الانظمة العربية والخوف من الديموقراطية

    

منذ صعود النظام العالمي الجديد الذي ادخله الرئيس الامريكي جورج دبليو بوش قيد التنفيذ بحربه الاستباقية ضد الارهاب، وغزوه للعراق وافغانستان، ومحاولته تطويع العالم قاطبة، بدأ من امريكا اللاتينية مروراً بأوروبا ووصولاً الى الشرق الاوسط. اثار عند الانظمة العربية، التي لا تتمتع باي سند شعبي نوعا من الرعب السياسي، حيث ان هذه الهجمة طرحت مسألة التغيير في المنطقة، وخاصة التغيير والاصلاح السياسي الذي لا بد منه، وطرحت المسألة الديموقراطية كعامل مهم لهذا التغيير. هجمة العولمة هذه لم تكن فقط عسكرية، فمع انهيار نظام طالبان القرو ـ وسطي، وسقوط نظام صدام الديكتاتوري اخذت كل الانظمة العربية تتحسس خطورة ما يحدث حولها، حيث شعرت بان رأسها هو بالمحصلة في الميدان وانه ان ارادت الاستمرار فلا بد حكما من التغيير في بنيتها السياسية المترهلة، وبالطبع ليس هناك من استثناء، فالانظمة العربية قاطبة تعيش حالة من اللا شعبية ومنذ فترة طويلة.

            حاول بعض هذه الأنظمة اجراء نوع من التغيير، ولكنه تغيير خجول، وهذا التغيير الخجول لم يأت نتيجة الشعور بضرورة التغيير لمواجهة الهجمة العولمية، بل على العكس جاء لمسايرة هذه الهجمة التي اخذت تهدد وجودها. فمن هنا نرى  نوعا من التغيير، ولقد كانت الانظمة البدوية في الخليج العربي اول من تحسس بضرورة اجراء نوع من الانفتاح على الشعب من خلال تغييرات كوسمتيكية، فكان طرحها لنوع مشوه من الديموقراطية مسايرا للطرح الامريكي الذي ينبع من المصالح الامريكية وليس مصلحة شعوبها.

            لم تكن الانظمة وحدها التي تلمست التغيير بل كل القوى الديموقراطية في المنطقة شعرت بانها ايضا تتحمل نوعا من المسؤولية في هذا الترهل، وان عليها ان تتبدل هي الاخرى، مستغلة ارتخاء القبضة الحديدية لهذه الانظمة. راجعت الكثير من القوى الديموقراطية بنيتها الفكرية وبعضها ايضا بنيته التنظيمية لمواجهة الهجمة العولمية ومفهومها الديموقراطي اللا شعبي.

            لعبت الفضائيات العربية ووسائل الاعلام المكتوبة، دورا هاما في نقل الازمة التي تعاني منها كل من الانظمة العربية او القوى الديموقراطية على السواء، ولن نتحدث عن القوى التي تتدعي التقدم والتي في الحقيقة تحولت الى وسيلة تجميلية للانظمة، فلم يعد هناك امكانية ان تخفي ضعفها على شعوبها، التي اخذت تتعرف على هذا الضعف من خلال الوسائل التقنية الحديثة التي حدثت وتنقل الخبر بالصوت والصورة.

            استغلت القوى الديموقراطية في المنطقة العربية رياح التغيير التي اخذت تهب على المنطقة، فاخذت تطرح المسألة الديموقرطية على نطاق البحث وضرورة وجود تطبيق عملي لهذه المسألة يحقق طموح شعوب هذه المنطقة. حاولت بعض الانظمة تقبل هذه الطروحات، كمقدمة لاجهاضها من خلال تفريغ مضمونها العملي، كما حدث في مصر مثلا، ولكن السواد الاعظم منها رفض التجاوب مع هذه الطروحات فاخذ يرهب هذه القوى من خلال منعها من التعبير، وفي حال تمسكها بالطروحات وتحركها لنشرها كانت الاجهزة الامنية تستعمل اسلوبها القديم بالقمع سواء عن طريق الاعتداء على تحركات هذه القوى او بالاعتقال المباشر بموجب قوانين الطواريء التي تلغي كل القوانين.

            لم تكتفي هذه الانظمة فقط بالقمع فتجاوزته الى نشر صورة جديدة لها بانها اما هي او الفوضى او القوى السياسية الاسلامية، ومن هنا، حسب طروحاتها بالطبع، هي افضل الموجود. وكان لنجاح حماس في فلسطين وحركة الاخوان المسلمين في مصر والطرح الطائفي في العراق، دليل على طروحاتها بان لا بديل لها، لكن هذه الانظمة نسيت او تناست بانها كانت السبب المباشر لقوة هذه الاتجاهات، مع كل احترامنا لها. هذا الاسلوب قد ينجح في المدى القريب ولكنه على المدى البعيد سوف ينكشف زيفه، حيث لا بد لشعوب المنطقة ان تستوعب بان هذا البعبع الذي نشرته هذه الانظمة ليس الا  درعا لحمايتها من اي تفكير ينحو للتغيير او التبديل.

            يقع على القوى الديموقراطية العربية في المنطقة التحرك نحو كشف زيف مثل هذه الطروحات، من هنا يتوجب عليها اذا كانت فعلا تنحو منحى ديموقراطيا ان تعمل على توحيد صفوفها من خلال التوصل الى برنامج حد ادنى يساعد هذه القوى على الحوار فيما بينها للتوصل الى حلول صحيحة وسليمة تنقذ المنطقة من الانظمة السياسية المترهلة القائمة، وتمنع الفوضى عن باقي المنطقة. ان التعددية التنظيمية ليست بالظاهرة المرضية بل هي ظاهرة صحية اذا كانت مبنية على وعي سياسي سليم، على ان تتخلى عند الضرورة عن نرجسيتها التنظيمية في سبيل المصلحة العامة.

            لم تعد ازمة المنطقة هي ازمة انظمة، بل هي ازمة اوطان وشعوب ومن هنا على القوى الديموقراطية التكاتف والتضامن وبدون وضع استثناءات على احد، فالمرحلة تتطلب توحيد كل القوى السياسية في سبيل مفهوم حديث وعصري للمسألة الديموقراطية. ان المسألة الديموقراطية ليست بالجديدة على المنطقة، فقد طرحها حزب العمال الثوري العربي في منتصف الستينات في كراسه “أزمة الثورة العربية والطريق الى تجاوزها”، كحل وحيد لخروج المنطقة من ازمتها التي ادخلتها “الثورات” اليها. واذا كان البعض يراهن على بعض التغيير في الانظمة فعليه ان لا يتوهم صعود حكام شباب كدليل على التغيير في بنية النظام، فهذه الانظمة قد اصبحت مرتبطة بمصالحها الشخصية وليس بمصالح شعوبها، ومن هنا لا ينفع اي تغيير في البنية. لنا في مصر اكبر دليل واقول مصر لانها الدولة العتلة، فمبارك غير في القوانين ليسمح بالمنافسة ولكن ضمن قيود اصعب من الاول، والانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي جرت في مصر اخيرا اكبر دليل بان التغيير كان قشريا ولم يستطع اي منافس التوصل الى نتائج مرضية، لا بل عندما شعر النظام بالخسارة صعد هجومه ضد الاخوان المسلمين لكي يمنع قيام الكارثة ووصل الاسلاميون الى السلطة عبر صناديق الاقتراع، واجمل تعبير للانتخابات المصرية عنوان مقالة الزميل جوزيف سماحة “الانتخابات المصرية اكثر من استفتاء واقل من انتخابات”. نعم الانظمة العربية تخاف الطرح الديموقراطي الصحيح والسليم، وخوفها ورعبها هذا ناجم عن معرفتها بان هذا الطرح ان ساد سيؤدي حتما الى سقوطها ونهايتها، ولن ينفعها انذاك انبطاحها امام نظام العولمة السائد في العالم. وحدها العقلانية السياسية توصل المنطقة الى الخلاص الوطني والتغيير.