ياسين الحافظ : الوعي المطابق، العقلانية، والنهضة بقلم د . فؤاد حرب

ياسين  الحافظ :  الوعي المطابق، العقلانية، والنهضة

                                                       د . فؤاد حرب

بمناسبة الذكرى الخامسة والثلاثين لوفاته  

 

 1 اسين الحافظ

    قبل  عقود، شكلت أفكار المفكر العربي  الكبير الراحل ياسين  الحافظ، ولا زالت، نقلة هامة في تشكيل الوعي السياسي لشريحة واسعة من النخبة  السياسية  العربية، وذلك من خلال طرح الأفكار، والتي خالفت بشكل واضح ما  كان يطرح آنذاك من قبل بعض النخب السياسية العربية.

وكان ياسين الحافظ قاسيا بصراحته، عنيفا في جدله، وواقعيا في تشخيص وتوصيف الواقع العربي، في فترة غنية بالأحداث، مليئة بالأفكار والأطروحات، مكتظة بالباحثين  والكاتبين والأيدلوجيين .

    كان  يردد دائما (لنخرج  عقولنا  من الواقع، لا أن نخرج الواقع من عقولنا) تلك المقولة التي اختصرت وللأسف  مسار حركة الفكر العربي في حقبة من الزمن، أوصلتنا باستنتاجاتها ومواقفها إلى ما نحن  عليه  اليوم.

   كان ياسين الحافظ  يرى أن (الحنين، الإيهامي بالطبع، إلى التقليدي والماضي من جهة، واللهاث، القاصر بالطبع، وراء المعاصر من جهة  أخرى، يلخصان  مأساتنا وغربتنا، التقليدي يهرب منا ويبتعد أكثر وأكثر، والمعاصر  يسحقنا  ويتخطانا أكثر وأكثر، وفي هذا النوس  نفقد  التوازن وينفصم وعينا عن  حاجاتنا)

    كان  يرى أن هناك، وفي مختلف جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية في المجتمع العربي، صور لما كان عليه الوعي  لذلك  الواقع، وكان يحاول تشخيص ذلك الانفصام بين الواقع والوعي في الحياة العربية بشكل عام وفي الحياة السياسية " بمعناها الشامل " بشكل خاص.

   كان  يرى أن حجر البنيان في السياسة الحديثة أنها سياسة ترتكز على: المصلحة القومية وليس العقيدة الدينية، وعلى التميز بين الحقيقة الواقعية والمعتقد، وأخيرا سيادة الأمة.

   ان  السياسات الحديثة في فكر ياسين الحافظ  تقوم على مبدأ العقلانية في تحريك الأشياء والبشر، وعلى الفائدية، وأنها تصاغ في مجتمع قطع  شوطاً هاماً في دمقرطة مركز القرار فيه.

   كان يحذر باستمرار من تضخيم الحلم على حساب  الواقع، وعلى الأيدلوجية أن تخضع فهم الواقع فهماً مطابقاً  للحقيقة، وأننا لن نستطيع رسم ملامح الدولة والسياسة العصريتين إلا إذا تم تحقيق الشروط التي نشأت فيها  وتبلورت في إطارها ملامح الدولة والسياسة العصريتين .

    كان ياسين الحافظ يأخذ على الكثير من أصدقائه أنهم لا يرون الواقع بكل تفصيلاته ودقائقه وخباياه، وأنهم يتمترسون خلف أيدلوجيا دون استنباط  للواقع واستيعابه. وكانت مسالة الوعي المطابق عنده مركزية وراهنة  وأساسية في العمل السياسي .

    في كتابه (اللاعقلانية في  السياسة العربية) والذي هو مكرس لنقد السياسات العربية في فترة ما بعد الناصرية  والتي شغل في تحليلها ونقدها ودعمها حيزا كبيرا من عمله الفكري، كتب :

(لقد بقيت الدولة العربية في شتى أشكالها البرلمانية "الثورية"، الأوتوقراطية، العسكرية، التي ارتدت إطارا  شبه حديث مع الاجتياح الاستعماري، ذات بنية تقليدية من حيث الجوهر.  والصفة الأولى المميزة لدولة ذات بنية كهذه ليس كونها فوق  المجتمع، بل أيضا كونها توفر اندماجا بين السلطة وممارسيها، هذه الدولة، حيث التقليد السياسي العربي ذو الطابع  الثيوقراطي، لا يزال مغروزا في أيدلوجيا الكتلة الهامدة من الأمة، وبالتالي حيث الشعور بالرعوية  إزاء  الدولة هو الغالب لدى القسم  الأكثر تأخرا من الأمة، وحيث الشعور بالمواطنة لدى القسم الأقل تأخراً  منه لم يصل في حدته إلى مستوى عنيد  وقتالي (فيتخذ في حالة الرفض طابع عزوف أو انطواء، وفي حال القبول طابع تأييد لا  مشاركة)، هذه الدولة تتيح أوسع الفرص  لممارسة أقلية ما هيمنة دائمة، والصراعات حول السلطة (وكثيرا ما تعتبر هي السياسة في هذه المجتمعات  المتأخرة) داخل هذه الأقلية تسهم أكثر في تعزيز السيطرة، الممارسة، لا إضعافها. هذه الأقلية الأقوى من الشعب والراكبة عليه، بإلغائها الحياة السياسية للشعب، تعطل بالنتيجة  عملية تحديث السياسة وتعرقل دمقرطتها، أن تعرقل عملية تحول الفرد إلى عضو في الدولة)

    فالعقلانية التي كان يدعو إليها انطلقت من  فلسفة الأنوار استنادا إلى الاكتشافات التي حققتها العلوم المختلفة   فكتب عنها يقول (ان العقلانية الجديدة، وهي الليبرالية على الصعيد  المعرفي، تؤمن بالاكتشاف التدريجي للحقيقة  سواء في الطبيعة أو المجتمع، بواسطة العقل وحده، تحت رقابة التجربة.  لذا فهي ترفض الميتافيزياء، المسبقات، المطلقات، المعتقد ألأيماني، الوحي، التي كانت مناهج المعرفة الوسطوية).

    كان  ياسين الحافظ يرى أن مشكلة التأخر العربي اكتسبت حدتها ومرارتها في سلسلة  الصدمات التي واجهتها  الأمة العربية منذ ثورة يوليو 1952 وحتى الحرب الأهلية اللبنانية، وكان أن  السياسة اللاعقلانية وتأخر الأقليات  المهيمنة على السلطة ليستا فقط المسئولتان عن مشكلة التأخر العربي بل ان تأخر البنية السياسية العربية بمجموعها هو عامل رئيسي . وأننا  لن نستطيع  قهر التأخر العربي إلا إذا وعيناه  بجميع أبعاده  دون تبسيط  أو مواربة.

    النهضة في فكر ياسين الحافظ لم تكن "حداثة مزيفة " تتعلق بطرائق الحياة باستخدام الوسائط الحياتية الحديثة….. بل كانت تعني له (نهضة العقل العربي من كبوته التي استمرت قرون) وأن تنعكس هذه النهضة على بناء المجتمع والدولة بمؤسساتها المختلفة.

وأنطلق من ما كتبه:

(ان الحيز التقني للمجتمع هو واحد من حيزات المجتمع الأيدلوجية، الاجتماعية، الاقتصادية، والسياسية والتي تؤلف، مثل مجموع تروس ماكينة واحدة، عمارة المجتمع الحديث. وبالتالي فانه من الصعب للحيز التقني أن يشتغل ويتقدم منفصلا عن الحيزات الأخرى، وفي مجتمع متأخر يعاني اختلال يبدو تقدم الحيز التقني يتوقف على تقدم الحيز  الأيديولوجي )

   وفي تركيزه على أهمية مسألة النهضة في المجتمع العربي أستحضر ياسين الحافظ تجربة اليابان التي خرجت بعد الحرب العالمية الثانية مدمرة، وجيشها مهزوم ولكنها لم تحول رد فعلها إلى نواح على الأطلال بل باشرت " عصر الأنوار الياباني" وتبنت طريق القومية اليابانية المتجهة إلى المستقبل وأصبحت في غضون عقدين من الزمن، من أوائل الدول المتقدمة.

    كما استحضر التجربة التاريخية الفيتنامية بكل أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والسياسية، معتبرا أن التجربة التاريخية لكل شعب إنما هي جماع حركة كل الشعب على كل المستويات والصعد، وأكد في استعراضه لهذه  التجربة الفيتنامية أن (التجربة التاريخية لشعب لا تتجلى على مستوى القادة السياسيين وحدهم، مهما كانت مهمة  وأساسية التحليلات التي يأتون بها والتوجيهات التي يصدرونها، بل أنها تتداخل في الواقع على مستوى الناس  البسطاء.)

    وإذ يصعب الحديث عن  كل ما عالجه المفكر العربي الراحل  المناضل ياسين  الحافظ، وعن كل السجالات الفكرية والسياسية التي خاضها مع رفاقه في تلك الفترة التاريخية من حياة الأمة العربية، وما سطره قلمه، فان هذه الفترة الحرجة من تاريخنا  تقتضي العودة وباستمرار إلى كتاباته.

    لقد  كان الراحل يتسم بصفتين هامتين يعرفهما من عايشه: احترام الرأي الآخر وعدم التهاون في نقد تجربته الشخصية أو تجربة النخب السياسية العربية في تلك الفترة.