هجرة المسيحيين وصراع الحضارات

بقلم منير درويش

سيبدو هذا العنوان غريباً للوهلة الأولى ويثير سؤالاً مشروعاً ، عن العلاقة بين هجرة المسيحيين من الوطن العربي ومن الشرق عموماً وبين نظرية صراع الحضارات التي أطلقها صموئيل هنتنغتون بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية التي شكلت قطب الصراع مع الرأسمالية خلال القرن العشرين ليفترض صاحب النظرية أن الصراع تحول إلى صراع ديني خاصة بين الغرب ( المسيحي المتمدن ) و (العالم الإسلامي المتخلف ) ، فاستغلت السياسات الغربية هذه النظرية للترويج بأن هجرة المسيحيين من الشرق ليست إلا نتيجة من نتائج هذا الصراع

لقد سبق و تناولنا هجرة المسيحيين من الوطن العربي والعوامل التي أدت لها في محاضرات زادت عن الثلاثة شملت كل ماله علاقة بهذه القضية ، ولا نريد تكرارها من جديد ، وأن لجنة المبادرة الشعبية لمواجهة هجرة المسيحيين لا زالت تمارس عملها وهي اللجنة الأولى المنظمة التي تناولت هذا الموضوع واهتمت به إن لم تكن أول من تناوله على هذا النحو قبل أن يشكل هاجساً لأطراف عدة .وهي مفتوحة للمشاركة بها

إن هجرة المسيحيين لا تتعلق بالضرورة بقضايا مباشرة كالإحساس بالغبن أو المعيشة أو حتى الشعور بالتفوق ، لكن نظرية صراع الحضارات وفق التفسير الغربي لها ، واعتبارها السند الأساسي لهجرة المسيحيين من الشرق ليست إلا زيفاً ابتدعته السياسات الغربية وخاصة سياسة الولايات المتحدة كي تبقي العالم في حالة من الفوضى تسهل السيطرة عليه

فالعرب المسيحيون ليسوا جزءاً من الحضارة الغربية بقدر ما هم أحد أجنحة الحضارة العربية والإسلامية ، ولم يكونوا يوماً في صراع مع هذه الحضارة بسبب صلة الوجود التاريخي ، وصلة التأثير والتأثر رغم الحوادث المؤسفة التي تحصل هنا وهناك ، فانغرست مفرداتها في نفوسهم وكونت جزءً هاماً من وعيهم الفكري وممارساتهم العامة وجزءاً أيضاً من وطنيتهم وانتماءهم . وأصبح من الصعب نزعها عنهم حتى لو رغب بعضهم بذلك

لكن سياسة الإدارات الأمريكية التي تبنت توجهات اليمينية المحافظة وتوجهات المحافظون الجدد وبتأثير من الصهيونية المعادية لمشروعنا القومي استطاعت أن تقنع بعض السياسات الأوربية الأخرى بهذه النظرية وتعمل على أساسها في تعاملها مع الشعوب ، خاصة بعد أحداث 11 أيلول عام 2001 التي أسست لهدا الصراع بدعوى رغم الحوادث المؤسفة التي تحصل هنا وهناك مكافحة الإرهاب

لكن الصراع الذي عادة ما يدفع بأطرافه للتحفز والاستعداد للمواجهة ، جعل بعض السياسات الغربية تستعد وتتحفز له لكن الأطراف الأخرى قابلته بالبرودة ، وسعت نحو التهدئة وإحلال الحوار محل الصراع خاصة وأن قوى عديدة داخل المجتمعات المسيحية الغربية لم تكن معنية بهذا الصراع وتجلت هذه البرودة في عقد الندوات والمؤتمرات في مناسبات مختلفة واستغلت الفئات المتطرفة هذا الموقف وانجرت نحو هذا الصراع وحاولت أن تجعل منه هدفاً لتحقيق مآربها

و أدرك العرب المسيحيون والمسيحية الشرقية عموماً أهداف السياسة الغربية هذه وهي تحاول أن تحول الصراع مع قوى الهيمنة والاستعمار والصهيونية والمقاومة من أجل الوطن والحقوق إلى صراع ديني ومذهبيي .، وإظهار الهجرة التي شملتهم كما شملت غيرهم مع الفارق بالنسبة والعدد وكأنها نتيجة لهذا الصراع لكنهم لم يكترثوا لها بل عملوا على مواجهتها .لقد رفض المسيحيون في العراق مشروع الحماية التي طرحتها لهم القوات الأمريكية وعملاؤها كما رفضوا الهجرة وأعلنوا تمسكهم بوطنهم باعتبارهم جزءً من نسيجه رغم الحوادث المؤلمة التي تعرضوا لها ولم يتوانوا عن اتهام قوات الاحتلال بافتعالها إن لم تكن هذه القوات هي التي مارستها رغم الحوادث المؤسفة التي تحصل هنا وهناك مع بعض القوى والأفراد الذين فقدوا روح الوطنية

ويمكن أن نشير في هذا السياق إلى عدد من الوثائق والمواقف التي تثبت زيف ما سمي بصراع الحضارات وعلاقتها بهجرة المسيحيين من الشرق علماً أن الهجرة لم تكن يوماً مقتصرة على المسيحيين بل شملت نسباً أعلى بكثير من الديانات أو الفئات الأخرى

الوثيقة الأولى أصدرها رؤساء الكنائس الفلسطينية في فلسطين بعنوان ( وقفة حق ) ووقع عليها أيضاً عدد من الشخصيات المدنية وأعلنت في 11/ 12 / 2009

الوثيقة الثانية . عبارة عن رسالة مفتوحة وجهها الأب الياس زحلاوي إلى بابا الفاتيكان ( بعنوان رسالة من كاهن كاثوليكي عربي سوري لقداسة البابا ) ونشرت في 13 / 3 / 2010

وتأتي هذه الوثائق لترد على محاولات تشويه صورة المسيحية وتحريف اللاهوت لصالح مسائل سياسية كما تأتي لتأكد من جديد أن المسيحيين العرب متمسكون بهويتهم الوطنية والقومي ومسؤولياتهم تجاه أوطانهم

أما القضية الثالثة فتتعلق بالمعاني الإنسانية لأسطول الحرية لكسر الحصار عن غزة من جهة ومونديال كرة القدم 2010 في جنوب أفريقيا . رغم أنني لست من المهتمين بهذا المونديال أو المتابعين له ولنتائجه وأدرك ما يجري فيه من حيل وممارسات قد لا تروق لنا

في البداية سنتحدث عن المعاني الإنسانية لأسطول الحرية ودلالاتها الإنسانية والسياسية دون أن نجعلها تحل محل المعنى الوطني للشعب الفلسطيني وما يتطلبه من دفاع عن حقوقه الوطنية والسياسية في الدولة الوطنية وحقه العودة للوطن والأرض ومسؤولية العرب والفلسطينيين تجاه هذه المهمة تقع على عاتقهم وحدهم وليس على عاتق غيرهم مهما كان ارتباط هذا الغير بها . لكن المعاني الإنسانية انحصرت في محاولة كسر الحصار عن الشعب الفلسطيني في غزة . وتقديم المعونات له

أما العلاقة بين أسطول الحرية ومونديال جنوب أفريقيا وعلاقة ذلك بصراع الحضارات فيأتي في السياق التالي

في الحالة الأولى تجمع الآلاف من الأشخاص من نحو أربعين دولة انتماءاتهم الدينية والعرقية والمذهبية المختلفة بينهم المسيحيون بطوائفهم ، والمسلمون بطوائفهم والبوذيون والهندوس والصينيون …الخ ، في محاولة تبدو مستحيلة لكسر الحصار عن الشعب الفلسطيني في غزة والذي تدين أغلبيته للإسلام وحاولت السياسات الغربية دوماً أن تلصق به تهمة الإرهاب بسبب مقاومته للاحتلال ، وكفاحه من أجل حريته وكرامته ، وأن يعيش كبقية شعوب الأرض في دولته المستقلة والمتحررة

ولا يملك هؤلاء من عناصر القوة سوى الروح الإنسانية المشحونة بالتصميم والإصرار على تحقيق هذا الهدف مهما كانت النتائج ودون أن يكترثوا للمواقف السياسية أو ( للحضارات المتصارعة ) .. والمشهد المؤثر هو أن الذين استشهدوا بفعل الجريمة الإسرائيلية وهم ليسوا عرباً لفوا بالعلم الفلسطيني كشهداء لهذه القضية .حسبما ذكر أحد الصحفيين

وإذا تجاوزنا الوسائل الإعلامية الإسرائيلية والمساندة لها ، وكل ما قيل عن الجريمة التي ارتكبتها إسرائيل ، فإن الحالة الإنسانية التي جسدها أسطول الحرية لها أهمية بالغة في مواجهة مفهوم صراع الحضارات ورسم توجهات سياسية واجتماعية جديدة مهما كان تأثيرها الآن وهي التوجهات التي حاولت السياسة الغربية طمسها وتجييرها لصالحها . لقد شكل أسطول الحرية هزيمة كبيرة لنظرية صراع الحضارات كما شكلتها المواقف التشجيعية لفرق المونديال التي لم تتوقف عند الانتماء الديني أو العرقي لهذا الفريق بل توقفت عند الانتماء القومي من جهة ومواقف الدول التي تنتمي لها هذه الفرق من قضايانا الوطنية والقومية . ويجب ألا نستهين بهذه الظاهرة على المستوى السياسي فالأغلبية الساحقة من هذه الفرق تدين دولها بالمسيحية و قد حظي فريق البرازيل المسيحي الكاثوليكي بتشجيع واسع في مختلف دول الوطن العربي والعالم الإسلامي ، بينما كانت نسبة المشجعين للفريق الأمريكي متدنية جداً بسبب سياسة بلادهم المعادية . هذه الدلالة ليست بلا معنى بل تدل على هزيمة نظرية صراع الحضارات التي لم تشكل رغبة لدى الشعوب فالذي يجمعها أكثر مما يفرقها . ولم تكن هذه الهزيمة الأولى لتلك النظرية فقد هزمت عندما وقف العالم مع الشعب اللبناني ضد العدوان الإسرائيلي عليه عام 2006 ، وهزمت عندما وقف مع الشعب الفلسطيني في غزة إبان عدوان 2009 وتجسد وقوفه في تقرير غولدستون كشهادة وثقت للجرائم الإسرائيلية وعززت الهزيمة

وهزمت عندما انتخب أوباما رئيساً للولايات المتحدة تحت شعار التغيير وعندما أعلن من على منبر جامعة القاهرة ، المصالحة مع العالم الإسلامي والاعتراف بأن الإسلام هو الجناح الآخر في الحضارة الإنسانية وأشاد بمبادئه السامية التي تنفي عنه صفة الإرهاب ، رغم إقرارنا أنه لم يستطع حتى الآن أن يرسم المعالم الأساسية للتغيير ، أو فشل حتى الآن في تحقيق أي من برنامجه بسبب قوة المواجهة في المجتمع السياسي الأمريكي وضعف إدارته

نعود الآن إلى وثيقة الحق الفلسطينية والتي جاءت أيضاً قي الوقت الذي تنصب فيه الجهود الصهيونية لبث الخلاف والفرقة بين أبناء الشعب الفلسطيني على خلفيات عدة بينما تؤكد الوثيقة على وقوف هذا الشعب في مواجهة العدوان وحث العالم وخاصة المسيحيين الغربيين وكنائسهم على دعم قضيتنا ، كما تؤكد على تمسك الفلسطينيين المسيحيين بوطنهم وهويتهم القومية ليس في مستوى الدعم بل بالمسؤولية الكاملة والدفاع عن الحقوق وعدم التفريط بها

و هي رسالة حق موجهة إلى الشعوب العربية تدعوهم ليأخذوا دورهم بالوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني بكل فئاته، في غزة والضفة، وعلى أرض فلسطين المحتلة منذ عام 1948، هذا الشعب الذي يتعرض إلى شتى أنواع العذاب و الحصار بالجدران الفولاذية والإسمنتية من الأخوة والأعداء و وإقامة المستعمرات في كل ساحة وطريق، والتي تقسم القرية الواحدة إلى كانتونات

وهي تناشد الرأي العام العالمي اللا مبالي أو المؤيد أو الصامت عن العدوان والجرائم الإسرائيلية منذ ستة عقود، والتي لم تعد مخفية أو مضللة لأحد أو مخادعة لهذا الرأي بعد أن طالت ليس الفلسطينيين فقط بل مواطنيه المؤيدين للحق والعدل

وهي رسالة موجهة أيضاً إلى بعض المسيحيين في العالم الذين يستخدمون الكتاب المقدس أو يفسرون اللاهوت بما يخدم أو يبرر هذه الجرائم وعدوانية مرتكبيها، ونصرة الظالم ضد المظلوم

وهي صرخة ورجاء وأمل موجهة لكنائس العالم تطالبهم بالوقوف ضد الظلم والتمييز العنصري، وتحثهم على العمل من اجل السلام وإعادة النظر في أي لاهوت تحريفي يبرر قتل شعبنا الفلسطيني وطرده من وطنه وسرقة أراضيه

تقول الرسالة

” نعلن نحن الفلسطينيين المسيحيين في هذه الوثيقة أن احتلال أرضنا هو خطيئة ضد الله والإنسان، وإن اللاهوت الذي يبرر هذا الاحتلال هو لاهوت تحريفي وبعيد جداً عن التعاليم المسيحية، حيث أن اللاهوت المسيحي هو لاهوت محبة وتضامن مع المظلوم ودعوة لإقامة العدل والمساواة بين الشعوب

وترصد الرسالة المرحلة التاريخية التي تمر بها القضية الفلسطينية، والسلام العادل والدائم، الذي يتحقق عند انتهاء الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية، وكل أنواع التمييز العنصري وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس. ، وتعلن بأن المقاومة هي حق وواجب لجميع الفلسطينيين

تقول الرسالة ” نحن الفلسطينيين المسيحيين، نأمل من هذه الوثيقة أن تكون رافعة لجهود كل محبي السلام في العالم وعلى الأخص إخواننا من المسيحيين وأن تلقى قبولاً كالقبول الذي حظيت به وثيقة جنوب أفريقيا الشهيرة الصادرة عام 1985. فتكون أداة للنضال ضد الظلم والاحتلال والتمييز العنصري لأن هذا الخلاص هو في مصلحة شعوب المنطقة كافة ولآن القضية ليست قضية سياسية وحسب بل قضية يدمر فيها الإنسان

الموقعين على الرسالة يتحدثون عن ( نحن ) أي عن مجمل الشعب الفلسطيني. ويقولون

– هو الجدار الفاصل الذي أقيم على الأراضي الفلسطينية، وحّول قرانا ومدننا إلى سجون، وغزة ما زالت تعيش في أوضاع لا إنسانية تحت حصار مستمر هي وأهلنا فيها منفصلون جغرافياً عن سائر الأراضي الفلسطينية

– المذلة اليومية التي نخضع لها عند الحواجز العسكرية وفي حياتنا اليومية

– والحرية الدينية أصبحت محدودة وحرية الوصول إلى الأماكن المقدسة محرمة على العديد من المسيحيين والمسلمين من الضفة وغزة والقطاع وحتى على المقدسيين كما أن بعض من كهنتنا العرب يعانون من منعهم من دخول القدس

– والأسرى في السجون الإسرائيلية هم جزء من واقعنا

– وعملية تفريغ القدس من سكانها المسيحيين والمسلمين ما زالت مستمرة

– والهجرة جزء من الواقع، فغياب كل رؤية أو بارقة أمل دفع الشباب المسلمين والمسيحيين إلى الهجرة فحرمت الأرض من أهم مواردها أي الشباب المثقف، وتناقص عدد المسيحيين بصورة خاصة هو من النتائج الخطيرة لهذا الصراع. وللعجز والفشل المحلي والدولي في إيجاد حل للقضية برمتها

وتدعي إسرائيل إن أعمالها العدوانية بالاحتلال والعقاب الجماعي وكل أنواع التنكيل بالفلسطينيين هي دفاع عن النفس. وهذا يقلب الواقع رأساً على عقب. نعم هناك مقاومة فلسطينية للاحتلال، ولكن لو لم يكن الاحتلال ما كانت هناك مقاومة ولما كان هناك خوف وانعدام للأمن

وتشير الرسالة إلى أن الرد الفلسطيني على هذا الواقع كان متنوعاً. رد البعض بطرق المفاوضات، وكان هذا موقف السلطة الفلسطينية الرسمية، ومع ذلك لم تحصل على أي تقدم في مسيرة السلام، وكان رد بعض الأحزاب السياسية اللجوء للمقاومة المسلحة وتذرعت إسرائيل بذلك للثتهم الفلسطينيين بالإرهاب كي تتمكن من طمس المعنى الحقيقي للصراع إذ باتت القضية تصور على أنها قضية حرب إسرائيلية على الإرهاب. لكن الظلم الذي وقع على الشعب الفلسطيني أي الاحتلال الإسرائيلي هو شر يجب مقاومته، وخطيئة يجب إزالتها وعلى الفلسطينيين الواقعين تحت الاحتلال تقع هذه المسؤولية

والمقاومة حق وواجب، والطريقة الفعالة لوقف الظلم وإجبار الظالم على وضع حد لاعتدائه. وللوصول للهدف المنشود وهو استرداد الأرض والحرية والكرامة والاستقلال

الكارثة تزداد بالصراع الداخلي بين الفلسطينيين أنفسهم.إلا أن الأسرة الدولية كانت سبباً رئيسياً في هذا وتأجيج الخلاف عندما لم تتعامل على نحو إيجابي مع إرادة الشعب الفلسطيني التي عبر عنها بالطرق الديمقراطية الشرعية في انتخابات عام 2006

وتؤكد الرسالة على إن وجود الفلسطينيين مسيحيين ومسلمين على هذه الأرض ليس طارئاً بل له جذور متأصلة ومرتبطة بتاريخ وجغرافية هذه الأرض، مثل ارتباط أي شعب بأرضه. وقد وقع في حقنا ظلم، بأن الغرب أراد أن يعوض عما اقترفه هو بحق اليهود في بلاد أوربا فقام بالتعويض على حسابنا وفي أرضنا، وحاول تصحيح ظلمه فوقع ظلم جديد طالنا. وإذا كان بعض اللاهوتيين في الغرب يحاولون أن يضفوا على الظلم الذي لحق بنا شرعية لاهوتية. فإننا نقول أن صلتنا بهذه الأرض هي حق طبيعي وليست قضية إيديولوجية ولا مسألة نظرية لاهوتية فقط. هي قضية حياة أو موت بالنسبة لنا. وقد يكون هناك من لا يتفق معنا أو يناصبنا العداء لأننا نريد أن نعيش أحراراً في أرضنا لأننا فلسطينيين نعاني من احتلال أرضنا ولأننا مسيحيين نعاني من التفسيرات المغلوطة لبعض اللاهوتيين، لهذا فإن استخدام الكتاب المقدس لتبرير أو تأييد خيارات ومواقف سياسية فيها ظلم يفرضه إنسان على إنسان وشعب على شعب آخر ليحول الدين إلى إيديولوجية بشرية ويجرد كلمة الله من قداستها وشموليتها وحقيقتها

وتدعو الرسالة المسلمين للتمسك برسالة المحبة التي تميزهم ونبذ أنواع التعصب والتطرف . كما تؤكد للعالم بأن المسلمين أهل سلام وحوار وليس لهم هدف القتال كما أنهم ليسوا عنواناً للإرهاب وعلى هذا العالم أن ينبذ كل أشكال العنصرية الدينية أو العرقية سواء كانت في معاداة السامية أو كراهية المسلمين ( الإسلامافوبيا ) واتخاذ موقف حازم من كل مظاهرها

وهي في كل الأحوال دعوة لكنائس العالم كي تقول كلمة حق وتتخذ موقف من الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وهي ترى في المقاطعة وسحب الاستثمارات وسائل لا عنفية لتحقيق العدل والأمن للجميع

وتدعو الرسالة الأسرة الدولية الكف عن الكيل بمكيالين وتطبيق القرارات الدولية على جميع الأطراف، لأن تطبيق القانون الدولي على طرف دون طرف يفتح الباب لشريعة الغاب ويبرر ادعاء جماعات مسلحة ودول عديدة بأن المجتمع الدولي لا يفهم سوى منطق القوة

إن الدولة الدينية يهودية كانت أو إسلامية ، تخنق الدولة وتحصرها في حدود ضيقة وتجعلها دولة تفضل مواطن على مواطن وتستثني وتفرق بين مواطنيها . لتكن الدولة لكل المواطنين مبنية على احترام الدين ولكن أيضاً المساواة والعدل والحرية واحترام التعددية. وليس على السيطرة العددية الدينية

وتدعو الرسالة بوضوح إلى وضع حد للانقسامات الفلسطينية الداخلية التي تضعف الصف الفلسطيني. هذه المصلحة التي هي أهم من مصلحة جميع الأحزاب كما تطالب المجتمع والأسرة الدولية بالمساعدة على هذه الوحدة وباحترام إرادة الشعب الفلسطيني كما يعبر عنها بحرية

ولا تغفل الرسالة الاعتراف ببعض التقصير الحاصل في المرحلة السابقة بالقول

المحبة تقول للمؤمن بالروح والحق. أخي أسير فأنا أسير. أخي دمر بيته فمنزلي هو المدمر. أخي قتل فأنا المقتول نحن جزء من التحديات وشركاء في كل ما حصل ويحصل. وقد نكون أفراداً أو رؤساء كنيسة قد صمتنا في حين كان يجب أن يرتفع صوتنا ليندد بالظلم ويشارك في المعاناة. هو زمن توبة عن الصمت وعن اللامبالاة وعن عدم المشاركة أو لأننا لم نتمسك بشهادتنا على هذه الأرض فهجرناها، أو لأننا لم نفكر ولم نعمل بما فيه الكفاية في سبيل التوصل إلى رؤية جديدة موحدة فانقسمنا ونقضنا بذلك شهادتنا وضعفت كلمتنا توبة لاهتماماتنا بمؤسساتنا في بعض الأحيان على حساب رسالتنا

هذه ابرز النقاط التي وردت في الرسالة والتي وجدنا أنها بحاجة إلى عرض لتوضيح وجهة نظر الوثيقة بشكل عام، مع احتفاظنا بوجهة نظرنا حول بعض النقاط فيها وإدراكنا أنها موجهة إلى قوى وفئات متعددة في العالم تحاول أن توصل لهم كلمة الحق مع الاحتفاظ بالثوابت الوطنية التي توحد الفلسطينيين

وقد جاء رد الفعل الأول على هذه الرسالة من لجنة المبادرة الشعبية لمواجهة هجرة المسيحيين من الوطن العربي وذلك من خلال الرسالة التي وجهتها إلى أصحاب كلمة الحق تؤيد مجمل ما جاء في الرسالة وتؤكد بأن الصراع العربي الإسرائيلي كان ولا زال وسيبقى صراعاً بين الصهيونية والأمة العربية تلك الأمة التي يشكل العرب المسيحيون مع أخوتهم المسلمين أجنحة طيرانها وبناء حضارتها وأن كل المحاولات التي بذلها العدوان الإسرائيلي من ترهيب وقتل وتدمير لم تفلح في بث الفرقة بين أبناء الوطن الواحد وإضعاف وطنية أبنائه

إنه لأسف شديد أن تتسع الهجرة وتشمل المسيحيين والمسلمين لكنها في النتيجة تؤدي إلى تناقص عدد المسيحيين مما يشكل خسارة حضارية تجعل السياسة الغربية تعطي الصراع بعده الديني بدل أن يكون نضالاً من أجل الوطن والأرض والحقوق

لاشك أن الاحتلال العسكري والاستيطاني لأرضنا هو خطيئة بحق الله والإنسان وإن أي تبرير لاهوتي له يستند إلى قراءة تاريخية مزيفة ، وخطيئة بحق التاريخ وبحق المسيحية التي لا تعرف إلا الحق والتضامن مع المظلوم ، وبالتالي نحن معكم في مقاومة الاحتلال الذي هو مقاومة للشر والعدوان

الوثيقة الثانية هي الرسالة المفتوحة التي وجهها الأب الياس زحلاوي إلى بابا الفاتيكان بتاريخ 12 / 3 / 2010 والتي تشكل وثيقة سياسية وإيديولوجية لا تقل في مضمونها عن المواقف التي أسست للثورات الكبرى داخل المسيحية في التاريخ، تماماً كما فعلت ( كلمة الحق الفلسطينية ) . وإذا كنا لا نريد أن نضع هذه الرسالة في صف الموقف اللوثري من حيث التوجه لإصلاح ما في الكنيسة الغربية تجاه العالم من جهة ونحو العرب والمسلمين من جهة أخرى كي لا نستفز أحد فإنها تمثل في هذا المجال الاتجاهات الفكرية والسياسية لجميع المواطنين في الوطن العربي مسيحيين كانوا أم مسلمين خاصة وهو يبدأ التعريف بنفسه ( كاهناً عربياً كاثوليكياً من سورية ) . . وهو يتحسس القضايا التي خبرها بثقافته ووعيه وسعة إطلاعه . وللذي لا يعرف الأب زحلاوي نقول . إنه من أفضل المثقفين الذين كتبوا في الرواية والمجتمع وعلوم الدين واللاهوت والمسرح ، ولا أحد من الذين قرأوا مسرحياته إلا وأعجبوا بها أعظم الإعجاب إذ تعبر على نحو غير مسبوق عن الروح الديمقراطية التي يتمتع بها .
ولا ننسى أبداً الروح الحماسية التي استقبل بها لجنة المبادرة لوقف هجرة المسيحيين من الوطن العربي وهي مسؤولية تاريخية وأبدى استعداده لدعمها ومساندتها .
لذلك لم يكن غريباً عنه إدراك أن الأوراق التي ستقدم للمؤتمر الذي دعا إليه البابا في تشرين لرؤساء الكنائس في العالم ومنها الكنائس الشرقية لن تعكس واقع الشرق الذي طالما أخفيت أو تجاهلت أو زيفت الحقائق عنه في اللقاءات السابقة التي تقتصر عادة على نخب ليس بالضرورة أن تلم بكل جوانب ومشاكل هذه المنطقة ، او تعتمد على المعلومات التي يعطيها المسؤولون عن هذه الكنائس او دبلوماسيو الفاتيكان الذين تقتصر لقاءتهم على رؤساء كنائس الشرق أو في حدود مسؤولياتهم دون أن يكون لهم لقاءات مباشرة مع الناس العاديين أصحاب المصلحة الحقيقية في هذه اللقاءات . وبالتالي فإن نتائج هذه المؤتمرات لن تكون ” إلا بيانات رنانة وقرارات لا تقدم أو تؤخر ، وقد تؤدي إلى خيبات ثقيلة قد ترهق الشرق أكثر من تاريخية مضنية وسياسات غربية ظالمة ، وتخبطات داخلية مربكة واحياناً مخزية
لكن الأهم في هذا الأمر أن لا تقتصر الدعوة على رؤساء الكنائس الشرقية بل يجب أن تضم ” أصواتاً جريئة كاثوليكية وأرثدوكسية ، وكهنة وعلمانيين ، إضافة لمختلف الأطراف الإسلامية ، نظراً لأن أغلبية سكان الشرق من المسلمين ” وهم أكثر من يعنيهم هذا المؤتمر .
وتتجسد جرأة الرسالة على نحو واضح عند حديثها عن السياسات الغربية إذ ترى ” أن كل ما يحدث في العالم وفي الشرق هو من صنع بلدان الغرب التي تستأثر بغنى الأرض وتملك وحدها القوة الضاربة فيها حتى الآن “

. وإذا كان ما يجري في العالم وخاصة في العالم الإسلامي يلقى جفاءاً وامتعاضاً من الغرب ، فهو ليس إلا رداً على تلك السياسات الظالمة التي دفعت تلك الشعوب إلى الدفاع عن نفسها وحقوقها بأساليب قد لا تكون مألوفة لها ولكنها اضطرت إليها. وبالتالي فهي ليست مجرد حركات إرهابية استهواها الإرهاب ، إذ أن بعضها شكل مقاومة من أجل حقوقه كالمنظمات الفلسطينية التي وصفت من قبل الاتحاد الأوربي بالحركات الإرهابية ، وحتى المقاومة الأصولية لم تكن في بدايتها ولبعض حركاتها إلا مقاومة للغزو كالغزو السوفييتي لأفغانستان والغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق وباكستان .
ويلفت الأب زحلاوي النظر لقضية هامة . وهي تجاهل كنائس الغرب لاسم فلسطين واستبدال هذا الاسم ( بالأرض المقدسة ) التي تعني من وجهة نظري / تقليصاً للمساحة كي كي تقتصر على الأماكن المقدسة وليس كل فلسطين / وهو نفس الخطأ الذي يقع فيه الذين يقصرون القدس كعاصمة لدولة فلسطين . على القدس الشريف التي تعني في الواقع المناطق المقدسة وتحديداً المسجد الأقصى ومحيطه . وهي جزء صغير من القدس .
إن اعتبار المدن الإسرائيلية تساوي في أهميتها للسياسة الغربية مدن الغرب ، وإن أي مساس بها هو مساس لتلك المدن كما عبرت عنها وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلنتون ، أو المستشارة الألمانية ميركل ليس إلا محاباة لإسرائيل ودعما واضحاً لعدوانها من قتل وتشريد وإبادة ونهب تمارسها علناً وبدعم من هذه السياسات . فلماذا لا نقول ايضاً إن تأييد العدوان من قبل هذه السياسات يجب أن يواجه بنفس المقاومة التي يواجهها العدوان وإن كان بأساليب ووسائل أخرى كالمقاطعة للسلع والبضائع والمصالح مثلآ .
وبالتالي فإن صمت الفاتيكان أو تسطيحه للمشاكل أو تجاهلها هو من الأخطاء التي حاول البابا الراحل تجاوزها وكان جريئاً في ذلك ، كما يشيد الأب زحلاوي بشجاعة كردينال بوسطن برنار لو ، لوقوفه بوجه مثل هذه المظالم .
وإذا كانت صحيفة الفاتيكان قد تجاهلت هذه المظالم ، ” فإن الأساقفة الذين زاروا ( الأماكن المقدسة ) . ساووا بين الضحية العربية والجلاد الإسرائيلي . وهكذا فقد فقدوا العيون ، وغيبوا العقول ، ولم يعودوا يعرفون من تاريخ فلسطين لا قديمه ولا حديثه وهي وطن يسوع وما حل بسكانها من مسيحيين ومسلمين من قتل وتهجير وإبادة ” .
وإذا كانت اللاسامية قد مارسها الغرب كنيسة وسلطة وشعباً ، حيال اليهود . فهل من مبرر اليوم أن تراق دماء شعوب الشرق العرب وغير العرب ؟ وهل تبرر صمت كنائس الغرب إزاء هذه المظالم ؟ التي سيؤدي تشجيعها إلى اتهام الشعب اليهودي برمته إلى محموعة من القتلة بسبب عدوانية إسرائيل . وكم سيؤدي هذا التشجيع إلى تفريغ الشرق من مسيحييه الأصليين .
إن هناك تشابها بين ما تفعله القوى الغربية على نطاق العالم والعالم العربي والإسلامي ، و ما فعلته القوى الإوربية في القارة الأمريكية في أواخر القرن الخامس عشر من إبادة وحشية لما لا يقل عن أربعين مليوناً من السكان الأصليين .
“إن الكنائس المسيحية مطالبة أن تخرج من سجن صمتها وتقول كلمة الإنجيل وتدافع عن المظلومين والفقراء والجياع والمرضى والأسرى الذين تماهى يسوع بكل حب معهم ” .
إنها دعوة صادقة من كاهن ومواطن عربي مسيحي كاثوليكي من سورية تحسس ألام أمته وشعبه . ومطلوب من جميعاً ليس تأييد الرسالة فقط بل تبنيها والوقوف معها .

والخلاصة : لقد اعتمدت إسرائيل منذ بداية العدوان على دعم الرأي العام العالمي لها مستفيدة من كل العوامل الممكنة وكانت في كل حروبها العدوانية ترصد حركة هذا الرأي والذي ينطلق من طبيعة التجمع الإسرائيلي ( ادنى مستوى من المجتمع ) والذي لا يستطع تجاوز شوفينيته وعنصريته القومية التوسعية الناتجة عن كونه خلاصة أقليات متنوعة ومتوازنة يهودية غربية متعصبة وشرقية متطرفة ويهودية روسية تشعر أنها مغلوبة ومسلوبة الحقوق إضافة للفلسطينيين في الداخل والذين لا يقلون عن 20فضلاً أن هذا ( المجتمع ) متشابك في محيطه مع أكثرية فلسطينية داخل وخارج فلسطين لا زالت مصرة على رفض العدوان والاغتصاب لأرضها ووطنها وبحر سكاني عربي وإسلامي معاد لها ، مثل هذا المجتمع لا بد أن يأخذ بالحسبان العوامل الخارجية لدعمه بينما بقي العرب متجاهلين لها، والآن ظهرت معطيات جديدة وبوادر مشجعة داخل هذا الرأي إن لم تكن داعمة بالمطلق لنا فهي محايدة أو صامتة على الأقل. وتبين استطلاعات للرأي على الأنترنيت بعد جريمة أسطول الحرية أن 38 % من المستطلعين طالبوا بمعاقبة إسرائيل وأبدى 65 % إما إدانة الجريمة أو الصمت عنها ولأن استطلاعات الرأي صناعة غربية فإن المستطلعين كانوا من تلك المجتمعات بينما غاب العرب والمسلمين عنها أو المشاركة فيها رغم أن هذه المشاركة كانت سترفع النسبة بشكل أعلى بكثير وخيرا فعلوا لآن هذه النسبة الغربية جاءت صدمة لإسرائيل . % .

يتبين لنا من خلال ما ذكر زيف ما ذهبت إليه نظرية صراع الحضارات . فلا المسيحيون وحدهم الذين يهاجرون ولا ترتبط هجرتهم بهذه النظرية ، ولا المسلمين في بلاد الغرب ويعاني بعضهم أنواعاً من الاضطهاد عادوا إلى بلادهم . ولا أسطول الحرية وفيه من مختلف الديانات جاء لنجدة المسلمين في غزة بل لنصرة الشعب الفلسطيني الذي يعاني الحصار من أطراف صهيونية وعربية دون النظر لانتمائه الديني . ولا وثيقة الحق خصت المسيحيين بحقوقها ومطالبها بل هي مطالب وطن ينتمون إليه ويدافعون عنه وتشكل مع رسالة الأب زحلاوي وثيقة تصحح للكنائس الغربية مفاهيمها عن المسيحيين في الوطن العربي وعلاقتهم بوطنهم وأرضهم . وهنا نتساءل : لو كان هنتنغتون حياً هل كان سيتمسك بنظريته بعد هذا

وبناء عليه علينا نحن أيضاً أن نصحح مفاهيمنا عن العالم وندافع عن مصالحنا وحقوقنا بالوسائل التي تثبت شرعية هذه الحقوق وسيدرك العالم كم هي مشروعة .

يجب ألا نتصور ان أحداً سيحارب عوضاً عنا لكننا نستطيع لو أدركنا مصالحنا وعملنا من أجلها أن نجعل هذا العلم يقف معنا يؤيدنا طالما نحن أصحاب الحق ويدعم قضيتنا .