حياد الأكراد ونزاع عرب العراق
جيرار شاليان
آلت الأمور في العراق الى طريق مسدود، ساهم فيه نوري المالكي. فهو همّش السنّة تهميشاً منظماً، ولم ينجُ من مقصلة التهميش من مدّ له يد العون منهم. وأقصى كوادر الشيعة الذين يخالفونه الرأي، ولم يُقِل المالكي جنرالين شيعيين انسحبا من الموصل من غير قتال. ولا يرمي الأكراد الى إطاحة «الخلافة» أو اقتلاعها، بل الى ضمان أمن اقليمهم. وسيوقفون مد الجهاديين لكنهم لن يتدخلوا في نزاع عرب العراق السنّة والشيعة، ولا مصلحة لهم في مثل هذا التدخل. وثمة فائدة ترتجى من أداء دور الحَكَم الحيادي بين الطرفين، ومد الأكراد بالسلاح لن يتأخر. فالرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند ناقش المسألة ونظيره الأميركي باراك أوباما قرر مدهم بالسلاح من غير العودة الى الكونغرس، وكل من لا يرغب في تمدد الجهاديين، حريٌّ به مدّ اليد الى الأكراد.
الظروف مواتية اليوم للأكراد. فهم جنوا ثمار حملات التدخل الأميركية في العراق عام 1991، إثر قمع صدام حسين لهم، وفي 2003. ولكن هل ثمة فائدة من إعلانهم دولة مستقلة لا تعترف بها الولايات المتحدة التي ترغب في تماسك الدولة العراقية وتعايش السنّة والشيعة والاكراد؟ ولا تريد إيران بروز مثل هذه الدولة المستقلة، وتساند مناوئين للاستقلال وأكراد «الاتحاد الوطني الكردستاني»، حزب جلال طالباني الذي تدعمه. وقد تعترف تركيا باستقلال كردستان العراق، فتصير الدولة الكردية هذه في مصاف جمهورية قبرص الشمالية التي اقتصر الاعتراف الدولي بها على أنقرة. واستقلال كردستان العراق يبعث ولاية البصرة التي ضمتها بريطانيا الى بغداد والبصرة لدى تشكيل العراق، وطالبت تركيا الكمالية باستعادتها بين 1923 و1925 في عصبة الأمم. صيغة «الخلافة» التي تقترحها «الدولة الإسلامية» ضعيفة الصلة بالواقع. وتمدد هذه الدولة السريع في شمال العراق وغربه لا يرجح حظوظها في البقاء. فثمة قوى في سورية والعراق مناوئة لها: الدولة العلوية» جبهة النصرة» الموالية لـ «القاعدة» (ولا يخفى ان أيمن الظواهري يرغب في «اختفاء» الخليفة أبو بكر البغدادي) و «الجيش السوري الحر» الذي تدعمه أميركا أكثر فأكثر، و «الجبهة الإسلامية» وتنظيمات أخرى من جهة، وشيعة العراق وأكراده من جهة أخرى. وإعلان «الخلافة» هو مرآة انتشاء بنصر ليس أكثر من جولة أولى في القتال، أو فصل أول من فصول المعركة. وهو يرمي الى تجنيد الجهاديين من اصقاع العالم الإسلامي.
وإيران وثيقة الصلة بهذا النزاع الذي تعود جذوره الى عقود مضت. وهي مستهدفة، فغداة الأزمة النفطية الأولى (1973-1974)، نُفخ في حركة تسليح المقاتلين المسلمين من الصحراء الأفريقية الكبرى إلى إندونيسيا. وفي 1979، زعمت إيران الشيعية انها أول دولة إسلامية رائدة في الثورة على الإمبريالية، وهذا ما لم تستسغه دول المنطقة. ونُظِّمت حركة جهاد سنّية في أفغانستان، إثر الاجتياح السوفياتي، ورقعة المواجهة كبيرة، فحلفاء إيران منتشرون في العراق وسورية ولبنان.
أما أنقرة فهي يسّرت عبور الملتحقين بالجهاد والمقاتلين، وسعت في تقويض قوة أكراد سورية المتحالفين، على نحو متفاوت، مع «حزب العمال الكردستاني» في تركيا. ولم تقم وزناً للأخطار المترتبة على خيارها، وأدركت، أخيراً، أن جهاديين أتراكاً يقصدون سورية للقتال. ويحتجز «الخليفة» موظفي القنصلية التركية رهائن، واتخذ من القنصلية مقراً له. والموقف التركي يعود القرار فيه الى الرئيس الجديد (رجب طيب أردوغان) الذي يرغب في الارتقاء «بطل» القضية الفلسطينية والقضية الإسلامية ومناصرة الناطقين بالتركية.
الكلام على خطر «الاخطبوط الإسلامي» يشيع القلق في أوروبا، كأن عودة عدد ضئيل من المقاتلين الجهاديين الى القارة الأوروبية سيهدد استقرارها، ولا شك في ان أوروبا قادرة على مواجهتهم. لكن ما يثير القلق الفعلي هو مسائل داخلية أوروبية: الأزمة الاقتصادية المتناسلة الفصول منذ أزمة النفط الثانية والمتجددة قبل نحو عقد، وبروز اليمين المتطرف، والجو المشحون الذي ينفخ فيه اضطراب منطقة الشرق الأوسط (سورية والعراق وغزة) فتؤدي أي حادثة تنتهي الى وفاة أحدهم، الى شغب في بعض أوساط شباب الضواحي. وهذه أبرز مشكلات الجمهورية الفرنسية. والإسلام ليس الحل في هذا المعرض، بل ان السبيل المفضي الى الحل هو التنمية الاقتصادية والتعليم، وهذا يصح، كذلك، في الصين والهند وتركيا.
* خبير في النزاعات المسلحة، عن «لوفيغارو» الفرنسية، 13/8/2014، إعداد منال نحاس