من البطريرك حداد إلى الأب باولو وجه آخر للكنيسة بقلم عبد الله حنا

من البطريرك حداد إلى الأب باولو

                    وجه آخر للكنيسة

                                      عبد الله حنا *

 

  استرعى الاهتمام  موقف الأب باولو ( رئيس رهبنة دير مارموسى الحبشي في النبك ) المتعاطف مع التحركات الشعبية الجارية في سورية منذ سنة ونيف ، في وقت يقف فيه كثير من الأكليروس المسيحي موقف الريبة والخوف من هذه التحركات الشعبية الناشدة للكرامة والمنادية في بداياتها بالحرية مع خلفيات ، مكتومة ، تحلم بالعدالة الاجتماعية . وتضاعف خوف هذا الأكليروس بعد عسكرة التحركات الشعبية السلمية ، التي قمعها النظام بالرصاص مما ادى الى انتقال التحركات إلى مرحلة العسكرة والدفاع عن النفس . وهذا مما افسح المجال لقوى متزمتة اسلاميا لاستغلال التحركات وتوجيهها وجهة لا وطنية لها لون ديني . وهذا مما سهّل الطريق أمام بعض رجال الدين المسيحي الموالين للنظام  في القاء الشكوك حول اهداف التحركات واغماض العين عن العسف والظلم والانحياز والدعوة بصورة فاقعة إلى مساندة " النظام " .

      هذان الموقفان المتناقضان لراهب يقف ضد القهر وينشد المحبة والوئام ومطران يعلن على رؤوس الأشهاد انحيازه اللامشروط إلى النظام ، دفعا بي الى تذكّر التاريخ واسترجاع دور الخط الوطني العروبي لبطريركية انطاكية الأرثوذكسية في مستهل القرن العشرين ، وهذا ما سنتحدث عنه بعد قليل .

           ** *                        

    تعود معرفتي بالأب باولو إلى عام 1981 عندما شرع في إحياء دير مارموسى المهجور بسبب وفاة آخر رهبانه عام 1830 . فقد زرته  منطلقا من بلدتي ديرعطية المجاورة للدير وأنا متوجس خيفة ان يكون عينا ( تجمع الأخبار ) لإحدى الجهات . ولكن تصميم هذا الراهب واندفاعه لترميم دير مهجور في منطقة مقفرة جعلتني أراجع شكوكي . وبعد زيارات متعددة للدير مصطحبا ضيوفي الراغبين في التعرف على معالم هذا الدير الحصين وسماع رأي الآخرين في هذا الراهب العجيب  قطعت الشك باليقين ، ووجدت نفسي أمام إنسان من طينة  خاصة تجمع بين رهبانية لم نعتد عليها وفكر يحمل على منكبيه  حضارات الشعوب المتآخية والكارهة للظلم والعدوان . والملفت للنظر المكتبة الغنية ، التي اسسها هذا الراهب والتي تجمع فوق رفوفها كِلا التراثين المسيحي والاسلامي . وكانت نشاطات الأب باولو في الحوار الديني تصبّ في مياه التسامح والإخاء والعيش بسلام .

***                                          

    مواقف هذا الراهب ذكرتني بمواقف بطريرك انطاكية للروم الأرثوذكس غريغوريوس حداد ، الذي اعتلى سدة رئاسة البطريركية بين عامي 1906 و 1928 وكان مثالا رائعا في الإدارة ، وفيما يلي بعض الأمثلة :

    أيام الجوع في الحرب العالمية الأولى فتحت البطريركية الأرثوذكسية أبوابها لإطعام الجائعين من مسلمين ومسيحيين . وعندما خوت مخازن البطريركية طلب الشماس المسؤول عن الطعام من البطريرك ان يقتصر الأمر على اطعام الروم الأرثوذكس فقط . فأجابه البطريرك : لا تسمح بالدخول إلى المطعم إلا لمن حُفِرَ على جبهته روم ، في اشارة واضحة بفتح باب مطعم البطريركية للجميع دون تمييز .

   بعد انهيار الدولة العثمانية عام 1918 قامت في دمشق اول دولة عربية وطنية حديثة بايع شعبها الشريف فيصل بن الحسين ملكا . وعندما اجتاحت جيوش الاستعمار الفرنسي سورية الداخلية غادر الملك فيصل دمشق . وفوجئ الحضور في محطة الخط الحديدي الحجازي بقدوم  البطريرك غريغوريوس حداد . وعند الوداع مدّ البطريرك يده مصافحا الملك فيصل ومعلنا أمام الملأ : هذه اليد التي بايعتك لن تخون العهد . وهذه اشارة واضحة إلى سير الكنيسة الآرثوذكسية مع الحركة الوطنية العربية في السراء والضراء .

    اثناء الثورة السورية ( 1925 – 1926 ) كانت بطريركية الروم الأرثوذكس ملجأَ للثوار ومركز إمداد لهم . كما ادلى البطريرك بعدة تصاريح مؤيدة للثورة . وهذا ما دفع الثوار لتسميته  " البترك محمد غريغوريوس " .

    ويذكر مؤرخ الشام محمد كرد علي ان عشرين ألف مسلم شاركوا في تشييع جثمان البطريرك غريغوريوس حداد عام 1928 .

    خلف غريغوريوس البطريرك الكسندروس طحان ، الذي سار على النهج الوطني لسلفه . وكانت علاقته وطيدة مع الكتلة الوطنية قائدة الحركة المناهضة للانتداب والداعية إلى الاستقلال . وكانت تصريحات البطريرك طحان في ثلاثينيات القرن العشرين المطالبة بالاستقلال والمنشورة في جريدة القبس الدمشقية ( جريدة الكتلة الوطنية ) يتردد صداها في سائر ارجاء الوطن .

     البطريرك طحان المعروف بمجابهته للحكام الطغاة توفي مصادفة عام 1959  في وقت أخذت المباحث السلطانية تبني دولتها ، الساعية إلى خنق المجتمع المدني ووضع الجميع تحت عباءة " السلطان " . وهنا وُضع  رجال الدين من مسلمين ومسيحيين أمام طريقين : إما الانحناء أمام العاصفة والاستسلام لها أو الابتعاد والجلوس في الزوايا المهملة ، ونادرا جدا من اختار منهم قولة الحق أمام " السلطان " .

***                           

    في عهد صعود النهضة العربية والتنوير الاسلامي وانتشار الوعي الوطني في مستهل القرن العشرين انتشرت في الأوساط المسيحية الواعية فكرة التفريق بين الإسلام كعقيدة ، وهو أمر خاص بالمسلمين ، وبين الاسلام كحضارة وتاريخ وهما أمران شارك فيهما المسلمون والمسيحيون عبر مئات السنين . ومن يدرس " المجتمع السوري المسيحي " في مناطقه المتطورة يرى بوضوح ان الوعي الاجتماعي لهذا المجتمع تمتد جذوره في أعماق التراث العربي الإسلامي . وليس ثمّة شعور بالغربة عن التاريخ ، بل الشعور السائد لدى معظم المسيحيين أنهم كانوا وما يزالون أحد اعمدة الحضارة العربية الإسلامية .

     أيام النهوض الوطني استند  النهج " المسيحي  اليعربي "  الى التاريخ العربي الإسلامي ونهل من حضارته ، ونظر إلى المحاور الثلاثة التالية على النحو التالي :

–      الوقوف من العقائد الدينية الإسلامية موقفا إيجابيا ، واعتبار العقيدة شأن خاص بكل عربي وله الحرية في اعتناق ما يراه صوابا .

–      تبني الثقافة العربية الإسلامية باعتبارها ثمرة تلاقح تيارات حضارية متعددة : عربية ويونانية وسريانية وقبطية مصرية وفارسية وهندية . وقد كوّن الإسلام المتسامح ذو التوجه الإنساني  ، الإطار العام لهذه الثقافة .

–      الفخر بالتاريخ العربي الإسلامي ، الذي صنعته مختلف الشعوب المنضوية تحت راية الخلافة . والاعتزاز بالحضارة العربية الإسلامية  ، التي وصلت الأوج في القرن الرابع الهجري ، قبل أن يبدأ عصر الهبوط اعتبارا من القرن الثالث عشر حتى التاسع عشر . وقد رأى رجال النهضة العربية وفي مقدمتهم المسيحيون منهم ، ان افضل الطرق لنهوض قومي عربي جديد هو – إلى جانب مواكبة الحداثة والاستفادة من منجزات الحضارة الحديثة وهي اوروبية المولد – العودة إلى ذلك التراث العربي الإسلامي وفهمه في إطاره التاريخي واستلهام منجزاته الحضارية دون التوقف والتقوقع في إطار الماضي .

 

    ومن هذه الرؤى انطلق بطريركا الروم الأرثوذكس غريغوريوس حداد والكسندروس طحان ، الذين عاشا في عصر الصعود النهضوي العربي والانفتاح الوطني على سائر الأديان والمذاهب . ولكن رياح المباحث السلطانية والدولة الأمنية ، التي ظهرت ابتداء من عام 1959 أخذت باقتلاع تلك التربة الوطنية مخلّفة وراءها كثباناً طائفية واشواكا مذهبية وركاما للافكار المتسامحة . وتلك الأجواء المترافقة بتعقيدات مرحلة الثلث الأخير من القرن العشرين ، واختفاء العدو الاستعماري الخارجي وظهور تناقضات مستفحلة داخل المجتمع ، وانقسام القوى الاجتماعية وتصارعها لم تساعد الأكليروس المسيحي على تلمّس الحقيقة والسير في الطريق الوطني لأكثرية الشعب . وهذا مما اوقع قيادة الأكليروس في وهاد عميقة ومآزق هم في غنىً عنها ، وجعل القوى المسيحية الواعية لمخاطر المواقف المنحازة لهذا الطرف او ذاك تعلن استياءها من مواقف اكثرية الأكليروس غير المتزنة ، بل الخطرة ، التي تدفع بالمسيحيين للوقوف إلى جانب الطرف الحاكم ، ومعاداة جماهير واسعة اخذت تعلن احتجاجها على تصرفات وسياسة الممسكين بزمام النظام .

 

***                                                     

        التحرك الشعبي ، الممتد في المناطق الفقيرة أو غير المستفيدة من " نِعَم النظام " سار منذ قيامه في آذار 2011 بإيقاعات متنوعة متحدياً النظام ، تُحَرِكه بالدرجة الأولى المشاعر السنية المختلفة الإتجاهات والدوافع . وسرعان ما دخل على خط التحرك ما يسمون " دعاة اسلاميين " ،  قاموا بفضل الفضائيات المعروفة بشحن المشاعر السنية بكره الآخر والتحريض عليه وتحويل التحرك ذي الطبيعة السياسية والوطنية إلى تحرك طائفي باتجاه العداء المذهبي للعلويين ، الذين يهيمن من اغتنى منهم على مفاصل النظام السوري القائم . وهذا التيار المتزمت والمتطرف ( المعادي للعلويين كمذهب ) لم يخدم التحرك الشعبي الذي يسعى اليسار والقوى السنية المعتدلة إلى جعله تحركا وطنيا يشمل سائر أبناء المذاهب والطوائف المكتوية بممارسات النظام وعنجهيات كثير من قواه الأمنية وغيرها من مراكز القوى . ولا يخفى ان هذه  القوى الأصولية الظلامية سعت وتسعى إلى حرف التحرك ، الذي يسمونه ثورة ، عن مساره الوطني والطبقي وتوجيهه  للعداء لمذهب معين والكره لطائفة بكاملها . وهذا الفكر الظلامي طمس ، إلى جانب ممارسات النظام وسياساته ، الدوافع الإقتصادية الإجتماعية للتحرك وأغمض العين عن الاستبداد . وهو لا ينظر إلى الأمور إلا من زاوية دين ضد دين أو مذهب مخالف لمذهب . إضافة إلى ذلك يعتبر هذا التيار نفسه " الفرقة الناجية " وما سواه فهو ضلال وجاهلية . ويخدم هذا التيار المتزمت والمتحجر والمستند إلى الجوانب المظلمة من تاريخنا النظام بسبب إخافته للطوائف الإخرى وجعلها ترى في النظام طوق النجاة .

     وفي ظروف الانحسار الوطني ، أواخر القرن العشرين ، لم يتمكن التيار الاسلامي المعتدل ذي الجذور الخيّرة الممتدة في تربة المجتمع السوري ان يحدّ من هجمات الاسلام السياسي المتزمت والمتحجر ، الذي ينهل من افكار سيد قطب  ويسير على خط  بن لادن وطالبان وغيرهما من الدعاة المتطرفين  . 

       إن التحركات الشعبية الوطنية السلمية المناهضة للاستبداد ، والتي حملت في خلفيات احتجاجاتها حقدا دفينا على " الحرامية " من بورجوزيات بيروقراطية وطفيلية آكلة الأخضر واليابس ، تعرضت لعاصفتين   صحراويتين حوّلتاها عن مسارها الوطني السلمي وهما :

–      عاصفة المتزمتين الإسلاميين ، الذين ينهلون من التراث المملوكي العثماني وتكفيريات ابن تيمية , مسعِّرين للأحقاد وضاربين عرض الحائط بالتراث العربي الإسلامي المجيد في أيام عزه ، والذي ضمّ بين جناحيه سائر مكوّنات المجتمعات العربية الإسلامية ، وأنتج حضارة إسلامية مزدهرة ومنفتحة على العالم بين القرنين الثامن والثالث عشر الميلاديين .

–      عاصفة الحشد الطائفي ( العلوي ) الذي تسّعره بعض قوى السلطة لحماية ثرواتها وما سرقته من أموال الشعب . وهذه العاصفة الرأسمالية البيروقراطية والطفيلية تخيف الطائفة العلوية زاعمة أن " وجودها " مهدد بالخطر إذا لم تمتشق السلاح وتسير وراء الحكام . كما تعزف قوى الحكم على أوتار إخافة الأقليات الدينية والمذهبية ( مسيحيون ودروز واسماعيليون ) ودفعها  لمساندة النظام خوفا من قدوم " عثمانية " جديدة تعيدها إلى عهد السلطان المستبد عبد الحميد وأجداده .

       فالتحرك الشعبي المناهض للاستبداد والمشبع حقدا دفينا على طغيان البورجوزيات البيروقراطية والطفيلية وصلفها ، تشابكت فيه الدوافع الطبقية والطائفية وتداخلت بصورة طغى الدافع الديني المذهبي على الدافع الطبقي ، كما اختفت في زوايا شوارع المحتجين أصوات الفقراء والمقهورين . ونتيجة لسيطرة من يسمون " الدعاة الإسلاميين"ودعوتهم المتزمتة المنغلقة والمتحجرة والبعيدة عن التاريخ الثوري المجيد للحضارة العربية الإسلامية , غُيّبت الممارسات الاستغلالية والاستثمارية للفئات الحاكمة ، واقتصر حديث الدعاة على تأجيج المشاعر الطائفية وتسعير الحقد المذهبي وكره الآخر وتكفيره والاستعلاء عليه .

***                   

     وتحت وطاة هذه الأوضاع وتشابك الأحداث وتداخلها لم تُتَح الظروف داخل الأكليروس المسيحي لتبلور تيار يحمل الراية الوطنية للبطريركين حداد وطحان ويسير بها من اجل خلاص الوطن من خطرين ماثلين للعيان هما :

      طغيان " الدولة الأمنية " وأعمدتها من البورجوازيتين البيروقراطية والطفيلية من جهة ،  والاستبداد "العثملّي " وورثته الحاليين المتطلعين إلى عودة حكم بني عثمان وسلطانهم المستبد عبد الحميد ، متناسين قول الخليفة عمر بن الخطاب :  " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرار."