تركيا ما بين العلمانية والاسلام السياسي

منذ اكثر من نصف قرن وتركيا تعاني صراعا ما بين العلمانية التي اعتقد كمال باشا اتاتورك، بانه ارسى جذورها، وما بين الاسلام السياسي. كان الصراع يتجلى ما بين العسكر، الذين يدعون حماية العلمانية، وما بين الاحزاب السياسية ذات المنحى الاسلامي، والتي كانت تغير اسمها باستمرار كلما منعت من تحقيق نجاحاتها في الانتخابات التشريعية التركية

          منذ اكثر من نصف قرن والاحزاب الاسلامية هي التي تفوز في الانتخابات التشريعية التركية، على حساب االاحزاب العلمانية والتي ثبت فشلها في النجاح، وذلك لسبب بسيط هو فساد الطبقة الحاكمة، حيث كان المواطن التركي يعطي الاحزاب الاسلامية الاغلبية في البرلمان التركي،  وكانت الاحزاب العلمانية تتراجع اكثر واكثر مع كل انتخابات جديدة 

          اعطى العسكر التركي لنفسه لقب حامي العلمانية في تركية، حيث كانوا يقفزون الى السلطة من مرة الى اخرى، ملغين الحياة البرلمانية، كلما تأزمت الحركة الديموقراطية التركية، سواء عندما يستفحل الخلاف ما بين الاحزاب العلمانية، اوعندما كانت الاحزاب السياسية الاسلامية هي التي تفوز

            استطاع حزب العدالة والتنمية الحاكم ان يشكل استثناء في الحياة السياسية التركية، حيث نجح في اعطاء العسكر نوعا من الطمأنينة السياسية للعسكر، ليس هذا فحسب، فلقد نجح هذا الحزب ان يزيد ثقة الناخب التركي بسياسته، وجاءت نتائج الانتخابات المبكرة لتؤكد هذه الثقة، حيث زادت عدد مقاعده، عوضا عن خسارة قسم منها، حيث بالعادة تخسر الاحزاب الحاكمة بعض المقاعد، نتيجة اخطاء الحكم، واصبح قاب قوسين ام ادنى من اغلبية الثلثين

         لم ينجح هذا الحزب في تأكيد نجاحه على المستوى الداخلي فقط، فلقد استطاع رئيس الوزراء التركي محمد رجب اردوغان ان يعطي الاتحاد الاوروبي نوع من الاطمئنان، لم تستطع الاحزاب العلمانية ان تحققه. فعلاقات تركية مع اكثر دول العالم تتمتع اليوم باحترام كبير منذ استلام حزب العدالة والتنمية، ذي الاتجاه الاسلامي زمام الحكم في تركية

            يعتقد الكثيرون بان كمال اتاتورك ارسى علمانية سياسية في تركية، ويعتقد الكثيرون      ايضا بأن التغييرات التي فرضها اتاتورك كانت تغييرات سطحية، حيث الغى الطربوش التركي ليحل محله البرنيطة الاوروبية، ناهيك بالطبع منع الحجاب، وتغيير الحرف التركي من البنط العربي الى البنط الاوروبي، الخ… من التغييرات، التي غيرت الملامح العامة من الخارج ولم تدخل الى عمق المواطن التركي وايديولوجيته، بل على العكس ان قسر هذا المواطن على التغيير هو ما اخر التغيير الفعلي للمواطن التركي، حيث عندما فشلت الاحزاب التركية العلمانية سياسيا، كان المواطن التركي يعود الى الاسلامية السياسية، حيث اوصل اكثر من مرة واكثر من حزب الى السلطة.            إن انتخاب عبد الله غول رئيسا للجمهورية رغم تحجب زوجته، ان دل على شيء انما يؤكد نجاح حزبه سياسيا، حتى العسكر لم يحركوا حتى الآن ساكنا، للقفز على نتيجة الانتخابات المبكرة او انتخاب الرئيس غول، ومن يدري حتى متى سيتقبل العسكر سياسة حزب التنمية والعدالة، الذي اكد على تمسكه بالعلمانية والديموقراطية، رغم اتجاهه الاسلامي

          نجاح تجربة حزب العدالة والتنمية في تركية يضحض حجج الانظمة المجاورة لها بالغاء الديموقراطية خوفا من وصول الاسلاميين الى سدة الحكم، حيث استطاعوا ان يوهموا شعوبهم، بان الحريات العامة والديموقراطية السياسية ستقود الى سيطرة الاسلام السياسي، مما يعني دفع المجتمع الى التشدد الاسلامي، وخاصة في البلدان التي تتواجد فيها اقليات دينية او اثنية مختلفة    

       تخوف الانظمة من الاسلام السياسي، يساعدها على تثبيت الغائها للديموقراطية والحريات العامة. الخاسر الاكبر لهذا الالغاء هي القوى الديموقراطية الفعلية التي فقدت حريتها لمواجهة الفكر السياسي الاسلامي، الذي استطاع نتيجة الممارسة السياسية للانظمة، ان يكسب ارضية اكبر لدى المواطنيين، حيث يتمتع بهامش من الحركة لا يتوفر للقوى الديموقراطية، كونه دين القوم الاكثري في هذه المجتمعات

          ان وضع الديموقراطية على الرف، لحجج واهية، انما يدل على الافلاس السياسي للنظام السياسي العربي، الذي لم يستطع ان يحقق مصالح شعوبه، سواء القومية منها او القطرية، ليوهم الجميع بان هذه الانظمة هي الافضل لحكم المنطقة، وان هذه الشعوب لا يمكنها ان تتوصل الى الديموقراطية لاسباب عديدة منها انتشار الفكر السياسي الاسلامي، وهي المقولة التي ثبت فشلها في نجاح التجارب الديموقراطية في تركية والباكستان واندونسيا وماليزيا وغيرها من البلدان ذات الاكثرية الاسلامي