اربعة بابوات ونصف قرن من تاريخ الكنيسة الكاثوليكية بقلم بهنان يامين

اربعة بابوات ونصف قرن من تاريخ الكنيسة الكاثوليكية

بقلم بهنان يامين

    عام 1958 كان عاما حاسما بالنسبة للكنيسة الكاثوليكية، يومها طوت الكنيسة الكاثوليكية صفحة من صفحات جمودها العقائدي بموت البابا بيوس الثاني عشر، لتدفع حركة تجديد لازالت مستمرة ومتواصلة منذ اكثر من نصف قرن من الزمن، بانتخاب مجلس الكرادلة الكاردينال رونكالي، بابا على الكنيسة الكاثوليكية. يومها اعتقد الكرادلة بان انتخابهم هذا الكاردينال العجوز سيكون مرحلة انتقالية ريثما يعملون على انتخاب كاردينال آخر في حال وفاة هذا الاخير. ظنهم خاب فلقد كان هذا الكاردينال العجوز اكثر البابوات تقدما وتطورا في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية.     

 اول قراراته التجديدة كان الاسم البابوي الذي اختاره، فلقد اختار اسم يوحنا الثالث والعشرون، وهو الاسم الذي ابتعد عنه كل البابوات المنتخبين كون احد البابوات قد حمل هذا الاسم، وهو الكاردينال بالدسار كوسا ( 1410-1415)، والذي شطب اسمه من تاريخ البابوات،لاسباب اخلاقية، ومنذ ذلك التاريخ لم يتجرأ اي بابا اخذ هذا الاسم خوفا من ان يختلط اسمه مع اسم بالدسار كوسا. عندما سئل البابا يوحنا الثالث والعشرون لماذا اخذ هذا الاسم، اجاب وبكل صدق:"لامحو العار عن هذا الاسم واعيد له اصالته"، يومها بدأ الاعجاب بهذا البابا العجوز.   

    يوحنا الثالث والعشرون كان اول بابا يخرج خارج اسوار الفاتيكان، فلقد جرى التقليد على ان يبقى البابوات اثر انتخابهم داخل اسوار الفاتيكان لا يخرجون منها، ولكن البابا يوحنا الثالث والعشرون كسر هذا التقليد وعمل جولة عبر شوارع روما، حيث زار بعض السجون والمستشفيات.   

  المفاجأة الكبرى للبابا يوحنا الثالث والعشرين كان دعوته الى انعقاد المجمع المسكوني الثاني، وهو القرارالذي استصعبته البيروقراطية الادارية في الفاتيكان، حيث اعتبر انعقاد مثل هذا المجمع يستلزم سنوات من التحضير، ولكنه رفض هذه البيروقراطية واصر على على انعقاد المجمع خلال اشهر وكان له هذا الامر وانعقد المجمع المسكوني الثاني الذي جدد الكثير من القوانين والعقائد في الكنيسة الكاثوليكية، ليدفعها الى ان تتماشى مع العصر الحديث، وهو الامر الذي لاقى اعتراضا من الاساقفة التقليديين ذوي الاتجاه البيوسي في الكنيسة.    

 لم يستمر البابا يوحنا الثالث والعشرون طويلا في حكم الفاتيكان، لكي يستكمل المجمع الفاتيكاني الثاني، حيث توفي بسب مرض السرطان بتاريخ الثالث من حزيران 1963، ليخلفه في السدة البابوية الكاردينال جيوفاني مونتيني في السادس والعشرين من ايلول 1963، اخذا اسم البابا بولص السادس الذي تعهد ان يسير على خطى سلفه باكمال اعمال المجمع الفاتيكاني الثاني ليوسعه ويحوله الى المجمع المسكوني الثاني، الذي اكمل خطوات سلفه في تطوير الكنيسة وقوانينها.    

    البابا بولص السادس ترك لمساته التاريخية وارتبط اسمه باول زيارة يقوم بها بابا رومية  الى الاراضي المقدسة، حيث زارالقدس بشقيها الشرقي والغربي، في مطلع عام 1965، سجل عليه بانه دخل الى القدس الغربية من خلال بوابة مندل بون، كأي مواطن عادي، رافضا اي استقبال رسمي اسرائيلي له، كون الفاتيكان لم يكن معترفا بالدولة العبرية. شهدت هذه الزيارة اول لقاء ما بين قداسة البابا والبطريرك المسكوني اثيناغوراس بطريرك القسطنطينية الاورثوذكسي .

    استمر البابا بولص السادس في العمل المسكوني الذي باشره سلفه يوحنا الثالث والعشرون، في المجمع المسكوني الثاني الذي بقي في حالة انعقاد دائمة ومستمرة لحين انهاء اعماله الذي حول الكثير من التوصيات الى قرارات دفعت الكنيسة الكاثوليكية الى تطور هائل يلائم العصرنة، وبالطبع حاول التقليديون من الاساقفة منع هذه التطورات ولكن قداسته حول توصيات المجمع المسكوني الثاني الى قرارات رفضها بعضهم وعلى رأسهم الكاردينال الفرنسي لوفيفر الذي اصر على الاستمرار في القرارات القديمة التي كانت معروفة في عهد البابا بيوس الثاني عشر وما قبله. توفي البابا بولص السادس ولم تحل مشكلة الكاردينال لوفيفر التي لم تحل الا بوفاة هذا الاخير. 

  اهتم البابا بولص السادس بموضوع الفقر في العالم حيث كان له رسالة بابوية شهيرة اعتبر بان الثورة في العالم عامة وفي امريكا اللاتينية خاصة غير متوازنة ويجب اعادة توزيعها بشكل اكثر توازنا من اجل تقريب الهوة ما بين الفقر والغنى، وكان لهذه الرسالة صدى مقبولا لدى الطبقات الفقيرة وصدى رافضا لدى الطبقات الغنية، رغم ان قداسته لم يغير من موقفه حول هذا الموضوع كونه يتلاءم مع تعاليم المسيحية  

  في السادس من آب 1978 طوى الموت البابا بولص السادس الذي استحق لقب البابا المسكوني، ليخلفه ولمدة ثلاثة وعشرين يوما فقط البابا يوحنا بولص الاول، وهو اول بابا ياخذ اسما ثنائيا، حيث اخذ اسم يوحنا تيمنا بالبابا يوحنا الثالث والعشرين واسم بولص تيمنا ببولص السادس، حيث كانت امنيته ان يستمر على خطى كلا البابوين اللذين سبقاه، ولكن يد المنون كانت له بالمرصاد حيث توفي اثر نوبة قلبية، لم يعرف أسبابها وخاصة كونه لم يجلس على السدة البابوية سوى ثلاثة وعشرين يوما فقط.

موته المفاجئ هذا اطلق سلسلة من الاشاعات لم يثبت اكثره ورفضت المصادر الكنسية الغوص فيها خوفا من اثارة الشكوك ضمن الكنيسة والمؤمنين. 

     خلفه في السدة البابوية الباب يوحنا بولص الثاني الذي توفي في الثاني من ابريل2005،والذي جلس على السدة البابوية اكثر من ربع قرن تميزت بالحركة المستمرة والمتواصلة، ولقد كان اول بابا غير ايطالي منذ اكثر من 450 سنة تقريبا، وهو من اصل بولوني، حيث جرى التقليد ان يكون البابا من ايطاليا، خوفا من ان يخرج البابا غير الايطالي الكرسي البابوي الى خارج الفاتيكان كما حدث مع احد البابوات الفرنسيين.

  البابا الراحل يوحنا بولص الثاني وضع لمساته ليس فقط على تاريخ الكنيسة بل على كل التاريخ البشري في الربع الاخير من القرن العشرين والخمس سنوات الاوائل من الالفية الثانية. كان قداسته اكثر البابوات حركة حيث زار تقريبا كل القارات ومعظم دول العالم، وكان للشرق الاوسط نصيبا اساسيا في زياراته المتوصلة حيث كان يعتبرها زيارات خاصة في مسيرة حجه الى الاراضي التي عرفت بالمقدسة، فزار الاراضي المقدسة في القدس وبيت لحم والناصرة، وكذلك الاردن ولبنان وسورية ومصر، وكان يتمنى ان يزور العراق للحج الى اور ولكن حرب الخليج الثانية منعته من ذلك.

 عرف عنه محاربة الحروب حيث حاول مع بوش الاب وبوش الابن، منع قيام حرب الخليج الثانية والثالثة، ولكن بلا جدوى، كما انه عرف عنه محاربته الشيوعية وهو وضع طبيعي لبابا الفاتيكان، ولكن انهيار المنظومة الشيوعية، نتيجة ترهلها السياسي جعلها تظهر وكان انهيارها جاء نتيجة عداء البابا يوحنا بولص الثاني لها.

    الباباوات الاربعة الذي شهدتهم الكنيسة الكاثوليكية خلال اكثر من نصف قرن جعلوا حركة الكنيسة حركة تطور وتقدم تركت بصماتها على التاريخ البشري ودفعوا الكنيسة خطوات كبيرة الى الامام ليبتعدوا عن الارث المحافظ الذي عرفته الكنيسة خلال الفترة البيوسية وما سبقها. بالقطع لن يستطيع اي بابا سينتخب ان يعيد الكنيسة الى المحافظة لان عقارب الساعة لا تسير الى الوراء وكذلك التاريخ .