقيقية واستمراريتها. كما تتطلب الحصافة أيضاً استمرار النظر للجيش الحر على أنه كان طريقاً إجبارياً ولم يكن خياراً مبدئياً للثورة، إلى جانب ضرورة الحرص على عدم تضخيم قدراته وانتصاراته، وعلى الحذر من طغيان خطاب العسكرة على الخطاب السياسي والمدني.
كما ينبغي عدم نسيان أن للنظام خبرة هائلة في لبنان، فقد أمضى ثلاثة عقود يدير الخلافات والنزاعات والحروب بمختلف صنوفها وأشكالها، وبالتالي فهو يمتلك الاستعداد النفسي والعسكري للاستمرار بالطريقة ذاتها في سورية ردحاً طويلاً من الزمن، خاصة أنه لا يكترث لأرواح من يقتلون سواء من أهل الثورة أو من الحياديين أو من الجيش النظامي أو الأجهزة الأمنية.
أما على الصعيد الدولي، فتتركز خطة النظام على القبول اللفظي بالمبادرات السياسية طالما لا تؤدي لسقوطه أو تشترط تغيير رموزه، فهذه المبادرات توفر له غطاء دولياً للتمادي عملياً في عملياته العسكرية من جهة، وتقدِّم لروسيا والصين وإيران فرصة دائمة للمناورة على المستوى الدولي بما يخدم عدم تغيير الوضع في سورية. وليس من الغريب أن يكون ثمن هذه التغطية وعود لروسيا والصين وإيران بالحصول على كل عقود إعادة البناء بعد القضاء على الثورة حسبما يعتقد النظام.
وإذا ضاقت خيارات البقاء في لحظة معينة، يمكن للنظام أن يوسِّع دائرة الأزمة إلى البلدان المجاورة، ويهدِّد جدياً بفرض حالة معمَّمة من الفوضى، كأن يسعى – مع شركائه السياسيين كإيران وحزب الله – لزعزعة الأوضاع الهشة في لبنان والعراق، أو في دول الخليج، أو على الحدود مع تركيا، وليلعب في المآل لعبة مقايضة مساعدته في إحداث الاستقرار مقابل بقائه واستمراريته.
هل يمكن إنشاء مسارات أخرى للواقع غير تلك التي يسعى النظام السوري لرسمها؟ باعتقادي نعم. لكن هذا يحتاج قبل كل شيء إلى التفكير الجدي ورسم الخطط والاستراتيجيات ووضع الاحتمالات الأسوأ كمنطلق في المواجهة بدلاً من التسكع السياسي واستعراض البطولات على الفضائيات.