منذ انطلاق “الثورة” في تونس ثم تدحرجها إلى العديد من البلدان العربية، رافعة شعار الحرية والكرامة وإسقاط أنظمة الاستبداد والديكتاتورية الفاسدة، توسّم الكثيرون منّا الخير والأمل في بناء دول عصرية، علمانية، وديموقراطية تستعيد كرامات الناس وحقوقهم المهدورة منذ عقود، إن لم نقل منذ قرون. ولكن على قول المتنبّي، تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.
حقيقة الأمر، أن تلك “الثورات” كشفت بشكلٍ فاضح عن مدى عقم وعجز العقل العربي والنُخب السياسية والثقافية في تلك المجتمعات عن التجديد والإبداع، الذي يتناسب مع ما أنجزته التجارب الإنسانية عبر كل العصور، وخاصة في القرون الأربعة الفائتة من تطور أساليب الحكم وبناء الدولة الحديثة على أُسسِ المواطنة، وضمان حقوق الفرد والحريات العامة وحرية الرأي والتفكير، وفصل الدين عن الدولة، مع ضمان حرية العبادة لجميع المعتقدات المنضوية تحت سقف الوطن الواحد، بحيث تكون الدولة وسلطتها على مسافة واحدة من الجميع وحمايتهم، فقام العرب بكل بساطة باستنتاجات عكسية تماما،ً وارتدّوا إلى ما قبل عصر التنوير والنهضة؛ بل إلى ما قبل العصور الوسطى، ليعودوا إلى المربع الأول ونقطة البداية، حيث انطلقت الدعوة الإسلامية في القرن السابع الميلادي.
وبعد أن فشلت الحركات والأحزاب القومية والاشتراكية واليسارية وطليعة المفكرين والمثقفين على مدى أكثر من ستة عقود في تقديم أي نموذج حقيقي للدولة المدنية العصرية، عقب خيانة معظمهم الدور الحقيقي المُناط بهم تجاه أوطانهم ومجتمعاتهم، حيث اختاروا الأكل من طبق السلطان الاستبدادي والضرب بسيفه، وما زالوا حتى اللحظة يفعلون.
لهذا، انطلقت احتجاجات فيما سُمّي بالربيع العربي شعبيّاً دون أي قيادة سياسيّة أو رؤى فكرية واضحة، فانتهز الإسلاميون الفرصة وتحرّكوا لملء الفراغ وركبوا تلك “الثورات” وسيطروا عبر الانتخابات على البرلمانات والحكومات والرئاسة. وها هم في مصر، مثلاً، يحاولون عبر رئاسة مُرسي إعادة إنتاج استبداد من لونٍ آخر في السيطرة على كل مرافق الدولة ومؤسّساتها، بما فيها السلطة القضائية، وهذه سابقة في مصر يصفها بعض المحلّلين المصريين بأنها كارثة حقيقية ستحل بالنظام الديموقراطي المأمول في الجمهورية الثانية.
من غير المتوقّع أن يقوم الإسلاميون بأي حركة تحديث للمجتمع والدولة على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي والتعليمي، بل ربما العكس هو الصحيح.
أولاً، لا يمكن لأي تقدّم اقتصادي أن يحدث دون تحديث مناهج التربية والتعليم في جميع مراحله حتى الجامعات، على غرار ما حصل في الدول التي استطاعت القفز اقتصادياً بفترات وجيزة إلى دول متقدّمة ومُنتجة في معظم الحقول، أمثال كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورا وماليزيا وسواهم، بعد القضاء على الأميّة وإعطاء دور رئيسي مُشارِك للمرأة في كل مناحي الحياة، وهذا على الأغلب لن يحدث في ظل حكومات وبرلمانات إسلاميّة تغرف من معين التراث الإسلامي والشريعة ومنها تستمد رؤيتها وأحكامها.
وعلى صعيد الحريات الشخصية والعامة، سوف تتأثر تلك المجتمعات سلبياً في القرارات والإجراءات التي سيحاول الإسلاميون فرضها من خلال البرلمان وباقي مؤسسات الدولة، التي سوف يسيطرون عليها بعد أن فرضوا دستورا يجعل من الشريعة الإسلامية مصدرا رئيسيا للتشريع، وسيتم تقييدها على نطاق واسع يُعيق من حركة المجتمع وتقدّمه بكافة الصُعُد، وسيدخلون في صراعٍ مرير مع حركات المجتمع المدني والأحزاب الليبرالية واليسارية، مِما يجعل البلد في توتر دائم. وسوف تُهدّد السياحة بشكلٍ لافت خاصة بعد سماعنا لفتاوى إسلامية بهدم الأهرامات وتمثال أبي الهول وباقي الأوابد الأثرية منذ عصر الفراعنة، على غرار ما فعله الطالبان في تمثال بوذا في أفغانستان، وحتى لو لم يخرج هذا الأمر للتنفيذ إلا أنه من البوادر المقلقة للعالم والمصريين وللحركة السياحية والعائلات التي تعتاش وتعتمد في مدخولها على السياحة بشكلٍ أساسي. وسوف تنسحب هذه الرؤيا الإسلامية المتخلّفة على الثقافة والفنون والإبداع بكل أشكاله: الفن التشكيلي، الموسيقى، المسرح، السينما، الرواية، الأدب، الشعر، وحرية الفكر والاعتقاد. هذا كلّه، سوف يخضع لمنظور إسلامي مُتشدّد يُدين، وربما يُحاكِم كل من يشبُّ عن طوقه، وبالفعل بدأوا بإقامة دعاوى على الفنان عادل إمام بسبب بعض أفلامه التي يتعرّض فيها للإسلاميين بالسخرية والنقد وعلى الشاعر أحمد فؤاد نجم من أجل عبارة في قصيدة، حتى أنّهم عادوا عشرات السنين إلى الوراء ليمنعوا فيلم “أبي فوق الشجرة” لـ عبد الحليم حافظ، وعلى هذا يجب أن نقيس..!
ما يُقلقنا اليوم نحن كسوريين، هو ظهور الكثير من الكتائب التي تقاتل نظام الأسد الاستبدادي، ذات خلفية إسلامية متشدّدة. ويظهر هذا من الأسماء ذات المرجعية الدينية، وأحياناً الطائفية التي يطلقونها على كتائبهم. فكثيرون في المجتمع السوري، باتوا يشعرون بالخوف والقلق من نشوء تلك الحركات وانتشارها في أرجاء سوريا، وبعضهم يقوم بسلوكيات تُنذر بالخطر على وحدة المجتمع السوري ومكوّناته المتعدّدة والمتنوّعة، مثل إنشاء مجموعات يُطلق عليها “الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر” وهؤلاء ينطلقون من أحكام الشريعة الإسلامية، وينفّذون بأيديهم الأحكام على الناس وإقامة الحدّ عليهم، مِما أثار رعباً جديداً لدى العديد من قطاعات المجتمع السوري الذي لم يستسغ يوماً التطرف الديني والطائفي على مدى تاريخه السابق.
إن سلوك نظام الأسد الفاشي الوحشيّ الدمويّ وحجم العنف الرهيب الذي استخدمه تجاه السوريين منذ بداية الثورة، كان كافياً أن يوقظ كل شياطين الأرض من جحورها ويستثير أفظع غرائز العنف والتطرّف والانتقام.
على الرغم من ذلك فإن العديد من المثقفين السوريين يستبعدون استمرار هذا العنف والتطرف بعد سقوط النظام. ولكن تبقى التخوّفات مشروعة، فإذا ما استمرّ الربيع العربي على هذا النحو التصحّري ومن المحاولات المتزايدة في سيطرة الإسلاميين على المشهد والسيطرة على السلطة، فإن الورود ستجِد صعوبة في البزوغ والانتشار، فالصحراء لا تُنجِب الروض، وحتى الربيع لا قيمة
له إن خلا من حُسنِ ساكنيه.
فعلى قول الأخطل الصغير:
فالروضُ مهما زهت، قفرٌ إذا حُرِمت من جانحٍ رفّ أو من صادحٍ صدَحَ
وهيب أيوب
الجولان السوري المحتل