ياسين الحافظ تجربة الأمس لليوم
الفضل شلق
أن تأتي الشهادة بالبعد النظري والعملي لياسين الحافظ، مِن مَن أختلف مع ياسين الحافظ من خلال مسيرة حزب العمال الثوري العربي من الفضل شلق، معنى ذلك ان ياسين الحافظ كان ذو بعد يتحقق الكثير من ما قاله وكتبه اليوم. كان ياسين اول من نعى الزغم القومي العربي الذي كان يتراجع لصالح دول البترودولار، وهو أول من أستعمل هذا التعبير. كان بوحيه والياس مرقص وجورج طرابيشي، يرون في الديموقراطية المنقذ الوحيد للمنطقة العربية وهو ما أقره كراس “ أزمة الثورة العربية والطريق الى تجاوزها“، وكان هاجسه الثاني مسألة الوعي لدى الشعوب العربية. أتذكر مرة قلت له ” انك يا ابا هيثم تقدم مسألة الوعي على مسألة التنظيم” أجاب ” اعطيني شعباً واعياً أعطيك افضل تنظيم بل أكثر من تنظيم”. وبالفعل لو كان لدى معارضتنا اليوم الوعي الكافي لتصدرت ثورة أطفال درعا السلمية، ولكن لا وعي لديهم. كتب الدكتور عبد الرزاق عيد في كتابه عن ياسين الحافظ، بأنه عرف قيمة ياسين الحافظ بأنه عندما كان يتحدث في ستينات وسبعينات القرن العشرين بمقولات لم يتحدث فيها الكثيرون الا في نهايات القرن العشرين.
كان لياسين الحافظ هاجس أخر الثقافة كوسيلة لنشر الوعي، حيث ساهمت برامجه الثقافية التي كان يضعها للحزب بتوعيتنا، ونحن هنا مدينين له بهذه الثقافة، وكذلك كل المثقفين العرب من خلال برنامج النشر الذي وضعه لدار الحقيقة التي أسسها واختار لها افضل الكتب، وبقيت كذلك حتى خانه صاحب دار الحقيقة رياض رعد، وبعدها خانه المرض الذي ابعده عنا ليرحل من هذا العالم وهو في عز عطائه الفكري وهو الذي فهم الواقع العربي ولاعقلانية السياسة العربية.
ترى لو كان ياسين في هذه الايام ماذا كان سيقول؟ فهو ليس بالضرورة ان يقول لان ما قاله في حياته يحدث منه الكثير، فهو كان يخاف التأخر ويركز على أهمية الحداثة، ولكنه كان من الممكن ان يقول بأن سياسة المعارضة السورية هي أيضا لا عقلانية في مواجتها للاعقلانية السياسة للأنظمة العربية.
بهنان يامين
رئيس تحرير موقع الحضارة
***************
تاريخ المقال: 24-10-2014
هل كانت مصادفة أن ياسين الحافظ توفي في العام 1979؟ العام الذي حدثت فيه التحوّلات المفصلية في الوطن العربي والعالم الإسلامي: جهيمان العتيبي في مكة، الثورة الإسلامية في إيران؛ احتلال الاتحاد السوفياتي أفغانستان؛ توقيع كامب ديفيد؛ آخر الانقلابات العسكرية في تركيا والتمهيد لتجارب التعبئة الإسلامية التي انتهت أردوغان وحزب العدالة والتنمية، العام الذي سبق شن الحرب العراقية على إيران، العالم الذي كشّرت فيه الرأسمالية عن أنيابها وبدأت النيوليبرالية الهادفة إلى تصغير حجم الدولة، إلخ…
جاء ياسين الحافظ من الشيوعية إلى البعث في الخمسينيات لكنه بقي ماركسياً. لم يشعر بالاطمئنان الفكري هنا أو هناك. ساهم في المؤتمر القومي السادس للبعث سنة 1963، في الانشقاق وتأسيس «البعث اليساري» الذي تطور في ما بعد إلى «حزب العمال الثوري العربي». بقي قلقاً رغم ما يبدو على كتاباته من تأكّد. كان عندما يكتب كأنه ينحت في الصخر، بعكس رفيق عمره الياس مرقص الذي كان يكتب بقلم سيّال.
كان ياسين يقول دائماً: ليست إسرائيل هي التي تنتصر، بل العرب ينهزمون. أدرك مبكراً معنى الهزيمة. ولم يتوصل إلى هذا الإدراك لولا الانتماء العميق إلى الأمة العربية والإيمان بقضاياها والالتزام النهائي بالعمل لإخراجها ممّا هي فيه.
في هذا الأمر كان كمن يسبح ضد التيار، إذ كانت الانتصاروية المتواكبة مع صعود المقاومة الفلسطينية في الستينيات والسبعينيات هي التي استولت على عقول الناس. عندما كان الآخرون يدعون للكفاح الشعبي المسلح، كان هو ورفاقه يدعون إلى إلزام الدول العربية بالقضية وبناء الجيوش لا الميليشيات لمواجهة إسرائيل، وعندما كان الآخرون يعتبرون قضية فلسطين قضية فلسطينية كان يعتبرها قضية عربية وأن العرب جميعاً ملتزمون بها، ولا يجوز بالتالي اعتبار الدول العربية في حلّ من التزاماتها؛ وعندما طرحت مبادرة رودجرز في 1969 أيّد عبد الناصر في قبولها برغم معارضة كل اليسار الآخر؛ وعندما جاء انقلاب حافظ الأسد فاوض الانقلاب رغم أنه منذ الانشقاق في 1964 عزف وحزبه عن المشاركة في الانقلابات العسكرية.
أدرك مبكراً معنى الدولة وضرورتها. الدول هي التي تحرّر فلسطين بحرب هجومية، وعلى الدول العربية أن لا تتنصل من التزاماتها. المقاومة الشعبية حرب دفاعية، وهي لا تحرّر فلسطين. كان واقعياً في تحليله للدولة، ومطالبه منها، كما لم يكن الآخرون. كان وحدوياً ناصرياً، لكنه أدرك كيانية الأقطار العربية. في العام 1974 دفع القيادة القومية لحزبه من أجل تبني مبدأ الاستقلال الذاتي للأكراد. وعندما نشبت الحرب الأهلية في لبنان نصح رفاقه أن لا ينخرطوا فيها برغم ما كان يقال عن «الامتيازات» المسيحية. كان يعتبر الامتيازات نتيجة التقدم النسبي على المسلمين وليست مؤامرة؛ على كل حال فإن بناء الامتيازات خير من الحرب الأهلية. وكان يرى الحرب الأهلية آتية إلى سوريا، وكان يخاف من ذلك خوفاً عظيماً.
هاجسه الأساسي كان إخراج الأمة من التخلف إلى الحداثة. كان يرى رجعية مفهوم الأمة ما لم يقترن الأمر بالحداثة. ليست الأمة رجعية بطبيعتها ولا الحداثة مستعصية على الأمة بماهيتها. ليست الأمة جوهراً يتجلى بين الحين والآخر ويهبط من السماء ليجعل من المناضلين أشباه مشايخ. وكان يرى مشايخ الماركسية والبعث أسوأ من المشايخ المعمّمين، أو لا يقلّون عنهم انغلاقاً. في سبيل انفتاح الوعي ترجم كتابات عبد الله العروي، واعتبر أن القطيعة مع التراث المعرفي هي المقدمة الحقيقية للحداثة، والحداثة ضرورة من أجل الخروج من الهزيمة، ورأى في الحداثة الفرق بين انتصار الثورة الفيتنامية وهزيمة الثورة العربية.
واقعية الاعتراف بالهزيمة، هزيمة الأمة والمجتمع، هي التي دفعته إلى محاولة بناء جسر بين الأمة والحداثة. فهم أن التخلّف، الذي هو نقيض الحداثة، هو سبب استمرار التبعية للإمبريالية؛ وهو سبب الهيمنة الإيديولوجية والسياسية. لا معنى لحداثة إذا لم نصنعها نحن. رفض حداثة تقليد الغرب، وطالب بحداثة مبنية على العمل والانفتاح والتنمية، ورفض الحداثة الكوزموبوليتية؛ فهذه تساوي بين التناقضات ولا تعترف بتمايزاتها، وتنتهي إلى الإقرار بوجود إسرائيل. اعترف بالهزيمة ورفض التسليم بها.
ركّز على مسألة الوعي، الوعي الحديث، الوعي بالواقع، كي لا تنزلق القوى الثورية في متاهات لا تعرف نهاياتها: علينا أن نفهم ما يؤول إليه كل شعار، بتحليله وتفكيك معانيه حتى لا تنتهي إلى نتائج غير مقصودة. كان «حزب العمال» مضرب المثل، لدى اليساريين الآخرين، بأنه مجموعة مثقفين، بسبب هذا التركيز على مسألة الوعي. كان يتحدث عن الوعي المطابق: دون مطابقة الوعي للظروف الموضوعية ستكون الشعارات مجرد رغبات أكثر منها أدوات عمل وممارسة.
كان وحدوياً يرى في انفصال سوريا عن مصر عام 1961 نكسة كبرى للأمة، وذلك من منظور أن الدولة كيان لا يجوز التلاعب به. الذين ساروا على درب الانفصال في ذلك الحين، يشبهون الإخوان المسلمين اليوم، حين تلاعبوا بالدولة في مصر وتونس لصالح مفهوم الأمة. الدولة كيان شرعي وقانوني، أما الأمة فهي ماهية وانتماء، أو عند البعض مفهوم إيديولوجي. في تقديم الثانية على الأولى إعطاء للرغبات أولوية على الوقائع والظروف الموضوعية. الدولة شرط لما عداها، ولا توضع عليها شروط؛ كما فعل الانفصاليون آنذاك.
يمكننا اليوم الاستفادة من تجربة ياسين الحافظ وأفكاره التي عرضها بشكل منهجي شديد الدقة والمجموعة في خمسة مجلدات، عدا عن المقالات العديدة. الأمة ماهية، وجود ينتمي إليه العربي باللغة والعمل الدؤوب، الدولة كيان ضروري، ولا بد من أخذ الخصوصيات القطرية بالاعتبار، ممّا يدفع إلى تبني الفيدرالية لا المركزية الشديدة التي هي عادة من سمات الاستبداد؛ الحداثة كما يصنعها أبناؤها لا كما يقدمها لهم الغرب كوزموبوليتياً؛ الثورة عمل يبدأ بالوعي أي على الصعيد الثقافي أولاً؛ الحرية بالسعي والإنتاج والتنمية، الالتزام بالقضية لا على أنها فاشلة إذا لم تتحقق اليوم أو غداً، ففي ذلك نوع من الانتهازية؛ الوحدة العربية من دون المفاهيم القومية المأخوذة من حثالة الفكر الغربي.
عاش صاحب قضية. اختطفه الموت في سن مبكرة. كان يقول عندما أقعده المرض: عندما نضجت يدي، سقط قلمي. الرؤية التي جاء بها تستحق منا كل دراسة وعناية في هذه الأيام.
كان منذ أربعين عاماً يحدثنا عن أشياء نراها تحدث الآن.