مراراً كتبت عن الظاهرة الطائفية، ليس بمعنى وجودها التاريخي كحقيقة، ولكن من خلال تسييسها واستخدامها. حاولت الدخول إلى حقول ألغامها، وبعض أسرارها إيمانا بأهمية المعالجة، والدرس بحثاً عن استنتاجات تساعد في الفهم واستنباط الوسائل الأنجع للتعامل معها ..
ـ اليوم، وعلى وقع أفعال طائفية مبرمجة يقودها نظام أقرب إلى العصابات، ويدفع بها إلى هاوية الانفجار، وإلى إطلاق قطعان حاقدة انتزعت منها الآدمية فتحولت إلى وحوش ضارية، مكلوبة، فإن أسئلة كثيرة تتهاطل وعديدها يعود للتاريخ البعيد، أو أمس البعث القريب وقتما تمّ امتطاؤه، واستخدامه ثم تجويفه .. لتظهر تحت طبقة سطحه الرقيقة موبقات وآثام تطرح المزيد من التساؤل عن حقيقة ما جرى وموقعه من القصدية والبرمجة.. وصولاً لما نحن فيه الآن وقد فتح نظام الطغمة أشداقه عليها لتظهر أنيابه الخطيرة : مجازراً دموية تدعو لفتح بعض صفحات هذا الملف الخطير ..
ـ سنوات كثيرة مرت وعديد البعثيين، وغيرهم، يتناقشون فيما جرى للبعث من عمليات تطويف نسفت جوهره، ويقفون عند خلفياته، وهل كانت طبيعية، في سياق تحليل المسارات الظاهرة على السطح، أم أن مخططاً ما قادته عصب طائفية بشكل مسبق لنحر البعث وامتطائه واستخدامه واجهة، وتفريغه من مبادئه، ومن موقعه كحزب نهضوي وحدوي بدا في طروحاته النقيض لمخلفات ما قبل وطنية وطائفية، وباتجاه الوحدة، والأمة التي اعتبره البعض مغاليا فيهما حتى التعصب، ثم جرجرته إلى مستنقع لا علاقة له به سوى الغطس القسري فيه .
ـ بعض البعثيين، وفي مواقع قيادية، لم يعتبر الذي جرى من تصفيات لغير العلويين، ومركزات طائفية، فموضوعات في الجيش والبعث والسلطة عفويا ونتاج آثار خلافات البعث وأزماته الداخلية، بل يؤكدون الفل القصدي لمجموعات طائفية خططت وبرمجت، وقادت الأمور بتنهيج محكم وصولاً إلى الحالة الراهنة : التوريث، والفعل الطائفي شبه المكشوف، بينما يرفض بعض القياديين الآخرين هذا التحليل،وإن كانت عديد المؤشرات التي ظهرت تبقى غامضة على الإجابة المقنعة .
ـ سنترك حقل الألغام هذا لما فيه من شربكات، وخلافات، ونقف عند فعل الطاغية مذ داس البعث علانية بانقلابه التفحيحي وقتما مارس الفعل الطائفي الجريء في المؤسسة العسكرية ومفاصل الدولة، فاعتمد بالأساس في انقلابه على زمر معظمها من الطائفة، وموقعها في أهم المواقع الحساسة، وفي أجهزة الأمن، وظهر النهج فاقعاً في دورات الكلية العسكرية، وفي البعثات للخارج، وفيض التركيز على أبناء الطائفة العلوية وإشعارهم أن النظام القائم نظامهم، وحامي حماهم، ومحقق أمانيهم وأحلامهم، ورافع” المظلومية” التاريخية عنهم، وما عانوه من ” اضطهاد مركّب”، في الوقت الذي نشر أفقيا حالات الاستعراض السني ولبقية المكونات الدينية والمذهبية، خاصة في الوزارات والمواقع الإدارية، وأكثر من الصخب الشعاري الذي ظنّ أنه يعمي العيون عن رؤية الحقيقة .
ـ في المواجهات التي جرت بينه وبين “الإسلاميين” سابقاً، برز الوجه الطائفي علنياً، وإن تشرعن كرد فعل على عمل طائفي مارسته مجموعات إسلامية، أو حُسب عليها، وفي حماة المذبحة، والضحية، والانتقام (شباط 1982) انفجر عند كثير القتلة والذباحين ذلك الخزين وقد أطلقت غرائزه لأفعال وحشية تعيدها إلينا اليوم صور المجازر المتنقلة، وآخرها مجزرةالتريمسة، والحولة، وغيرهما، وبما يلقي بالأسئلة القوية على حجم التعبئة الطائفية، ومبلغ الأحقاد التي عبّئت فيها قطعان القتل .
ـ نظام طغمة الإجرام قالها صريحة منذ الأيام الأولى للثورة بوصف ما يجري بأنه ” فتنة ومؤامرة”، والفتنة وفق قصده فعل طائفي لأكثري ضد واقع طائفي أقلوي. وعلى أساس هذا الفهم القابع في عمق تفكير أهل النظام، والذي يشكل أحد الأسباب المهمة لاستحالة قيامه على مرّ السنوات بأي عمليات إصلاحية، ولجوئه إلى العتف وسيلة وحيدة، نرى لترجمات في تعبئات حاقدة مدعمة بالتسليح وإعداد قطعان بشرية نزعت آدميتها، وغسلت أدمغتها من أي مشاعر وطنية ضد آخر صوّر كعدو يجب قتله كي يبقى نظام الطغمة حامى الحمى، وكي تبقى الامتيازات، والفروقات التي أوجدها، بينما كانت الوحدة الوطنية تداس بحراب المجازر، ويوغل النظام في طريق الحرب الأهلية التي يدفع إليها بكل الاتجاهات.
ـ نعم نجح النظام، حتى الآن، في تجنيد أعداد كبيرة من أبناء الطائفة العلوية كجلادين، وقتلة، ومليشيات، وتمكن من خنق، ومحاصرة، وتهميش الأصوات المعارضة له، ذات التاريخ الطويل في مواجهته، أو تلك التي التحقت بالثورة، بأشكال ومستويات مختلف، بينما بدت مؤسسته العسكرية، والأمنية متماسكة حتى الآن بفعل عوامل متشابكة يبرز فيها الرباط الطائفي قوياً، الأمر الذي يفتح شهية بعض الاتجاهات لإطلاق الأحكام العامة، وحتى استباحة الآخر من موقع مذهبي،والتشكيك في صدقية المعارضين، أو في الحدود التي يذهبون إليها في معارضتهم، وطروحاتهم، التي لا تتجاوز عند البعض سقف الرهان على حلول سلمية وتفاوضية مع النظام. دون إغفال، أو إهمال أعداد مهمة التحقت بالثورة وانخرطت فيها، وتبنت مطالبها .
ـ وعلى وقع المجازر، والأفعال الشائنة التي تمارسها قطعان الشبيحة، وأهالي بعض القرى العلوية ضد الآخرين(السنة في معظمهم) ترتفع وتيرة المشاعر المذهبية المقابلة، خاصة في الوسط الشعبي الذي يتعرض للقتل والاغتصاب والتدمير، وتظهر دعوات وردود أفعال كلية الحكم، والشمول، وعمليات ثأرية، وإن ظلت محدودة، ومتقطعة، وتجابه وعي الثورة وفعلها الدؤوب للتمسك بأصلها، وبالوحدة الوطنية إطاراً، وبما يعني أن النظام ينجح في التأليب، والتمزيق، ومحاولات تشويه وجه الثورة وجوهرها، وتصدير الطائفة العلوية كاستناد رئيس له في معركته ضد الشعب، بينما تتحدث الكثير من المعلومات عن قلقلات، وتململ داخل أوساط الطائفة العلوية، وعن رفض متنام للمصير الخطير الذي يريد نظام الطغمة جرّهم إليها، واستخدام أبنائهم في حرب لا مصلحة لهم فيها .
ـ اللوحة الطائفية تفرض واقعها على المعارضة كي تتصدى لمخاطرها بعمل مدروس، وكي تواجهها بجرأة وتفضحها وتطرح بدائل واقعية،وليست شعارية، وتبريرية، وتجميلية، وتعميد الوحدة الوطنية بالمواقف التي لا تقبل البلبلة، وإغماض العين عن الواقع .
ـ الطائفية تغزو فئات واسعة من شعبنا، وفكرة الانتقام والثأر تنمو، وقد تفلت من زمام كل المحاولات التي تبذلها الثورة لضبطها، والنظام المجرم يكشّر عن وجهه الطائفي الحاقد، بحيث لم تعد شعاراته الدجلة تقنع أحداً، الأمر الذي يستوجب العمل السريع من كل أطياف المعارضة، وفي المقدمة منهم المحسوبين على الطائفة العلوية لتوضيح التخوم، وتعرية ما يجري، والالتحاق بالثورة .