حازم صاغيّة
“حتّى لا يحصل ما حصل في العراق”: عبارة باتت دارجة في الأدبيّات السياسيّة المتداولة، كان النظام السوريّ أوّل وأكثر من درّجها بهدف استبعاد التغيير وتنفير السوريّين منه.
وفوق صحن النظام السوريّ، رُشّت توابل الممانعة اليساريّة التي تقول إنّها ضدّ صدّام إلاّ أنّها ضدّ تغييره طالما كان التغيير على أيدي الأميركيّين. وما دام العراقيّون لم ينجحوا في تغييره منذ 1968 فالمعنى الفعليّ أنّ هؤلاء «النقّاد»… ضدّ تغيير صدّام.
هذه الحجّة تكاد تكتسب صفة الحقيقة البديهيّة حتّى أنّ ضحاياها والمتضرّرين منها يلجأون إلى الصمت حين تُشهر في وجوههم. كيف لا وأميركا، الشيطان الرجيم المعاصر، هي المعنيّة بالأمر؟
منطق التخويف بالتجربة العراقيّة، كائناً ما كان مصدره، ربّما آن الأوان لمراجعته.
صحيح أنّ عراق ما بعد 2003 قصّة فشل معلن، وهذا ما يصعب الدفاع عنه وإن اختلف تأويل أسبابه. لكنّ عراق ما بعد صدّام يبقى، على رداءته، أفضل من عراق صدّام حتّى على مستوى الموت وأعداد الضحايا. ففضلاً عن القمع الذي بلغ ذروته في قصف حلبجة بالسلاح الكيماويّ، وعن الاستبعاد الذي بلغ أوجه مع طرد كتل من السكّان بذريعة «أصولها الإيرانيّة»، نتذكّر أنّ صدّام خاض حرباً مع إيران كلّفت مليون قتيل عراقيّ وإيرانيّ، كما غزا الكويت بما استجلب حرباً لتحريرها كلّفت هي الأخرى نحو مئة ألف قتيل ودماراً اقتصاديّاً هائلاً. هذا إذا نسينا حصّته من المسؤوليّة عن الحرب الثالثة التي تأدّى عنها سقوطه ومن ثمّ إعدامه.
العراقيّون، إلى ذلك، صار في وسعهم أن يعبّروا من خلال تأسيس الصحف والتلفزيونات وإنشاء الأحزاب وخوض الانتخابات على أصعدة عدّة. كما صار بلدهم يتمتّع بثروة منظورة قابلة للرصد والتعيين والتوظيف.
لقد صار أهل بلاد الرافدين، للمرّة الأولى، مسؤولين عن أنفسهم وعن بلدهم. وهنا يكمن موضوع المواضيع، من دون تبرئة الأميركيّين والعرب والإيرانيّين، وكلّهم يتقاسمون بالطبع حصصاً من المسؤوليّة. فالحرّيّة التي تحقّقت لهم أعيد تدويرها في صراعات الهويّة والدين والمذهب. والثروة التي غدت في المتناول أُهدر الكثير منها في الفساد والمحاصصة…
بمعنى آخر، ليس التردّي الراهن ناجماً إلاّ عَرَضيّاً عن التغيير، أكان من الخارج أم من الداخل. إنّه ناجم عن هلهلة النسيج الوطنيّ الذي زادته سنوات حكم صدّام هلهلة. وتجاهل هذه الحقيقة وإرجاعها إلى الغير لا يعكسان فقط ضعف روح المسؤوليّة الذاتيّة والافتقار إلى الشجاعة المطلوبة لمواجهة الذات، بل ينمّان أيضاً عن محافظة عميقة تأبى التغيير القائم، لابسةً لبوس الجذريّة المطلقة في طلب التغيير المستحيل.
ومن يدري فقد يستقرّ العراقيّون، وقد امتلكوا، من حيث المبدأ، الحرّيّة والمسؤوليّة، على تجديد وحدتهم الوطنيّة، وقد يستقرّون، في المقابل، على حروب مفتوحة تستدعي لوقفها إعادة النظر في صيغة التعايش الراهنة، وبالتالي في الخريطة ذاتها. وفي الحالات جميعاً، سيكون على العراقيّين أن يمضوا في تحمّل المسؤوليّة عن أنفسهم ومصائرهم وبلدهم. وهذا بذاته كافٍ للقول إنّ العراق بلا صدام أفضل، وكذلك العالم. هذا ما ينبغي قوله بأعلى الصوت.