الأحد، 22 حزيران 2025…
كان يوماً دامياً في ذاكرة السوريين. فقد هزّت البلاد جريمة إرهابية مروّعة، نفذها عنصران من قوى الظلام، استهدفا كنيسة مار إلياس عبر إطلاق النار وتفجير عبوة ناسفة بداخلها، ما أسفر عن استشهاد أكثر من 27 شخصاً وجرح 52 آخرين، جلّهم من أبناء الطائفة المسيحية.
إن هذا العمل الإجرامي مدان ومرفوض بجميع المقاييس الإنسانية، قبل أن يكون مرفوضاً دينياً أو طائفياً.
لكن، وقبل الغوص في تحليلات الفعل وردود الفعل، لا بد من التأكيد على قناعة راسخة لديَّ أنَّ: المستهدف لم يكن المسيحيين كطائفة، ولا الأرثوذكس كمذهب، بل كان الهدف الأساس هو ضرب السلم الأهلي السوري، الذي أثبت، رغم كل شيء، حضوره الوطني والإنساني.
لقد بدأت هذه المحاولات الخبيثة لضرب السلم الأهلي منذ وقت مبكر، عبر افتعال الفتن في الساحل السوري، حيث خرجت أصوات متشنجة من بعض أبناء الطائفة العلوية تطالب بالحماية الدولية. ثم جاء الانزلاق الخطير في خطاب الشيخ الهجري، الذي بدأ بوطنيَّة وانتهى إلى مواقف تهدد الاستقرار، كما في حوادث جرمانا وأشرفية صحنايا واحتجاز محافظ السويداء، وكلها تصب في خانة واحدة: زعزعة السلم الأهلي ودفع الناس نحو اليأس أو التطرف.
ويأتي تفجير كنيسة مار إلياس امتداداً لهذا المخطط، الذي يسعى لدفع شخصيات دينية وكنَسيّة بارزة إلى تبنّي خطاب تطرفيّ، أو حتى المطالبة بالتدخل الدولي، وكأن تكرار سيناريو الحماية الأجنبية حلٌّ لمأساة داخلية.
لقد أراد مفتعلو هذه الجرائم أن يدفعوا بعض البطاركة والمطارنة لتبني خطاب الحماية الدولية، وبالتالي تقويض ما تبنيه حكومة الرئيس الشرع من شرعية وطنية، متكئين على ذاكرة مجروحة ومحاولات تاريخية سابقة لاستدعاء حماية أجنبية فشلت بها القوى الوطنية والديمقراطية في سورية.
ولا يمكن هنا تجاهل دور روسيا، التي تدخّلت ودمّرت معظم المدن السورية تحت ذريعة “دعم النظام”، لكنها لم تنقذ لا المطران بولس يازجي الذي خطفته أجهزتها، ولا المطران المغيّب يوحنا إبراهيم، ولا وقفت يوماً إلى جانب الشعب السوري.
حتى البطريرك يازجي، الذي تسلّم منصبه على جراح أخيه، لم يجد من الروس عزاءً، بل استخدموه كورقة فقط.
ومع ذلك، نُحذّر بشدة من الوقوع في فخ ردود الفعل المتشنجة. خطاب البطريرك اليازجي الأخير، بما فيه من تذكير مؤسف بحوادث عام 1860، أثار ردود أفعال غاضبة، منها ما هو مبرّر، ومنها ما هو مرفوض. كان الأجدى به ألّا يوقظ الذاكرة الطائفية الجريحة، بل أن يدعو إلى التهدئة وتعزيز الوحدة الوطنية.
كما أن إحاطته بالبطريرك العبسي والكاردينال جوزيف يونان، المعروف بتأييده للنظام، لم تكن موفقة. خصوصاً أن هذه الزيارة لم تأتِ لتمتين الحضور المسيحي في سوريا، بل لتأييد موقف متطرف لا يخدم أحداً.
ليس من المقبول مهاجمة سلطة الأمر الواقع، التي حظيت باعتراف وطني، وإقليمي من السعودية وقطر، ودولي من أميركا وأوروبا. هذه السلطة، وإن كانت تواجه تحديات، فإنها تمثّل اليوم الإطار السياسي الوحيد الممكن لسوريا بلا طغيان ولا تبعية.
وهنا لا بد من التنويه بمواقف شخصيات مسيحية وطنية دفعت أثماناً غالية:
- المطران يوحنا إبراهيم، أحد رموز الاعتدال والانفتاح.
- الأب باولو دالوليو، اليسوعي المغيّب، الذي ساند الثورة، فطلب النظام طرده، ثم خُطف.
- الراهب الهولندي فان در لوخت، الذي أبى مغادرة حمص المحاصرة، فاستُشهد وهو يشارك الأهالي الجوع والحصار.
- أهالي الرقة، الذين تظاهروا وهم يحملون صليب الكنيسة التي دمّرتها داعش، متحدّين الاستبداد والتطرف معاً.
لا حاجة لتذكير العالم بحوادث 1860، فقد منع الأمير عبد القادر الجزائري آنذاك وقوع مجازر بحق المسيحيين، وحماهم بشجاعة. لكن التاريخ لا يُستحضر ليُؤجَّج، بل ليُفهم ويُتجاوز، والبطريرك يازجي ارتكب خطأ فادحاً حين أعاد هذا الجرح إلى السطح.
الخلاصة:
علينا كسوريين، مسيحيين ومسلمين، أن نحذر من الوقوع في دائرة الفعل وردة الفعل. لقد خسرنا كثيراً عندما انجررنا إلى الانفعال، وسوف نخسر أكثر إذا بقَت مواقفنا مبنيّة على الغضب لا على الحكمة.
ما حدث في كنيسة مار إلياس ليس مجرّد استهداف لطائفة، بل هو جريمة بحق الوطن كله. الرحمة والخلود للشهداء، شهداء سوريا كلّها، لا المسيحيين فقط.
ملاحظة تحريرية:
لمن يرغب في فهم أعمق للخلفيات المذكورة، يُرجى الرجوع إلى:
- كلمة المطران يوحنا إبراهيم في مجلة “الحضارة”.
- اغتيال الاب اليسوعي فرانس اغتيال للعمل الإنساني.
- المقابلة الأخيرة للأب باولو قبل اختطافه، المنشورة في “الحضارة”.