على ضوء محاكمة طاغية العراق صدام ومحاكمة ديكتاتور التشيلي بينوشه “محاكمة الطغاة والمستبدين

تزامن المباشرة بمحاكمة طاغية العراق صدام مع سحب حصانة، ومحاكمة طاغية التشيلي الجنرال بينوشة، هذا التزامن يدفع الى اجراء مقارنة بين ردات الفعل الشعبية في كلا البلدين حول عملية المحاكمات هذه.

عندما اعتزل ديكتاتور التشيلي السلطة السياسية، حصن نفسه ضد المحاكمة باستصداره قرارا من البرلمان التشيلي باعطائه حصانة مدى الحياة من المحاكمة، هذا القرار جاء نتيجة معرفة الجنرال بينوشة الكاملة بان الشعب التشيلي، الذي اذاقه الديكتاتور المرارة والذل والاستبداد لن يدعه بلا محاسبة على كل جرائمه، منذ انقلابه على الشرعية ومقتل الرئيس سلفادور اليندي، وصولا الى آخر يوم له في السلطة، مرورا بالطبع بكل الاستبداد والقمع الذي شهدته فترة حكمه التي استمرت فترة طويلة.

بالفعل كان بينوشه محقا، فمباشرة بعد سقوطه اخذت المنظمات السياسية ومنظمات حقوق الانسان في التشيلي والعالم تسعى الى اعتقاله، وبالفعل استطاعت هذه القوى فتح دعوى قضائية ضده في اسبانيا، الى ان تم اعتقاله في لندن والجميع يتذكر معاناته الشهيرة، الا ان حكمت له احدى المحاكم البريطانية بالسماح له بالمغادرة بقرار غلب عليه السياسي اكثر منه القانوني. لم يستكن المتضررون من الشعب التشيلي، وهم بالمناسبة اكثرية الشعب، لمثل هذا القرار وبقوا الا ان وصلوا الى الغاء حصانته وبوشرت محاكمته ووضعه تحت الاقامة الجبرية، ولم يشفع له كبر سنه، الذي بلغ ما فوق التسعين ولا مرضه من الاصرار على محاسبته.

هذا في التشيلي، حيث الوعي السياسي والوطني، فماذا في المنطقة العربية بعد اخراج طاغية العراق من جحره كالفأر المذعور والمباشرة بالتحقيق معه ومحاكمته. من راقب ردات الفعل في الشارع العربي وفي الصحافة العربية، يلحظ بأسف شديد بان مبدأ المحاسبة لا زال غير وارد في عقول الغالبية العظمى من الناس في المنطقة العربية. ولقد ذهب العديد منهم بعيدا حتى انهم اعتبروا بان محاكمته غير قانونية وغير مقبولة ليس لانها تجري في ظل الاحتلال الامريكي، بل لكونه رئيسا للجمهورية، واعتبره البعض الآخر بطلا اشبه ما يكون بصلاح الدين وعمر المختار وجمال عبدالناصر، وهذا يدلل على اننا لا زلنا نعيش في حالة من اللاوعي واللاعقلانية في فهمنا للعلاقة ما بين الطغاة والمستبدين وضرورة محاكمتهم.

بغض النظرعن ان محاكمة الطاغية العراقي تجري في ظل الاحتلال، فهل هذا ينفي ضرورة ووجوب محاسبة هذا الطاغية على اعماله التي اضرت ليس بالعراق فقط بل بكل المنطقة العربية. فلو اردنا ان نجرد جرائم صدام، بحق الشعب العراقي والشعب العربي وكافة شعوب المنطقة، التي اوصلتنا الى هذا الدرك الذي نحن فيه والذي قاد الى ادخال القوى الغربية الى المنطقة، للزمنا نوع من الجديد من المحاكم يحاكم بها صدام، فجرائمه هذه لا تخضع الى المقايس القانونية العادية بل هي بحاجة الى نوع جديد من المحاكم، تكون فيها محاكم المهداوي في عهد عبدالكريم قاسم واحكامها الشهيرة” بالاعدام حتى الموت”، رحيمة ان قيست بجرائم صدام.

كان على البعثيين ان يكونوا اول المطالبين بمحاكمته، فهو من من ساهم بالانقلاب على الشرعية الحزبية في عام 1963، عندما اعتدى على المؤتمر القطري في العراق الذي انعقد غداة انتهاء المؤتمر القومي السادس من اجل تطبيق قرارات هذا المؤتمر، فانقضى هو ومحمد المهداوي وبعض العسكر على المؤتمر، لمنع اليسار في حزب البعث من السيطرة على الحزب حيث نال مباركة يمين الحزب المتمثل انذاك بحازم جواد وطالب شبيب وميشيل عفلق وكافة عسكري البعث. وهذه الجريمة كانت بداية تمزيق البعث الى شقوق حيث سيطر العسكر والطغاة على مقدرات هذا الحزب، الذي لو استطاع تطبيق مقررات المؤتمر القومي السادس لنعمت الامة العربية بحزب سياسي يوصل المنطقة الى الحداثة لا ان يرميها في قعر الجهل والتأخر والاستبداد.

اذا اردنا الاستمرار في تعداد جرائمه بحق الحزب فيجب ان يحاسب على اغتياله حردان التكريتي وسعدون غيدان وعزله احمد حسن البكر، وتغليبه الجهلة من ابناء عشيرته واهل بيته، حيث اغدق عليهم بالرتب العسكرية حيث يصبح العريف فريقا، بينما يذهب الى الضباط الفعليين الى الاعدام والسجون وفقط المحظوظ منهم يذهب الى بيته او الى خارج العراق.

عليهم ان يحاكموه على جريمة أغتياله وبشريط مسجل بناء على أوامره، خيرة القيادات البعثية في حزب البعث في تلك المؤامرة المزعومة التي اختلقها عقله الشرير لانهاء كل عنصر نظيف في القيادة العراقية، ليبقى فقط الانتهازي والمتملق والفاسد، الذين عاثوا فسادا وبطشا بالشعب العراقي، الا ان وصلنا الى ما وصلنا اليه اليوم.

يحاكمونه اليوم بجريمة قتل 146 مواطنا في الدجيل، وامام محكمة مدنية عادية، وبرئاسة قاض مهذب اعتبره بعض قصيري النظر بانه ضعيف، فاذا كان التهذيب ضعفا فبالفعل فان القاضي سردار محمد هو بهذا المقياس ضعيف، لا بل هو ضعيف جدا بالمقياس الصدامي الذي كان يحاكم وينفذ حكم الاعدام خلال دقائق لا اكثر ولا اقل.

هل جريمة الدجيل هي وحدها الجريمة التي يجب ان يحاسب عليها صدام؟ لماذا لا يحاكم على جريمته البشعة، التي اطلق عليها زورا اسم ” القادسية” لينعتها باسمه وليدخل في حرب دونكيشوتية ضد ايران ليذهب ضحيتها اكثر من نصف مليون من كل طرف. هل غزوه الكويت ونهب عسكره ثرواتها، لا يستحق المحاكمة ليس بالجريمة؟ هل اصراره على الاستمرار في غزو الكويت والذي أوصل الى حرب الخليج الثانية التي دمرت البنية التحتية والفوقية للعراق لا يستحق المحاكمة؟ هل بطشه بالشعب الكردي في الشمال وابناء الطائفة الشيعية في الجنوب لا يستحق المحاكمة؟ هل قتله صهريه بتلك الطريقة البدائية لا تستحق المحاكمة؟

 واذا أردنا الاستمرار في تعداد الجرائم يلزمنا العديد من المجلدات لتعداده، فالنظام الصدامي مثقل بجرائم لا يوجد في قانون العقوبات عقوبة توازيها، فهي أكبر من كل القوانين الجرمية في كل انحاء العالم.

مؤسف جدا ان تصل صحيفة رزينة مثل ” القدس العربي” الى اعتبار محاكمة طاغية كصدام، على اعتبارها مثل المباريات الرياضة تحتسب له الجولات الرابحة ضد خصمه الآخر الا وهو القضاء العراقي.

ان محاكمة صدام في ظل الاحتلال الامريكي للعراق، والذي كان حكمه الذي امتد اكثر من ثلاثين سنة احد اهم اسباب هذا الاحتلال، لا يلغي مبدأ احقية محاسبته على كل الجرائم التي ذكرناها ولم نذكرها. لقد آن الأوان ان نحل مبدأ المعاقبة على الجرائم وخاصة السياسية منها حتى نستطيع احقاق الحق ومحاسبة المسيئ والفاسد من الطغاة والمستبدين والتي ابتلبت بهم منطقة العربية.