تنويه: إثراءً لأرشيف منصة الحضارة، وبموافقة الدكتور عبد الباسط السيدا على إعادة نشر مقالته هذه، التي سبق أن نُشرت في صحيفة القدس العربي بتاريخ 04/01/2020، نضعها بين أيدي قرّائنا الكرام كما وردت في مصدرها الأصلي، مع التأكيد على حفظ الحقوق الفكرية والأدبية للمؤلف.
في أوائل ثمانينات القرن الماضي، وأثناء إعدادي لأطروحة الماجستير، كنت أتردد على مكتبة المرحوم الشيخ سليم الحسيني الخاصة، وكانت عامرة بالمراجع والمصادر، تلك المكتبة التي كانت بالنسبة إلى أهالي المدينة ظاهرة ثقافية متميزة، وموضع الاحترام والاعتزاز.
كان الشيخ صديقاً للوالد، رحمهما الله، وجاراً لنا في الوقت ذاته؛ وكان منفتحاً على الرأي الآخر، يناقش بهدوء، ويستمع مبتسماً وبأريحية إلى ما يقوله محدثه، ويحترم اختلاف وجهات النظر.
إلى جانب مكتبته هذه، كان الشيخ يدير مكتبا لمتابعة القضايا والمعاملات القانونية. وقد أعارني في ذلك الحين آلة كاتبة خاصة به، لأكتب بوساطتها اطروحتي، وذلك لتعذر شراء مثل تلك الآلة من جانبي في ذلك الحين؛ فقد كنت أعمل في السياسة، وشراء أدوات الطبع كان يحتاج إلى موافقة الأجهزة الأمنية المختصة، وهو الأمر الذي لم يكن في مقدوري تأمينه، هذا في حين أن الشيخ كان يستخدم تلك الأدوات في عمله، لذلك كان الحصول على الموافقة المطلوبة من الأمور السهلة بالنسبة إليه.
كنت أزور مكتبة الشيخ بصورة شبه يومية في المراحل الأخيرة من بحثي. كان يساعدني في عملية الطبع والنسخ؛ كما كنت أستفيد من المراجع والمصادر الموجودة التي تخص بحثي. ولكن الأهم بالنسبة لي هو أنني من خلال أحاديث الشيخ، تعرفت على مدينة عامودا من الداخل، إذا صح التعبير؛ وأنا من مواليد المدينة، وأزعم أنه كانت لدي علاقات واسعة مع الكثير من أبناء المدينة من مختلف الأعمار والاتجاهات والشرائح. ولكن الشيخ سليم أمدني بذخيرة معرفية لا تقدّر حول طبيعة العلاقات بين مختلف أسر عامودا، وتاريخها. أطلعني على طريقة تفكير شخصياتها المعروفة ورؤاها وسلوكياتها وطرائفها.
وعامودا كانت منذ ذلك الحين مدينة فريدة من نوعها قياساً إلى المدن الأخرى في منطقة الجزيرة السورية. فقد كان فيها عدد كبير من شيوخ الطرق الصوفية المختلفة، مثل النقشبندية والقادرية والرفاعية. وكان الحزب الشيوعي يمتلك تنظيماً قويا بعض الشيء، له أنصاره ومؤيدوه في المدينة والريف. ولكن في الوقت ذاته كانت الأحزاب الكردية هي الأخرى قوية، ومهيمنة على الوسط الكردي الطلابي والفلاحي بصورة أساسية إلى جانب الأوساط المجتمعية الأخرى. كما كان هناك وجود للناصريين والإخوان المسلمين. أما حزب البعث، فقد كان حزب السلطة، ولهذا فقد كان يجمع بين كل الانتهازيين، من العرب الكرد والسريان، الذين كانوا يريدون تأمين العمل أو المصالح، وحتى الوجاهة الرسمية في بعض الأحيان. وغالبا ما كان يدعي هؤلاء بأن أصولهم تعود إلى العشائر العربية الأصيلة المعروفة، بل ان بعض الكرد كان ينسب نفسه إلى أهل البيت. كل هؤلاء كانوا ينتمون إلى الحزب المذكور.
وأثناء العمل، كنت أستمتع بالموضوعات التي يتناولها الشيخ في أحاديثه. كان يتحدث عن بعض المسائل بمرارة، وكنت أحس أحياناً بأنني قد أصبحت بالنسبة إليه بمثابة المتنفس، يبوح لي بما كان يكتمه في صدره. كنت أحس أحيانا بأنه على وشك البكاء، وهو المعروف ببشاشته الدائمة.
في جلسة من جلساتنا الكثيرة حدثني قائلاً: لقد أرسل الشيخ الفلاني إليّ ابنه لأنسخ له في حدود عشرة آلاف نسخة لخربشات كتبها على ورق الحرير، وتكون كل نسخة حجاباً/ تميمة، لتلبية طلبات الناس من أبناء المدينة أو من المناطق المحيطة بها، هؤلاء الذين يتوافدون عليه على أمل أن يشفيهم الشيخ من الأمراض الجسدية أو النفسية، وحتى من حالات العقم وغيرها.
وكان الشيخ على علم بأنني أعمل في حزب كردي يساري؛ وكان يعرف بأنني كنت ماركسي التوجه في ذلك الحين. قال لي مرة بحرقة: أنتم لا تعرفون مجتمعكم جيداً، وتبنون نظرياتكم على ما تعتقدون بصحته. فمنطقة مثل عامودا توزع فيها سنوياً أكثر من عشرة آلاف تميمة! هذه مسألة تستدعي النظر والتفكير. عن أي تقدمية تتحدثون؟ وعلى أي وعي تراهنون؟
عبارات الشيخ هذه استوقفتني كثيراً. مع الوقت بدأت أفكر فيها بصورة أعمق. وما كان يدفعني إلى المزيد من التمعن في دلالاتها، تمثل في تلك الأوضاع التي كنا نمر بها، والألاعيب التي كانت تمارس من قبل السلطة وبعض الأحزاب. وما زلت إلى هذا الوقت، وبعد مرور نحو 40 عاماً على التحذير الاستشرافي الذي سمعته من الشيخ.
ما دفعني إلى استعادة هذه الذكريات، هو ما تابعناه من حملة ظالمة تعرض لها المفكر السوري محمد شحرور بعد وفاته. فالرجل أصبح هدفاً للتكفير بكل أشكاله ومستوياته؛ ووُصف بأشنع العبارات، أقلها الزندقة، والدعوة إلى الإباحية.

هذا مع أنه في كل ما كتبه، لم يتجاوز الدعوة إلى إعادة التفسير والتأويل انطلاقاً من قدسية النص القرآني الذي أعلن بموجبه جهاديو مواقع التواصل الاجتماعي الحرب على الرجل، وعلى كل من اعترف بفضله، وبقيمة جهده، أو حتى من ترحّم عليه.
ولم يشفع للرجل جهده البحثي الجاد على مدى خمسين عاماً، جهد أسفر عن عشرات الكتب والأبحاث والمحاضرات واللقاءات. من أهم كتبه “الكتاب والقرآن”، “الدولة والمجتمع”، “الإسلام والإيمان”… وهي كتب أثارت الكثير من التساؤلات، وحرضت العقول على التفكير، وتجاوز المسلمات التي فرضها العقل الفقهي في بعده التعطيلي، الساعي إلى إلزام الناس بإطاعة الحاكم بغض النظر عن حجم مساوئه.
فما دعا إليه شحرور في المقام الأول، تشخّص في ضرورة اعتماد العقل في قراءة النقل. والمطالبة بضرورة أخذ التطورات الحياتية بعين الاعتبار. والتعامل مع الدين من موقع اليسر لا العسر. وهو يلتقي في هذا مع الكثير من الباحثين المعاصرين الذين تمحورت دراساتهم حول دور الإسلام والنص القرآني في الوضع المشخص المعاش.
ولم يكتف شحرور بالجانب النظري غير الملموس الذي غالباً ما يتخذ طابعاً تجريدياً، فتكون لغته لغة نخبوية، لا يستوعبها الناس العاديون، أو بكلام آخر، وربما أدق، لا تثير اهتمامهم.
الأسئلة التي طرحها شحرور، والإشكاليات التي تناولها، أو أثارها، تذكرنا إلى حد بعيد بكتابات الصادق النيهوم، خاصة مقالاته التي نشرها في أعداد مجلة “الناقد” الأولى في الثمانينيات، وإلى حين وفاته. وقد تعرض النيهوم هو الآخر للانتقادات القاسية، إلا أنه لم يتعرض لما تعرض شحرور مؤخراً، وهو الأمر الذي يمكن تفسيره من خلال عاملين متضايفين: الأول يتجسد في الحقد العام من جانب الأيديولوجيين المتشددين الإسلاميين الذين رأوا في الرجل خصماً وجودياً، يهدّد سلطتهم المزعومة، أو بكلام أدق، رغبتهم في الاستحواذ والسيطرة والهيمنة.
أما العامل الآخر، فهو يتمثل في تراجع الملكة النقدية بين أوساط ناسنا، وذلك لأسباب موضوعية لا علاقة لها بقدراتهم الاستيعابية، وأهليتهم المعرفية. وإنما لأسباب لها علاقة بواقعنا السياسي الذي تشكل بفعل ممارسات وسياسات الأنظمة الاستبدادية الفاسدة في المنطقة من جهة التحكم بالسلطة والثروة والإعلام والتعليم. فهذه الأنظمة قتلت روحية الابتكار والإبداع عبر المناهج الدراسية التي اتسمت بطابعها التلقيني الأيديولوجي التوجيهي التعبوي لصالح الأنظمة الحاكمة، وذلك عبر تمجيد الحكام، والإشادة بمآثرهم المزعومة، وانجازاتهم الوهمية. هذا إلى جانب غض النظر عن نشاطات الجماعات الإسلامية المتشددة التي ارتبطت بالأنظمة وأجهزتها، بل تم تشجيع تشكيل هذه الجماعات، ورعايتها، وتم توظيفها بهدف تضليل الناس، وكلفت الجماعات نفسها بمهام تمزيق صفوف المعارضين المناهضين للأنظمة المعنية.
ما حدث للشحرور بعد وفاته، حدث لزكي نجيب محمود ونزار قباني ونصر حامد أبو زيد وصادق العظم وطيب تيزيني وغيرهم من المفكرين التنويريين، هذا بغض النظر عن ملاحظاتنا ومآخذنا على نتاجاتهم، وعدم اتفاقنا مع الكثير من التخريجات التي اعتمدوها للوصول إلى استنتاجات تكون عادة مادة للنقاش، وموضوعا للتوافق أو الخلاف. ولكن ما حدث لهؤلاء يؤكد أن الإرهاب الفكري في هيئته الدينية المتشددة، لا يقل تأثيراً وضرراً عن الإرهاب الميداني الذي يمارس القتل بفتاوى “الشرعيين” الذين نصبوا أنفسهم/ أو نُصبوا، من قبل أولياء النعمة والأمور، وأصحاب التوجيه، على أنهم الجهة المخولة حصراً بالتمييز بين الحلال والحرام، وتفسير النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، وإلصاق التهم جزافاً بكل من يشككون في مصداقيتهم وأهليتهم انطلاقا من تشكيكهم في أهلية ومصداقية “الشرعيين” المشار إليهم.
كما أنه لا يقل تأثيرا عن الإرهاب الرسمي الذي تمارسه السلطات الحاكمة المستبدة الفاسدة عبر مختلف أجهزتها القمعية. هذا الإرهاب الذي يبقى المظلة الواقية لكل أنواع الإرهاب الفرعية التي تؤدي دورها، وتمارس فعلها بما ويتناغم مع التوجه السلطوي العام.
ونعود إلى الشيخ الجليل الذي قال لي قبل نحو أربعين عاماً: يبدو أنكم لا تعرفون مجتمعكم. لنستنتج من كلامه مدى حاجتنا إلى عملية تجديد شمولية، تبدأ بالمقدمات. وإلا سنضطر إلى التزام الدوران ضمن حلقة التخلف نفسها، بفعل جهود التكفيريين، والانتهازيين الشعبويين من القومويين، خاصة الذين يدعون العلمانية، هؤلاء الذين يجاملون الجميع بنفاق صارخ، وذلك من أجل البقاء في المشهد، ولو على حساب مستقبل أجيالنا المقبلة.