“الويل لمن يقرأ التاريخ إن لم يكن كاتبه”
الشهيد مهدي عامل
ينبغي التنبؤ ،بتحول الخطاب الطائفي إلى أقراص جلة”روث الأبقار المجفف”،وقوداً لطبخة حصى لن تنضج أبداً، مهما علا دخانها ونفخ في نارها.
لم تواجه الإنتفاضات الشعبية العربية في تونس ومصر وليبيا واليمن أقليات طائفية حاكمة، بل أقليات إجتماعية ،لها بعض اللواحق والدمامل العائلية والعشائرية، تستحوذ على عموم المقدرات الإقتصادية والريوع المالية وتحميها بعنف مسلح سافر ومحجب، جندت من أجله تنظيمات فاشية عمياء وأغطية إمبريالية حمائية، وتتكئ على مقولات أيديولوجية من خفيف الكلام ونافله، لايمكن تنقيحه ولا إعرابه ولا البحث عن محسناته البديعية تضطر لسوقه بحالة تشبه التثاؤب للسيطرة على فراغ الكلام الذي تسببه، وللتأكيد على حقها وحدها به وإحتكاره في آن.
وتصاب هذه السلطات بنوع من الغرور، حين تتوهم من عليائها أن الناس يتلقفون “أفكارها” الباهرة كما يتلقفون أرغفة الخبز الساخنة من حلق التنور الملتهب ،ويبصمون لها بالأصابع العشرة على نوافل”أقوالها”،متجاهلة في ثقل الخيلاء وريشها المنفوش، تقارير مخبريها التي تصلها كل ثانية،أنه لم يبق لسان في البلاد لم يرو الطرائف عن أكاذيبها،ولم يبقى باب مرحاض عمومي في “الجمهورية “لم يحظى بكتابة ساخرة وتعليق على مقولات عبرت في يوم ما على لسانها وأضراسها وأنيابها، وفتحت الشعوب المقهورة أكداس الميراث الأيديولوجي لهذه الطغم وفتشت فيه عن الصلات والروابط بخفيف أقوالها وثقيله ولم يبقى للمناضلين الميدانين ورفاقهم المحجبين خلف أكداس الكتب والصحف سوى بولها وبرازها لتحليلهما وأخذ النتائج والعبر.
لم يترك الناس وسيلة للتعبير إلا وإستخدموها للتعبير عن رفضهم وتهكمهم ولفظهم كل مايمت لهذه الأيديولوجية الزاعقة المولولة بأية صلة؛من الهتاف إلى الصراخ فالصفير والرسوم ،وإستردوا في عجالة اللغة العصفورية والزرزورية من سالف العصور كي لايضيع زمن الإنتفاضة سدى وأبنائها مضطرين لقضاء وقتهم في أجواء غير آمنة حيث الوظائف الحكومية وإصطبلات تثقيف الأبقار وتدريبها على الخطابة ولعن الأعداء عن الطلب ودعم إتفاقيات تبادل أطباق المجاهدين المشويين ورفاتهم.
وإستعانوا بالإشارات الهوائية لتعليم الصم والبكم وكتب العميان الناتئه، والقرع على الطناجر وإطلاق البالونات والكتابة على موقع المؤخرة من البناطيل والتنورات والأظافر والوشم وربطات الشعر وأحزمة الخصر وراحات الأكف وأجنحة الحمام وفراء الكلاب وجلد الحمير، ورحبوا بضم الببغاوات والشحارير والكناريات إلى صفوف الإنتفاضة وقد باتوا يرطنون بأحرفها الأولى، وإعادة تلوين مياه الأنهار والبحيرات الإصطناعية وشواطئ البحر، والمجازفة بالوصول إلى الأعماق المائية الغادرة لإشهار القناعة عن رفض لزمن بات يعتبر آفلاً،والمخاطرة بالكتابة على أطراف السيارات التي تنقل المساجين والمدرعات التي تقصف المدن والبلدات، وحاملات الجند والشبيحة، ولحنت الأغاني على إيقاعات الطقاطيق والموشحات والدلعونا والميجانا والسامبا والرومبا والراب والهيب هوب والرقص الريفي الهادر على ضربات طبول هي الصوت الآخر لوجيب قلوب الفلاحين الثقيلة من تعب عتيق…وصلت يد الشعب وصوته إلى كل مكان، بواحدة من أوسع وأعمق عمليات تنظيف شعبي منذ إصطبلات أوجياس وحتى إفراغ زبالة حزب زين العابدين بن علي ومافيته الممتطية سرج الدولة وركابها في الحاويات.
تخسر الطغمة الحاكمة كل يوم مواقع من أيديولوجيتها المحصنة، والتي أعدّتها ك”قراوانة “لتقدمها طعاماً إلزامياً لأتباعها، أو من تتخيلهم كذلك.
تجري السخرية من الماضي الطبقي للطغمة العسكرية وحيثياته بالتأكيد الدائم على أصولها الريفية، يستعيد أبناء الطبقة الوسطى المشاركين في الإنتفاضة شحاطات البلاستيك، والشنكليش، والمته، وعدم تمييز الفلاحين بين أنواع السكاكر……….
وفقراء الفلاحين المطحونيين كحبات عدس بين رحى نظام سياسي هو تعبير عن سلطة ملاكين عقاريين وبورجوازية تعبر كقطط في صالونات الإنتداب.حينها يريد بعض الناشطين تذكير هؤلاء الذين كانوا في يوم ما أبناء لفلاحين، بماض قاتم حين تضطرهم سندات المرابين والفقر والجوع لرهن فلذات أكبادهم للعمل كخادمات في بيوت أعيان المدن، معتدون على طفولة الفتيات الفقيرات وبراءتهن، وكأن هذا خاص ببعض فقراء من يشار إليهم طائفياً، وكأن هذا عار عليهم لا على الشروط القاهرة التي دفعتهم إلى ذلك، وكأن هذا المسكوت عنه، لم يشمل عموم فلاحي بلاد الشام الفقراء، ويمكن العودة على بعض من روايات حنا مينه الأولى للتزود بمشاهد مؤلمة عن تلك الوقائع.
ويستعاد كذلك حرف “القاف “الفخم المدلل، الصلب والقاسي، غير مدركين أيضاً أن هذا الحرف هو الأداة التعبيرية الجامعة لعموم الأرياف السورية عدا الجزيرة والفرات حيث يحال هناك إلى “الغاف”وله أيضاً سخريته عند أبناء أعيان المدن. وهذا الحرف بمثابة تحد لغوي في وجه رطانة لغة المدن المطعمة بلغة المحتل التركية…..وينسى هؤلاء أن من يقوم بالإنتفاضة اليوم هم أبناء الفلاحين والقطاعات الريفية من المدن من جناح آخر من الشعب الذي يسخرون منه، وأن الثورة السورية هي أسيرة الحتمية الريفية إلى آن.
وتأتي السخرية من الطرف الآخر وهو يحاول العبث بالإنتفاضة الشعبية الثورية، في محاولة لتحجيمها والنيل من وطنيتها، وتحويلها إلى إنتفاضة أهل السنة.
والسؤال ما الذي يحول تاريخياً وإجتماعياً وإقتصادياً دون كونها إنتفاضة لأهل السنة، بحمولات قيم الحادي والعشرون، أي، الجمهورية المواطنية والعدالة والكرامة الإنسانية…والحرية المفتوحة كأفق لانهائي لاتلك الممنوحة في مغرفة الحساء البارد في عشيات السجون،نعم السجون الواسعة والضيقة، وهي غير عشيات الحمى، التي تصدع القلب الجلمودي!!وفق الشاعر المقنع الكندي.
وما الذي يحول كذلك دون تسرب أطروحات طائفية مضادة للنهج السائد، إلى إنتفاضة إنطلقت عفوية وجرفت في سيولها ترسبات حصى وأتربة وأشنيات من عوالق التمييز الطائفي العائد إلى نصف قرن مضى..
وكانت قد حملت الإنتفاضة الشعبية الفلسطينية حمولات إسلامية، في ردها على فاشية صهيونية بحمولاتها الدينية اليهودية، كذلك حملت الحركة الثورية لعموم شعب جنوب أفريقيا بعضاً من العداء للجنس الأبيض في سيرورة رد الإعتبار من جلافة وحيونة الطابع العنصري التبخيسي لأيديولوجية المستعمرين البيض، لابد من التيقن بالحواس والبصيرة مرة بعد أخرى، أن معظم الحركات الثورية في بلدان الرأسمالية الكولونيالية تتحرك ضمن أشكال وعي رأسمالية، ومعبرة عن مشروع البورجوازية في طور صعودها، حتى لو كانت أهدافها تتجه موضوعياً وتاريخياً ضد هذه الرأسمالية، وتناضل من أجل تقويضها.
سيتذكر الكثيرون ويذكرون بأسى أنه منذ عام 1963 لم تشهد وقائع المنع والحجب، حالات تخص الممارسات الطائفية العلوية العلنية حيناً والسرية حيناً آخر من اللجنة العسكرية الشهيرة والتي تدير شؤون حزب البعث والسلطة السياسية وأجهزة الدولة، ويمكن التحقق من ذلك بالعودة إلى كتابات البعثيين أنفسهم التي تؤرخ لتلك الحقبة، إلى جمعية الإمام المرتضى في أوائل الثمانينات، إلى أحزاب تولم الولائم الطائفية علناً حزب الوحدويين الإشتراكيين-زمرة أحمد الأسعد-ومئات لوقائع أخرى مثبته تكاد لا تنتهي……ولم يسوق هؤلاء وغيرهم الخطاب الطائفي كبضاعة صينية سريعة العطب،بل كبضاعة أصلية .
لكن ماستثبته الإنتفاضة الشعبية لحاملي هذه الأيديولوجية في كل يوم وساعة أن تلك الحمولة ليست سوى بضاعة صينية من متاجر كل قطعة بعشرة ليرات وإنها سريعة العطب كذلك، يكفي أن تقع من يدك حتى تتهشم، تسترد كل ذلك وهي تعيد صياغة الهوية الوطنية بروح نقدية صبورة وبتأن صائغ يثبّت عقده الذهبي بثقة ويختار ماساته بحرفية، واقعاً في أسر جمالية الألوان وفورانها.
لنكن منصفين، لايمكن تحميل الطغمة العسكرية التي إستولت على السلطة من آذار 1963كل الحمولة الأيديولوجية للطائفية وتوابعها من العشائرية والمناطقية، فهذه الطغمة وطنت مشروعها الطبقي-مشروع البورجوازية الصغيرة- المأزوم على تكيّيف هذه البنى وإعادة إنتاجها، هذا المشروع الذي يشكل بذاته موقعاً إشكالياً في لوحة الصراعات الإجتماعية وتنضيدها.
الهوية الوطنية السورية لم تكن واضحة الملامح بعد الإستقلال عن الإنتداب الفرنسي، والقوى الإجتماعية التي ورثت الإستقلال ولم تصنعه، لم تنتج جديداً عن مرحلة الإنتداب، أدارت ظهرها كتعبير عن عجز سياسي وطبقي عن مواجهة إستحقاقات البديل الوطني للإنتداب، وهو ما يفضي بالضرورة التاريخية إلى الصدام الدامي مع مخلفات الإستعمار :المواجهة الحاسمة مع الكيان الصهيوني، وإستعادة الوحدة العربية وفق صيغ ثورية بديلة، مما يفرض صداماً لامندوحة عنه مع الإمبريالية، والإلتفات إلى القضية الإجتماعية والتي تشكل المسألة الزراعية مدخلها الحاسم.
ولنميز بين مرحلة ماقبل الإمبريالية وما بعدها، الطائفية والعشائرية والمناطقية والعائلية….ليست منتجات الهجوم الإمبريالي على المشرق العربي ولكن لا براءة إمبريالية في التعاطي مع هذه البنى في سوريا،في إعادة ترتيبها وصقلها، أو في عموم التاريخ الإستعماري، للإطلالة عليها يمكن العودة إلى التكوين الإجتماعي وسيروراته في المرحلة العثمانية.
المنتج الإمبريالي على المستوى السياسي والحقوقي هو الكيان الصهيوني والتجزئة، المحميان بإتفاقيات إمبريالية ومؤسساتها الدولية وقواتها العسكرية وإعادة إنتاج وصياغة الهوية الوطنية، لا يمكن أن يتحقق بفعل نكوصي وتكيفي، لذلك تظهر الهوية الوطنية في حالة أزمة متجددة، هي عينها أزمة الطبقة الحاكمة عبر تمظهرها في المستوى الأيديولوجي وثباتها فيه…..الإفراط في إلإعتماد على ثنائية متضادة شكلاً: تجاهل الطائفية/إعلاء من شأنها يطرح سؤالاً عن مقاربة الإنتفاضات الشعبية العربية وهي تتحرك في بنى إجتماعية،غير مبلورة التخوم الطبقية والسياسية وبغياب دور أحزاب ثورية ومنظمات الدفاع الذاتي كالنقابات وغيرها…كل ماكتب يؤكد أن الطائفية مشكلة إجتماعية وأيديولوجية.
حسناً، لا يمكن حل أي مشكلة عن طريق تجاهلها، ولن يكون إلا بمواجهتها، أي الكشف عن أسبابها العميقة والسطحية، وإقتراح حلول لها.
يظهر التاريخ في سورية على شكل تواريخ متوازية، تفتقد للتماسك الوطني الجامع، وللقراءة الواحدة للحدث وللشخصيات ودورها الحقيقي لا المتخيل منها…. لا يمكن الحصول على الإجماع في كتابة التاريخ، ومن غير الضروري الحصول عليه، لأيمكن كتابة تاريخ يرضى عنه المماليك والعثمانيون والمستعمرون الأوروبيون على سبيل المثال، ولا المعتاشين على كسوره وفتاته، وهذا ليس من جديد المرحلة ما بعد استعمارية، بل مما هو أقدم منها.
للاستشراق الإمبريالي حصة، وللخطاب العربي الرسمي المسيطر حصة، وللتواريخ الانعزالية للطوائف حصة، الشعب هو الغائب الوحيد عن التاريخ وهو بطله.
لا يمكن كتابة التاريخ ونحن خارج مصنعه، ينبغي الدخول إلى مصنع التاريخ: الشعب وحركاته الثورية الم تجددة، في احتمالاتها المفتوحة، لا يمكن تركيب هوية على شكل “البازل “مصطنعة ومرتبكة وهشة، مما يجعلها في حالة من الترنح وعدم المصداقية على الدوام ،كتابة التاريخ تحتاج إنحياز لشغيلة التاريخ بشكل حاسم من أجل إنتاج جدارية تليق به وبمن صنعوه.،تتلهى الطغم العسكرية بالتاريخ وتوحي وهي تقلبه بين كفيها كبلورة العرافين: هذا التاريخ قنبلة عنقودية، وفي أحسن الأحوال قنبلة إنشطارية، لا يمكن العبث به، ولا يمكن المزاح معه، ينبغي تركه كما هو، أي كما ترغب هي.
“الويل لمن يقرأ التاريخ إن لم يكن كاتبه” نتذكر أن هذا العبارة الحارقة للشهيد مهدي عامل في ذكرى استشهاده الخامس والعشرون قبل أن نتقدم بوردة نحو مجد ثورته.
حلب أيار 2012