“لستُ بالمادحِ ولا بالنائح، وما كانت كلماتي يوماً سهاماً للتجريح،
بل مباضعَ للنقد البنّاء، تُوجهها عينُ السياسيّ وتصقلها تجربةُ الأديب.
لطالما تصدّيتُ لتحديات المرحلة بحكمةٍ استقيتها من نبعِ انتمائي الوطنيّ.
واليوم، أكتبُ لأقاسمَ شعبنا نشوةَ الانعتاق من الاستبداد،
وأنا أقفُ على شرفة الأمل، أرقبُ بحذرٍ ما يحمله المستقبل من تحديات.”
“بهنان يامين”
مقدمة:
“فكيف لـمَن يصلي ويصوم ويذكر الله يومياً أن يظلّ صامتاً، كي لا نقول متواطئاً، وهو يرى الناس تموت جوعاً أمامه؟ ‘
أرأيتَ الذي يكذّب بالدين…’ الجحيم حضرت إلينا.
لسنا بحاجة لأن ننتظر نهاية العالم لنذهب إليها. لقد جلبناها إلى ههنا قبل أوانها.
وكان بمقدورنا، لو شئنا، أن نأتي بالفردوس إلى عالمنا الحاضر وألاّ ننتظر مجيئه في اليوم الأخير.
فضّلنا الجحيم على الفردوس.
وها نحن تأكلنا النار، ويهلكنا الجوع، ويزلزلنا البرد، ويميتنا القهر.”
من أدبيات الأب “جورج مسّوح“، من مقالته “الجحيم السوري”
المسيحيون السوريون: معادلة العدد والدور
يقول الدكتور “فارس سعيد” في إحدى مقابلاته التلفزيونية: “المسيحيون ليسوا عدداً، بل هم عدد ودور“. والحقُّ ما قاله الدكتور سعيد؛ فهذا التوصيف ينطبق اليوم تماماً على المسيحيين السوريين، إذ يتحتم عليهم أن يضطلعوا بدورهم الريادي في تشييد بنيان سورية الجديدة، سورية الدولة الحديثة، دولة المواطنة التي بشّر بها المطران المغيب “مار غريغوريوس يوحنا إبراهيم“، مطران أبرشية حلب وتوابعها. ذلك المطران الذي -وللأسف الشديد- اعتبر البطريرك “كريم” كرسيّ أبرشيته شاغراً، وعين بديلاً عنه، وكأنه بذلك أراد طيَّ ملف المطران المُغيّب قسراً في سجون المستبد الأحمق.
استحقاقات ما بعد سقوط الطغيان
اليوم، وقد شرعنا في بناء سورية الجديدة بعد فرار الطاغية المستبد ولجوئه إلى روسيا -حليفته في قتل الشعب السوري- نطرح على أنفسنا سؤالاً وجودياً:
هل نقف متفرجين ومنزوين؟ أم نلعب الدور الذي أراده لنا المطران المغيب؟
بالطبع، علينا أن نمارس الدور السياسي والدستوري والاجتماعي المنوط بنا، بصفتنا شركاء أصليين لا تكملة عدد، فمن أوجب واجبات المسيحي أن يقف ناصراً للحق حتى يحرره هذا الحق.
الخروج من عباءة الخوف وثقافة “الأقلية”
لكي نلعب هذا الدور بفاعلية، علينا أولاً الخروج من شرنقة الخوف التي فرضها علينا النظام البعثي عبر كافة مراحله. لقد كرس النظام إرهاباً أمنياً ممنهجاً دفع العديد من المسيحيين السوريين إلى الانكفاء والنأي بالنفس عن العمل السياسي، مما شكل فرصة سانحة لتحويلهم إلى مجرد “رعايا” لا “مواطنين“.
اليوم، تقع على عاتقنا مسؤولية تأسيس شراكة وطنية حقيقية مع كافة مكونات الشعب السوري، بأكثرتيه وأقلياته. وهذا يقتضي ترسيخ مفهوم المواطنة ونبذ عقلية الأقلية، بل ويجب علينا إسقاط “السردية الأقلوية” التي فرضها نظام الأسدين على السوريين كافة. فنحن، كما أسلفنا، عدد ودور فاعل.
خارطة طريق نحو دولة المواطنة
يتوجب علينا اليوم قبول الحوار مع الآخر، والعمل دأباً على نشر وعي متكامل يؤسس لمفهوم جديد للدولة السورية المنشودة التي تطمح إليها القوى الديمقراطية الوطنية. لقد كان المطران المغيب “يوحنا إبراهيم” صادقاً ورؤيوياً في كلمته أمام الخارجية الإيرانية وأمام المشاركين كافة، حين طرح خارطة طريق لبناء دولة المواطنة؛ الدولة الحديثة التي يصبو إليها الشعب السوري. دولة لا مكان فيها لمنطق الأقلية والأكثرية، بل لشعب سوري واحد، تماماً كما هتف المتظاهرون السلميون في بواكير الثورة السورية العظيمة.
تلك الثورة التي شبهها السياسي البلجيكي “كورت دو بوف” بالثورة الفرنسية التي أطاحت بديكتاتورية النبلاء وطغيان ملوك فرنسا، لتصل عبر مخاضاتها العسيرة إلى ترسيخ مفهوم المواطنة الذي صهر المجتمع بكل مكوناته. وكذلك مرّ الشعب السوري خلال أربعة عشر عاماً بمراحل متعددة، من السلمية إلى العسكرة، وصولاً إلى “أسلمة” الثورة، وانتهاءً بهروب الجبان الذي حارب متترساً بالآخرين.
الديناميكيات السياسية الجديدة وإمكانية التغيير
عملت القوى المتآمرة على الثورة السورية جاهدة لتفتيت النسيج المجتمعي السوري. ونتيجة لفشل النظام في القضاء على الثورة، استنجد هذا الكيان المتهالك بكل قوى الشر، من التطرف الشيعَويّ بقيادة حزب الله إلى الحشد الشعبي، مروراً بالزينبيين و الفاطميين و الحرس الثوري الإيراني، وصولاً إلى التدخل الروسي. لقد قام النظام بحشر كل من اعتبرهم “متطرفين سنّة” في إدلب، حيث نقلت الباصات الخضر هؤلاء ليتجمعوا ويقاتلوا هذا النظام، حتى تكللت جهودهم بإسقاطه صبيحة الثامن من كانون الثاني 2024، حين فر الطاغية ليلة سقوط نظامه.
الإسلام السياسي والحوار الوطني
بالعودة إلى الدور المسيحي في بناء الدولة الحديثة، فإنه واجب مقدس يقتضي المشاركة الفاعلة وعدم الخوف من “الإسلام السياسي”. فهذا الأخير ليس ذلك “البعبع” الذي أراد النظام تصويره لنا، بل هو تيار قابل للتغيير والتطور. وما تحول “أبو محمد الجولاني” إلى “أحمد الشرع” إلا أمثولة حية على إمكانية التغيير. لذا، على القوى المتنورة في المجتمع السعي للدفع نحو الاعتدال، دون أي توجس من الحوار مع الجميع. فالشعب السوري يشكل فسيفساء دينية ومذهبية وإثنية ثرية، والهدف الأسمى من الحوار هو بناء الدولة الوطنية؛ دولة القانون والعدالة والمساواة، وإنهاء العزلة التي فرضها النظام الأسدي الإرهابي لزرع الريبة بين المكونات.
الجذور التاريخية للنضال المسيحي السوري
لعب المسيحيون السوريون عبر التاريخ أدواراً سياسية محوريّة. ففي فترة الانتداب، كان العديد من مسيحيي سوريا في طليعة الرافضين له، ومنهم “قسطاكي حمصي“، و”فارس الخوري“، والمطران “إيسيدوروس فتال” (مطران حلب للروم الملكيين)، والبطريرك “حداد“، و”سعيد إسحق” وغيرهم. وقد شاركوا بفاعلية في العمل السياسي بعد الاستقلال.
إلا أن نظام البعث أرهب كل صادق في العمل السياسي، مؤسساً لـ “دولة الرعب” التي لم يسلم منها أي مكون. غُيّب القانون، وغصت السجون الإرهابية بالناس، من صيدنايا إلى فرع الخطيب، مروراً بفرع فلسطين (ولا أدري لمَ هذه التسمية!).
شارك المسيحيون في الثورة السورية بنسبة توازي تعدادهم السكاني آنذاك، وغُيّب العديد من قياداتهم في المعتقلات، أمثال: :
- خليل معتوق،
- سليم وردة،
- المطران يوحنا إبراهيم،
- الأب اليسوعي باولو داليليو،
- الأب اليسوعي الشهيد فرانس،
- ميشيل كيلو،
- الفنانة مي سكاف،
- الأب جورج مسوح،
- باسل شحادة،
- الشهيدة الصحفية الأمريكية ماري كالفن، وغيرهم الكثير.
ورغم ذلك، عمل النظام متحالفاً مع بعض المؤسسات الكنسية على تحويل من لم يشارك في الثورة إلى فئة مرتعبة على مصيرها، مطلقين الشائعات بأن البديل لنظام الأسد هو نظام مرعب سيقتص من الأقليات، وهو ما أثبت الواقع عدم صحته، فالنظام البديل أثبت أنه ليس مخيفاً.
نحو العدالة والمحاسبة والشفافية
لا يمكن إنكار الأحداث المؤسفة التي وقعت في الساحل السوري ذي الغالبية العلوية، ولكن المسؤولية لا تقع حصراً على الفصائل المسلحة، بل تشمل أيضاً بقايا النظام و الأجهزة الأمنية السابقة. ولقد تم تضخيم الأعداد والمبالغة في أرقام الضحايا لتصويرها كألوف مؤلفة. وكذلك الأمر فيما حدث في السويداء، حيث ضُخمت الأحداث والمسؤولية فيها مشتركة بين “بني معروف” وبين العشائر. لقد استغل العدو الإسرائيلي هذه الحوادث المؤلمة “لغاية في نفس يعقوب” كما يقول المثل التوراتي. من هنا تبرز الأهمية القصوى لتشكيل لجان تحقيق محايدة تحدد الأعداد والمسؤوليات، وتعمل على محاسبة كل مسؤول عن أي جريمة ارتكبها، لكيلا تترك الأمور سائبة.
خاتمة: شركاء لا رعايا
ختاماً، نعم، نحن لسنا مجرد عدد، بل “عدد ودور“، ويتقدم الدور على العدد. ولتحقيق هذه المعادلة، علينا أن نكون شركاء لا متفرجين ولا خائفين. على السياسة أن تتحرر من هيمنة الكنيسة وترفض خطاباتها المتشنجة، وعلى السلطة السياسية الحالية أن تعتمد على القوى الديمقراطية في المجتمع السوري لبناء دولة المواطنة التي تساوي بين الجميع في الحقوق والواجبات. بالطبع، الأمر ليس سهلاً، ولكنه حتماً ليس بالمستحيل.