المسيحيون بعد تهجيرهم القسري من الموصل منير درويش

المسيحيون بعد تهجيرهم القسري من الموصل

منير درويش

منير-درويشإذا كانت جريمة تهجير المسيحيين من الموصل بعد رفضهم طلب الأسلمة أو دفع الجزية أياً تكن المجموعة الهمجية الظلامية التي ارتكبتها قد أثارت موضوع تهجير المسيحيين من البلدان العربية ، فإن هذه القضية ليست جديدة بل هي امتداد لسياسة الهجرة التي جرى تنفيذها منذ فترة طويلة ، لكن هذه الحادثة فتحت الأعين مجدداً على موضوع التهجير الذي لم تعد شروطه تتوقف عند حدود العوامل ( الناعمة ) التي أدت من الهجرة وفق الرغبة الفردية إلى التهجير القسري المترافق بالتهديد بالقتل إذا لم يحصل .

قبل هذه الحادثة لم يكترث أو يهتم الباحثون كثيراً بقضية التهجير التي أتينا عليها في مقالتنا ( العرب المسيحيون من الهجرة إلى التهجير ) المنشورة في كتابنا ( هجرة المسيحيين من الوطن العربي ) الصادر عن دار حوران عام 2010 لأننا جميعاً كنا نتناول هجرة المسيحيين من المنطلق الأخلاقي الرومانسي المبني على التمنيات باعتبار أن هذه الهجرة كانت تتم في كثير من الأحيان وفق رغبات ذاتية رغم الظروف القاسية التي تجعل هجرتهم إجباراً أكثر منها اختياراً . لقد صدرت مواقف لا تحصى تجاه هذه الهجرة خلال العقد الماضي كان من أبرزها رسالتين من الأمير الوليد بن طلال والصحفي محمد حسنين هيكل لكن هذه الدعوات كانت في مجملها تتمنى على المسيحيين البقاء في بلدانهم وتشجيع الآخرين لمساندتهم على هذا البقاء . من منطلق ( تاريخانية وجودهم في هذه البلدان ووحدة النسيج الاجتماعي ) دون اتخاذ إجراءات سياسية أو فكرية أو اجتماعية تساهم في دفعهم للبقاء .

حتى عام 1990 كان عدد المسيحيين في العراق حوالي مليون ونصف المليون نسمة ، بعد الاحتلال الأمريكي للعراق انخفض عددهم إلى حوالي 700 ألف نسمة حيث هاجر اغلبهم بعد عمليات القتل والاعتقال والاعتداء على الكنائس والمنازل من قبل قوات الاحتلال أو السلطة المحلية وجماعات مساندة لها ، وبلغت الهجرة ذروتها بعد اختطاف المطران بولس فرح آحو في الموصل وقتله 29 / 2 / 2008 وجريمة أيلول أيضاً التي ذهب ضحيتها ثمانية من مسيحيي الموصل وعلى إثرها وجه بطريرك السريان إغناطيوس الثالث رسالة للمالكي يقول فيها " نستخلص من عجزكم التواطؤ في عملية تفريغ الموصل من المسيحيين القاطنين فيها منذ قرون " . كما أن تفجير كنيسة النجاة في بغداد 31 / 10 / 2010 زاد من الهجرة إلى الخارج أو إلى كردستان حيث لم يبقى في العراق أكثر من 300 ألف نسمة هاجر اغلبهم إلى سهل نينوى و كانت إمكانياتهم محدودة جدا مع عائلات لها تاريخها العريق في الموصل قاومت سابقا جميع الضغوط لهجرتهم ، وهؤلاء هم الذين طالهم التهجير الأخير ، وكان الرئيس العراقي جلال الطالباني قد عرض على من تبقى من المسيحيين أن يشكلوا لهم (محمية) في هذا السهل يقومون بحمايتها لكنهم رفضوا هذا الطلب كونهم مواطنين تقع حمايتهم على عاتق السلطة العراقية التي لم تكن بعيدة عن عملية التهجير هذه . لقد عبر أحد الناجين من جريمة تفجير كنيسة النجاة " أنه لم يفكر بالهجرة من بلد أبائه وأجداده لكنه يخشى على ابنه الذي يعيش هاجس الخوف المستمر بالقتل في المدرسة والبيت خاصة بعد استهداف جميع المسيحيين في العراق وعمليات القتل التي جرت في الموصل وبغداد " .

لا شك أن المسيحيين كانوا على مر الزمن يشعرون بالقيود المفروضة على بعض تحركاتهم كالفتاوى التي أصدرها بعض رجال الدين في دول عربية عدة والتي تحرم مثلاً التعامل معهم بيعاً وشراءً ، كما تحرم مشاركتهم في أعيادهم وتهنئتهم في هذه الأعياد ، وفتاوى أخرى تشمل طوائف أخرى تعزز النزعات الطائفية البغيضة . وفي كل الأحوال فإن السلطات في هذه الدول والمؤسسات الدينية وقفت أحياناً عاجزة أو متفرجة على مثل هذه الأحداث رغم أن القوانين تخولها منع هذه الفتاوى أو ضبطها وتوقيفها لأنها جزء من التحريض المذهبي والطائفي الذي يأتي أحيانا في خدمة هذه السلطات لذلك ليس مستبعداً ان تساهم فيها . إن الفقر والبطالة والحاجة والاستبداد وعدم المساواة بين المواطنين والتمسك بالسلطة كلها عوامل أتاحت الفرصة لنجاح الفتاوى التي يطلقها رجال دين لهم تأثيرهم في ظل الوعي المتخلف على تيارات واسعة يصغون لهم وينفذون ما يطلبونه بينما تقف السلطات بسب سياساتها هذه عاجزة عن مواجهتهم بعد أن كانت قد أطلقت لهم عنان النشاط كسباً لتأييدهم .

إن جريمة تهجير المسيحيين من الموصل لن تقف عند حدود معينة في ظل عراق يتفكك وتسوده حملة تجييش مذهبي وطائفي تطال المنطقة كلها بل ستطال فئات عراقية أخرى ، ( هناك إشاعة بأن بعض المجموعات الشيعية المتطرفة في البصرة طالبت السنة بمغادرة المدينة أو التعرض للقتل ، وإذا ما صحت هذه الإشاعة ونتمنى ألا تصح يكون العراق قد دخل في مرحلة خطيرة جداً في تاريخه وسيكون لها انعكاسها على مجمل بلدان المنطقة التي لا تقل عنه تفككاً ) ، كما أن تهجير المسيحيين ترافق مع فرض الفئات التي شاركت في التهجير إيديولجيات ظلامية من نوع آخر لا تقل خطورة عن تهجير المسيحيين ، كتكفير بعض الفئات الأخرى أو تدمير الأضرحة والتماثيل التي تشهد على تاريخ العراق و ( فرض الختان على الفتيات في الموصل كما يقال ) .

إن الإدانة والاستنكار والشجب لمثل هذه الجرائم أو الطلب من المهجرين الصمود والصبر لم تعد كافية للتعبير عن الحزن والأسى والعذاب أو للخسائر البشرية والمادية والمعنوية التي لحقت بالمسيحيين في العراق وقد تلحق بهم في بلدان عربية أمام تمدد القوى الظلامية في مناطق واسعة وعجز الحكومات عن حماية المواطنين فيها بل أن ذلك يتطلب حملة شعبية واسعة تساهم فيها كل القوى الوطنية والمؤسسات الدينية ذات الفاعلية في هذه البلدان وحملة عربية إسلامية وعالمية لوقف عملية التهجير هذه وتقديم كل ما تتطلب ظروف المهجرين من عون كمرحلة أولية حتى يوضع حداً لهذه الفئات وتصرفاتها الهمجية .