عصر الخامس والعشرين من آب/أغسطس، كنت أتحدث مع كريم عبر الشات، كريم ناشط في أوائل عشرينياته، يقطن في منطقة بساتين داريا في بيت عربي (غير طابقي)، لا قبو فيه ولا ملجأ.
كدت أسمع صوت صراخه وهو يكتب: “سقط الصارووووووووخ.. على بيت جيراننا. يا الله… يا الله.” أصبح كريم “اوف لاين” وانتظرت ثلاثة أيام كي أتمكن من الحديث معه من جديد لأحصل على شهادته من بين شهادات عديدة حول المجزرة التي كسرت قلوبنا في مدينة السلام، داريا.
داريا كانت نجماً ساطعا قبل الثورة، ونجماً أثناءها. ما بناه شباب وصبايا المدينة، اقتضى منهم جهداً هائلاً أسفر عن نموذج مصغر لسوريا المستقبل التي نحلم بها. لم يتوقف حراك المدينة عن إدهاشنا لحظة. في داريا كان المتظاهرون أول من حمل الورود والماء للجيش الذي أمعن في قتلهم. في داريا فقط، جرى توزيع هدايا العيد لأطفال الشبيحة أسوة بأطفال الشهداء. في داريا بقيت عبارات المواطنة وشعارات التعايش ترفع حتى عندما كان البلد كله يسقط في براثن اليأس بعد كل مجزرة جديدة.
يقول كريم: “مع ازدياد كثافة الصواريخ والقذائف حولنا، هربت مع آخرين والتجأنا في قبو لدى أقاربنا. كان الجيش الحر منتشراً في المنطقة التي التجأنا إليها. وجيش النظام يبعد عنا مع دباباته نحو مئتي متر. إنقضى النهار باشتباكات كبيرة وقصف عنيف جداً حيث كنا.
علمت في تلك الأثناء أن جيش النظام داهم المنطقة التي كنت فيها، ومن ضمنها منزلنا. وأنه في طريقه إلينا هنا. أثناء الليل، كانت قناصة النظام تطلق النار على أي شيء متحرك، وكان النزوح مستحيلاً حتى لو رغبنا بذلك. داريا كانت تتلقى القذائف المجنونة وكنت أحسها في قلبي، قذيفة تلو قذيفة. “
في داريا فقط، إحتفظ الحراك النسائي بوجوده قوياً متميزاً ومتألقاً. في داريا كانت ترفع لافتات تطالب بالعدالة، لا بالإنتقام؛ بالمحاكمة لا بالثأر. هناك كان أجمل السوريين يؤسسون لما هو أبعد من إسقاط النظام، وما هو أبعد من ثورة.
يتابع كريم: “صباح اليوم التالي نزح عدد من العائلات، وعادت أصوات القصف العنيف بشدة. استمر الوضع على هذا الحال حتى الظهيرة، ومن يتمكن من الأهالي يحمل ما استطاع وينزح عن المنطقة، بعضهم أصيب أمام البناء الذي كنا فيه أثناء نزوحهم. حتى أصبحت وحدي تماما وسط القذائف والقناصات.” في تلك اللحظة قررت أن أغادر المكان، فأنا على الحالتين ميت، هكذا فكرت. ركبت سيارتي وسط الدخان والركام، وانطلقت إلى مركز داريا حيث المكان آمن نسبيا.
أثناء مشواري القصير، شاهدت ثلاثة عناصر من الجيش الحر في إحدى الحارات يحاولون الإختباء، وستة آخرين يقفون في مكان أقرب إلى مركز المدينة. بعد قليل، سقطت قذيفة على مكان تجمع العناصر الستة. وجاءني صديقي يخبرني أنه ذهب لإسعافهم، لكن الصاروخ إياه، قضى عليهم جميعاً.
“بدأت القذائف تقترب من مكان وجودي شيئاً فشيئاً، حتى أصبحت على بعد بنائين مني. كانت الشظايا تتطاير وتضيء كالجمرات لسخونتها. وكنت أسلي نفسي بانتظار أن تبرد لكي أجمعها.”
داريا الحراك المدني والسلمي، منذ ما قبل الثورة بسنوات، قاومت العسكرة طويلاً قبل أن تصبح أمراً واقعاً. وعندما حصل ذلك، كانت من المناطق القليلة جداً التي لم تستطع العسكرة النيل من نشاط المنطقة وخطاب المدني. داريا التي قام النظام بتجريف بساتين الصبار حولها منذ أسابيع، وجرف معها ذكريات وقلوب أبناء المنطقة.
كريم: “عندما انتصف النهار، جاءني صديق من الجيش الحر، كان يبكي، وقد ترك سلاحه، أخبرني أنه لم يعد يستطيع… القصف لايمكن تخيله… معظم رفاقه استشهدوا في القصف، لايمكن المقاومة أكثر من ذلك.“ بقيت تلك الليلة في شقة أصدقاء في المنطقة نفسها. خلال هذه الليلة انسحب الجيش الحر من المدينة وأصدر بيانا بذلك. كانت قوات النظام تحيط بكامل المدينة، وقليل جداً منها قد دخل إلى بعض مناطقها.
صباح اليوم التالي، كان جيش النظام قد تمركز في شارع واحد في داريا، ونشر قناصاته فيه. قررت وقتها أن أنزح عن المدينة مع عائلة صديق، لأن الإقتحام النهائي بات قريباً جداً.
السابعة والربع صباحاً، جاءت سيارة عائلة أخرى اتفقنا على النزوح معها. كانت وجوههم كالحة وصفراء جدا. سألت أحدهم: خير عمي ماذا بك؟ أخبرني أنه رأى شخصاً مقتولاً عند التربة، وآخر في سيارته، وآخر على الأرض، وأن أي أحد يمر من تلك المنطقة تطلق عليه قناصات النظام رصاصاً كثيراً جداً. وجعلني أشاهد الرصاصتين اللتين أصابتا سيارته واحدة في الباب الخلفي والثانية بالقرب من خزان الوقود.
“عندها قررنا أن النزوح أكثر صعوبة من البقاء. قناصة النظام تمنع أي أحد من الخروج من المدينة. وتستهدف أي أحد يتحرك.”
عندما كنا نتلقى الأخبار في مكتبنا الإعلامي حول ضحايا القصف والجثث الملقاة في الشوارع، كنا في حالة دهشة وذهول. داريا إبنتنا المدللة، وإذا كان غياث مطر الذي قدم الورود إلى الجيش قتل بدم بارد، فربما أن المدينة التي قدمت أيقونة ومثالاً للثورة، ستذبح هي أيضاً.
“عدنا أدراجنا،” يقول كريم.” وبعد قليل، جاء صديق وأخبرني أن أربعة أشخاص أعدموا ميدانيا في منطقة التربة. جاء آخر وقال إن جيش النظام يخرج الرجال من الملاجئ ويعدمهم على الجدران رشاً. وأننا يجب أن نحذر الجميع للخروج من الملاجئ.”
ثم وصل صديق آخر ليخبرنا أن جامع أبو سليمان حصلت فيه مجزرة. لم أصدق الخبر. لم أصدق أياً من الأخبار. حتى مضت ساعة أخرى وصلت فيها قوات النظام إلى الحارة المجاورة، وأخرجت خمسة أشخاص من ملجأ البناء وأعدمتهم، ثم توجهوا إلى الساحة القريبة، قاموا بمسيرة مؤيدة. جاء التلفزيون السوري وصور. ثم صمت صوت المسيرة. وعاد صوت الرصاص الكثيف.
جاءت صديقة وأخبرتنا أن عائلة نمورة، الأخوة والزوجة والأولاد، جرى إعدامهم. وهكذا قضينا بقية اليوم في تلقي أنباء الإعدامات من حارة إلى أخرى، لانعلم متى يحين دورنا.
صباح اليوم التالي نحو الساعة السابعة، جاءني صديقي وأخبرني أننا سنذهب إلى جامع أبو سليمان. على الطريق كان الوضع مأساوياً. منازل بأكملها سويت بالأرض. سيارات دهستها الدبابات بمن فيها ولا تزال بقايا أصحابها داخلها. على بعد 300 متر من المسجد، كانت رائحة الموت تفوح بشدة. وصلت، وكان المسجد مكتظاً بالناس، بالجثث. 123 جثة أحصيناها. كانت هناك طفلة صغيرة عمرها نحو اثنتي عشر سنة. طفل صغير عمره نحو ثلاث سنوات، وثلاثة اطفال رضع. كانوا مقتولين برصاص في رأسهم. الأطفال الرضع ليست لديهم جمجمة. مجرد قشرة رقيقة هي الجلد، اخترقها الرصاص وأخفى معالم وجوههم.
في المساء، عاد الجيش إلى حارتنا، وبدأ بتحطيم المحال التجارية وسرقة ونهب محتوياتها. وكنا حتى ذلك الوقت لانزال نتلقى الأخبار عن عشرين جثة هنا، وثلاثين هناك…”
بعد المجزرة بأربع وعشرين ساعة، كنت أتحدث مع إحدى صبايا داريا. ولا أزال أشعر بالذهول والانكسار. باغتتني الصبية بالقول: “كل ما بنيناه خلال سنة وسبعة أشهر، هدموه في ساعات قليلة. نحو 300 شهيد، وخراب عميم. ولا وقت للنحيب، والمجازر تتنقل كالأرواح الشريرة من مدينة إلى أخرى. تباغتني الصبية من جديد بالقول: “لن نستسلم للموت، سنقوم من جديد. الو… هنا سوريا.”