قطع «الإخوان المسلمون» في سوريّة وتونس خطوتين معتبرتين الأسبوع الماضي، أكان في ما خصّ الأقلّيّات والمرأة، أو في ما خصّ الشريعة والدستور. ويبدو أنّ «الإخوان» الشرق أردنيّين في صدد تركيز عملهم السياسيّ على مسائل الوطنيّة الأردنيّة، بدلاً من هوائيّة القضايا الإيديولوجيّة العابرة للحدود. وكان «إخوانيّو» المغرب قد شكّلوا حكومة تطمح إلى انتزاع مزيد من الصلاحيّات التدريجيّة، من ضمن علاقة تكامليّة مع العرش – المخزن. وغير بعيدة من هذه التجارب تجربة «الإخوان» الأتراك، جماعة «حزب العدالة والتنمية»، التي كثر تحليلها وتقليب أوجهها.
وهذا لا يعني، بطبيعة الحال، أن «الإخوان» قطعوا الشوط الذي يتمنّى لهم حاملو الأفكار السياسيّة الحديثة أن يقطعوه. كما لا يعني أنّهم بدّدوا كامل الشكوك المشروعة في ما خصّ مواقفهم من المرأة والأقلّيّات والشريعة، أو، على جبهة أخرى، في ما خصّ الصلات الغامضة بالأطراف الإسلاميّة الأكثر راديكاليّة وتخلّفاً. وعلى العموم فإنّ استواءهم عند موقع حديث ومعاصر، وعند صورة عن العالم تشبه العالم، لا يزال مهمّة تحضّ على الضغط من أجل حلّها.
بيد أنّ التطوّرات المذكورة تقطع في أمر واحد هو أنّ «الإخوان المسلمين» يتغيّرون، بغضّ النظر عن الاختلاف في تقدير درجة التغيّر. وعن هذا تنشأ وثائق ومواقف قد لا تكون مطلقة الإلزام، ولا مطلقة الضمانة، غير أنّ فيها شيئاً من الإلزام والضمانة يجعل ما بعدها مغايراً لما قبلها.
وأهميّة ذلك لا تقتصر على الحيّز الفكريّ الذي يطال الفكر والممارسة السياسيّين الإسلاميّين، بل تتناول أيضاً الآفاق السياسيّة والوطنيّة الأعرض. ذاك أنّ التغيّر المذكور يحصل في المتن العريض، وليس في نطاق تنظيم يساريّ صغير يراجع «منطلقاته النظرية» أو يناقش «برنامجه السياسيّ». كما أنّنا لسنا حيال شكل من أشكال الإعاشة السياسيّة التي تمثّلها منظّمات المجتمع المدنيّ الحسنة النوايا بالطبع.
ولتقدير ما هو مقصود يكفي أن نتخيّل لو أنّ الإمام الخمينيّ والذين وصلوا معه إلى السلطة في 1979 دشّنوا تحوّلاً ديموقراطيّاً تدرّجيّاً يتمّ تحت مظلّة الإسلام. مثل هذه الفرصة كانت لتكون أوزن وأهمّ بلا قياس من سيطرة «فدائيّي الشعب» أو «مجاهدي الشعب» على إيران. ذاك أنّ الثقل الجماهيريّ الذي حمل الخمينيّ هو، أقلّه نظريّاً، أضمن للاستقرار وللديموقراطيّة من فصائل «طليعيّة» تعوّض طابعها الأقليّ بتمكين قبضة الاستبداد والديكتاتوريّة.
بيد أنّه، ولأنّ الطابع الأكثريّ ليس كافياً بذاته، انتهينا، مع الخميني، إلى فرصة ضائعة. وهو ضياع لم يتأخّر في الظهور، فأطلّ لدى الخلاف مع المهدي بازركان وحكومته، ثمّ كرّسته القطيعة مع أبو الحسن بني صدر.
وفي النهاية قاد الخميني المتن الإيرانيّ العريض في اتّجاه أكثر ديكتاتوريّة واستبداداً ممّا كان عليه الشاه، كما أسّس للثورة الرجعيّة بعد قرابة قرنين على الثورة الديموقراطيّة الفرنسيّة. وبدل الحرّيّة والإخاء والمساواة وتحرير السياسة من الدين والحدّ من الهرميّات التي تحكم علاقات الطبقات والأجناس، أقيم نظام يوطّد الهرميّات من كلّ صنف، ويربط السياسة ربطاً محكماً برجال الدين.
وقصارى القول إنّ ما فعل الخمينيّ نقيضه مطروحٌ فعله اليوم على «الإخوان المسلمين» العرب. وهنا سيكون المسار نفسه أهمّ من القول المتعجّل بعلمانيّة صريحة وقاطعة (لم تقل بريطانيا بعد بمثلها) أو بحقّ المرأة في تولّي أرفع المناصب، على رغم أهميّة المطلبين.
فلنعاين المسار هذا بدقّة، مع ما يستدعيه من ضغط يُستحسن أن يأتي محكوماً بالقدرات والإمكانات الفعليّة. وحصول هذا الذي يحصل في المتن العريض إنّما يستوجب ذلك من قبل أوسع الفئات ويحضّ عليه.