سردية تلفيق أسطورة “إسرائيل الكبرى”

قد يتساءل القارئ عن دوافع انخراطي في تحليل استراتيجيات سياسية معقدة ومؤامرات جيوسياسية، لا سيما بعد سنوات قضيتها في الكتابة عن تاريخ الحضارة السورية والأدبيات المعاصرة. إن هذا التحول لم يكن خياراً، بل فرضته ضرورة واقعية. فبعد انخراطي في العمل الإعلامي خلال الثورة السورية، أُتيحت لي الفرصة للاطلاع على كواليس عالم السياسة الذي يعمل في خفاء، كاشفاً عن استراتيجيات سريَّة ومؤامرات معقدة تؤثر على مصير المنطقة بأسرها. من هنا، جاءت هذه السردية لتسليط الضوء على هذا الإرث من المخططات التي تهدد وجود ومصير دولنا العربية.

ولأنَّ الغوص في تفاصيل هذا الموضوع الشائك في منصة مآلات، يحتاج إلى موسوعات من الكتب كي يفي بغرضه، ولتفادي إطالة النص وتقزيمه بالتلخيص، فقد لجأت إلى ربط الكثير من المعلومات بمصادر موثوقة وروابط مرجعية، لتكون دليلاً لمن يرغب في نَهْل المزيد من التفاصيل والآراء.

المقدمة: الأسطورة في مواجهة الواقع

تُعد أسطورة “إسرائيل الكبرى” أو “أرض إسرائيل الكاملة” إحدى أكثر السرديات الجيوسياسية تأثيراً وإثارة للجدل في العصر الحديث، وهي سردية لا تقتصر على تمَّ نسجها كي تصبح مفهوماً دينياً متوارثاً، بل هي أيديولوجيا حُبِكت بطريقة ديناميكية تتكيف مع الظروف السياسية المتغيرة، وتتجسد في مشاريع عسكرية واقتصادية على الأرض. إن عنوان “سردية تلفيق الأسطورة” يشي بضرورة تفكيك هذه السردية من خلال تحليل أصولها اللاهوتية المتضاربة، وتطورها السياسي من مفهوم الآمال والأحلام إلى برنامج عمل، وبدأت تجلياتها تظهر في الاستراتيجيات المعاصرة التي تسعى لإعادة تشكيل المنطقة العربية. يسعى هذا التقرير إلى تتبع مسار هذه الأيديولوجيا، مبرزاً كيف تم مزج النصوص القديمة بالطموحات الحديثة، لترسم واقعاً يتشكل على الدوام بذرائع تتجدد وتتكيف.

تُعرف “أرض إسرائيل الكبرى” (بالعبرية: ארץ ישראל השלמה) بأنها تعبير عن الحدود التاريخية أو المأمولة لدولة الكيان الإسرائيلي، وقد تباين استخدام هذا المصطلح عبر الزمن ليحمل معانٍ دينية وسياسية مختلفة. ففي سياقه الواسع، يشير إلى منطقة شاسعة تمتد “من نهر النيل إلى نهر الفرات” (1). بينما في سياقه الأضيق، يشمل أراضي دولة إسرائيل المعترف بها دولياً، بالإضافة إلى مرتفعات الجولان والضفة الغربية وقطاع غزة. هذه المرونة في التعريف ليست مجرد صدفة، بل هي جوهر الأيديولوجيا التي سمحت لها بالبقاء والتكيف مع المتغيرات، مقدمةً رؤية براغماتية مؤقتة دون التخلي عن الهدف الأقصى. على النقيض من الحركات التي تسعى إلى تحقيق أهدافها دفعة واحدة، فإن الحركة الصهيونية أظهرت قدرة فريدة على التكيف التدريجي، حيث يتم قبول المكاسب المرحلية كخطوة نحو تحقيق “الرؤية الكاملة” (3).

هذا التوجه يؤكد أن الأسطورة ليست مجرد حلم قديم، بل هي استراتيجية حية يتم استخدامها بوعي لتوجيه العمل السياسي والميداني.

الجزء الأول: الأصول اللاهوتية والتفسيرات المتضاربة

1.1 حدود أرض الميعاد في النصوص المقدسة: التناقض كجوهر الأسطورة

إن فكرة “إسرائيل الكبرى” تستمد شرعيتها الأولى من نصوص مقدسة في التوراة، لكن هذه النصوص نفسها لا تقدم تعريفاً واحداً وثابتاً للحدود، بل تعرض مجموعة من الأوصاف الجغرافية التي يمكن تأويلها بشكل انتقائي. يعد سفر التكوين (15: 18-21) المرجع الأبرز للحدود القصوى، حيث ينص على أن الله قطع ميثاقاً مع إبراهيم ووعد نسله بأرض تمتد “من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات” (2). هذا الوصف يضم أراضي واسعة تشمل أجزاء من مصر، ولبنان، وسوريا، والعراق، والأردن، والسعودية، وفلسطين المحتلة (1).

ومع ذلك، تظهر نصوص أخرى حدوداً أكثر واقعية وتحديداً. ففي سفر العدد (34: 1-15)، يتم وصف الحدود بأنها تبدأ من برية صين على حدود أدوم في الجنوب، وتمر بوادي مصر، وتكون حدودها الغربية هي البحر المتوسط.

برية صين أو صحراء صين (بالعبرية: מדבר צין‏) هي منطقة جغرافية ذكرتها التوراة باعتبارها تحتوي على برية قادش بداخلها؛ وهي أحد محطات بني إسرائيل في البرية أثناء التيه بعد خروجهم من مصر، معظم المصادر التقليدية تحدد موقعها كجزء من وادي عربة.

أما في الشمال، فتمتد من البحر المتوسط إلى جبل هور، ثم إلى مدخل حماة، وتخرج إلى حصر عينان. أما الحد الشرقي فيمتد من حصر عينان إلى شفام، وينحدر عبر نهر الأردن إلى البحر الميت (2). هذه الحدود، التي يكررها سفر حزقيال (47: 13-20)، تصف رقعة جغرافية أصغر بكثير من تلك المذكورة في سفر التكوين، وهي في الأساس تتوافق مع حدود الأراضي التي تم تقسيمها بين الأسباط الاثني عشر (2).

إن هذا التناقض بين الحدود التوراتية ليس ضعفاً في السردية، بل هو قوتها الحقيقية. فهو يتيح للمجموعات السياسية والدينية اختيار التفسير الذي يناسب أجندتها التوسعية في لحظة معينة. فعندما يكون الحديث عن رؤية مستقبلية شاملة، يتم استدعاء “وعد النيل إلى الفرات” كحلم قومي أقصى. أما عندما يتعلق الأمر بتبرير الاستيطان في مناطق محددة كالضفة الغربية، فيتم التركيز على حدود الأراضي التي أُعطيت لأسباط إسرائيل القديمة. هذا التعدد في التفسير يمنح الحركة الصهيونية مساحة واسعة للمناورة: فبإمكانها تقديم موقف براغماتي في المفاوضات بقبول حدود مؤقتة، مع الحفاظ على الرؤية الكبرى كهدف نهائي لا يمكن التنازل عنه (6).

1.2 المسيحية الصهيونية: الشريك التاريخي للأسطورة

إن الأيديولوجيا الصهيونية لم تنشأ في عزلة، بل وجدت شريكاً تاريخياً غير متوقع في بعض الأوساط المسيحية، وتحديداً في البروتستانتية الأنجلوفونية. يُطلق على هذا التيار اسم “المسيحية الصهيونية”، وهي أيديولوجيا دينية وسياسية ترى أن عودة الشعب اليهودي إلى “الأرض المقدسة” هي شرط مسبق لتحقيق نبوءات الكتاب المقدس وتهيئة الأرض للعودة الثانية للمسيح (7).

تعود جذور هذه الحركة إلى الفكر البيوريتاني في إنجلترا في القرن السابع عشر، حيث ظهرت عقيدة “الألفية الاسترجاعية” (Restorationism Millennialism) التي تنص على أن عودة بني إسرائيل إلى صهيون هي الخطوة الأولى في تحقيق نبوءة الألفية السعيدة التي سيحكم فيها المسيح العالم لمدة ألف عام (8). من المهم ملاحظة أن دعم هؤلاء البروتستانت لليهود لم يكن نابعاً من محبة أو تعاطف خالص، بل كان يخدم أجندتهم اللاهوتية الخاصة. فاليهود في نظرهم لم يكونوا سوى “أداة خلاص” لتحقيق الغاية المسيحية الأكبر، حيث كان مصيرهم في نهاية المطاف إما اعتناق المسيحية أو الإبادة (9).

أثرت هذه الأفكار على السياسة البريطانية في القرن التاسع عشر، ووجدت شخصيات بارزة تروج لها، مثل اللورد شافتسبري، الذي كان ناشطاً اجتماعياً بارزاً ورئيساً لجمعية لندن للترويج للمسيحية بين اليهود (10). دعم شافتسبري عودة اليهود إلى فلسطين من خلال حملات التأثير على صناع القرار، مما ساهم في خلق “مناخ رأي” في المملكة المتحدة مؤيد لإنشاء وطن قومي يهودي. هذا المناخ السياسي بلغ ذروته في وعد بلفور عام 1917، الذي يُعتقد أن واضعه، آرثر بلفور، كان متأثراً بأفكار المسيحية الصهيونية السائدة في إنجلترا آنذاك (7).

يظهر هذا التحالف كيف أن أسطورة “إسرائيل الكبرى” لم تكن مجرد حلم داخلي، بل كانت جزءاً من مشروع استعماري غربي أوسع نطاقاً، يوفر لها غطاءً أخلاقياً ودعماً سياسياً، مما يفسر استمرار الدعم الغربي القوي لإسرائيل حتى اليوم، بغض النظر عن سياساتها.

الجزء الثاني: البراغماتية الصهيونية وتأصيل الأيديولوجيا

2.1 من الرؤية الحالمة إلى الاستراتيجية الواقعية: هرتسل وبن غوريون

لم تكن فكرة “إسرائيل الكبرى” مجرد رؤية لاهوتية، بل سرعان ما تحولت إلى استراتيجية سياسية عملية على يد مؤسسي الحركة الصهيونية. كان تيودور هرتسل، في رؤيته المؤسسة، يتحدث عن دولة يهودية تمتد “من وادي العريش إلى الفرات”، وهي رؤية طموحة لم يستطع تحقيقها في مفاوضاته مع الإمبراطورية العثمانية (1). لكن تلميذه وأول رئيس وزراء لإسرائيل، ديفيد بن غوريون، هو من قام بترجمة هذا الحلم إلى استراتيجية عملية على مراحل.

أظهر بن غوريون براغماتية حاسمة في خطابه العام، فقد قبل خطة التقسيم عام 1947، ليس كحل نهائي، بل كخطوة تكتيكية لتعزيز قوة الحركة الصهيونية على الأرض. وقد كتب في هذا الصدد: “إن إنشاء دولة، حتى لو كانت على جزء من الأرض، هو أقصى تعزيز لقوتنا في الوقت الحاضر ومحفز قوي لمساعينا التاريخية لتحرير البلاد بأكملها” (13). هذا التصريح يوضح استراتيجية “الزيادة التدريجية في القوة” (acquisitive incrementalism)، حيث تُستخدم كل مكسب صغير كمنصة انطلاق لتحقيق المكاسب الأكبر.

على النقيض من خطابه الرسمي، كانت تصريحاته الخاصة أكثر صراحة في التعبير عن الأهداف التوسعية الكاملة. فقد كتب في إحدى رسائله: “يجب أن نطرد العرب ونحلّ محلهم” (14). وفي مناسبة أخرى، قال: “الخريطة الحالية لفلسطين رسمها الانتداب البريطاني. للشعب اليهودي خريطة أخرى يجب على شبابنا وكبارنا السعي لتحقيقها: من النيل إلى الفرات” (14). ولعل أشهر أقواله التي تلخص هذه الاستراتيجية هو جوابه عندما سُئل عن حدود إسرائيل، إذ قال: “حدودها حيث يصل حذاء الجندي الإسرائيلي الأخير” (16). هذه الأقوال تكشف عن ازدواجية في الخطاب: خطاب براغماتي معلن يهدف إلى طمأنة المجتمع الدولي، وخطاب سري يوجه البرنامج التوسعي الفعلي على الأرض.

2.2 – 1967: من الهامش إلى التيار الرئيسي

شكلت حرب 1967 نقطة تحول جوهرية في تاريخ الحركة الصهيونية، حيث نقلت أيديولوجيا “إسرائيل الكبرى” من الهامش إلى صميم النقاش السياسي العام. فبعد احتلال الضفة الغربية، وقطاع غزة، ومرتفعات الجولان، وشبه جزيرة سيناء، لم تعد فكرة السيطرة على “أرض إسرائيل الكاملة” مجرد حلم بعيد، بل تحولت إلى برنامج سياسي فعلي يسعى اليمين الإسرائيلي لتطبيقه (3).

مع المكاسب العسكرية، ظهرت حركات سياسية جديدة لتعزيز الأيديولوجيا، أبرزها “الحركة من أجل أرض إسرائيل الكاملة” التي تأسست في يوليو 1967، أي بعد شهر واحد من الحرب، ودعت إلى الاحتفاظ بجميع الأراضي المحتلة واستيطانها بالسكان اليهود (17). وقد انضمت هذه الحركة لاحقاً إلى تحالف الليكود، مما ساهم في إعطاء زخم سياسي للتوجهات التوسعية (18).

كما ظهرت حركة “غوش إيمونيم” (كتلة المؤمنين) في عام 1974، وهي حركة دينية-قومية متطرفة، ترى أن السيطرة على الأراضي المحتلة هي واجب ديني ومسيحاني يهدف إلى تسريع عملية “الخلاص” وتهيئة الظروف لعودة المسيح (19). لقد شكلت هذه الحركة الأساس الفكري والعملي لبرنامج الاستيطان في الضفة الغربية، حيث اعتبرت أن “لا حكومة، سواء كانت إسرائيلية أو أجنبية، لها الحق في منع ذلك“، وهو ما حول الأيديولوجيا من مجرد فكرة إلى فعل على الأرض (19).

إلى جانب هذه الحركات، ظهرت أيديولوجيا أكثر تطرفاً تعرف باسم “الكاهانية“، نسبةً إلى مؤسسها الحاخام مئير كهانا وحزبه “كاخ“. دعت الكاهانية صراحة إلى طرد السكان العرب من “أرض إسرائيل” وإقامة دولة ثيوقراطية يهودية، حيث لا يتمتع غير اليهود بحقوق التصويت (21). ورغم أن أفكار كهانا كانت تعتبر هامشية وتم حظرها واعتبار حزبه منظمة إرهابية بعد مذبحة الحرم الإبراهيمي في الخليل عام 1994 (22)، إلا أن إرثه عاد للظهور في السياسة الإسرائيلية المعاصرة، حيث يحضر سياسيون حاليون فعاليات تأبينه وهم مازالوا يتبنون أفكاره، مما يدل على أن ما كان يُعد تطرفاً أصبح شرعياً بمرور الوقت (22).

الجزء الثالث: استراتيجيات التفكيك والمشاريع الجيوسياسية المعاصرة

3.1 خطة ينون: خارطة طريق للفوضى الإقليمية؟

في عام 1982، نُشر مقال للصحفي الإسرائيلي أوديد ينون بعنوان “استراتيجية لإسرائيل في الثمانينيات” في مجلة “كيفونيم” التابعة للمنظمة الصهيونية العالمية (24). ورغم أن المقال لم يكن سياسة رسمية للدولة، إلا أنه يُعد وثيقة هامة تعكس “مدرسة فكرية معينة داخل الأوساط الاستراتيجية الإسرائيلية” (26).

تتمحور فكرة “خطة ينون” حول أن أمن إسرائيل طويل الأمد يكمن في تفكيك الدول العربية المحيطة بها إلى كيانات أصغر قائمة على أسس عرقية أو طائفية متناحرة، مما يمنع تشكيل أي تهديد عسكري موحد ضد إسرائيل (26). يرى ينون أن العالم العربي هو “بيت من ورق مؤقت” بناه الأجانب، وأنه يحتوي على انقسامات داخلية يمكن استغلالها لتقويض هذه الدول من الداخل (24). وقد اقترح المقال تفكيك دول مثل العراق إلى ثلاثة كيانات (شيعي، سني، وكردي)، وتفكيك سوريا على أسس طائفية (علويون، سنة، دروز، أكراد)، كما توقع تفكك مصر إلى دويلات أصغر (26).

إن الخطة تحوّل التهديد الأمني التقليدي إلى فرصة استراتيجية من خلال “إدارة الفوضى” أو “توليدها” في الدول المجاورة. هذا التفكير يفسر الدعم الإسرائيلي التاريخي لبعض الميليشيات المسيحية في لبنان خلال الحرب الأهلية، والتحالفات المستمرة مع بعض المجموعات الكردية أو الدرزية (26). ورغم أن الخطة أصبحت مادة خصبة لنظريات المؤامرة التي تربطها بأحداث كبرى مثل غزو العراق عام 2003، فإنها تظل مرجعاً حيوياً لفهم كيف يُنظر إلى عدم الاستقرار الإقليمي من وجهة نظر استراتيجية إسرائيلية على أنه وسيلة لتعزيز النفوذ والأمن (26).

3.2 ممر داوود والتدخل العسكري: تجليات حديثة للأيديولوجيا

يُعد مشروع “ممر داوود” مثالاً حديثاً على تجسد الأيديولوجيا التوسعية في مشاريع جيوسياسية ملموسة. يُنظر إلى هذا المشروع كجزء من رؤية “إسرائيل الكبرى” الأوسع نطاقاً، ويتم الترويج له كقناة استراتيجية تربط مرتفعات الجولان المحتلة بالمناطق التي يسيطر عليها الأكراد في شمال شرق سوريا ووصولاً إلى كردستان العراق (30).

ممر داوود المزمع تنفيذه من قبل الكيان الإسرائيلي

تتعدد أهداف هذا الممر، فهي لا تقتصر على الجانب الاقتصادي المتمثل في إنشاء ممر تجاري ونقل موارد النفط والغاز إلى موانئ البحر المتوسط (32)، بل تشمل أهدافاً أمنية واستراتيجية أعمق. يهدف الممر إلى قطع خطوط الإمداد البرية الإيرانية إلى حزب الله في لبنان، وإقامة “مناطق عازلة” للحد من نفوذ “محور المقاومة” (30). كما يسعى المشروع إلى “هندسة” بيئة إقليمية جديدة من خلال خلق مناطق حكم ذاتي للأقليات مثل الدروز والأكراد، مما يتوافق مع استراتيجية “التفكيك” التي طرحتها خطة ينون (30).

أظهرت الأحداث الأخيرة في سوريا بعد سقوط نظام الأسد في كانون الأول 2024 تطبيقاً عملياً لهذه الاستراتيجيات. ففي أعقاب الانهيار، قامت القوات الإسرائيلية باحتلال الجانب السوري من جبل الشيخ (جبل حرمون) والمنطقة العازلة المحددة عام 1974، بالإضافة إلى عدد من القرى والبلدات في محافظتي القنيطرة و درعا (33). ورغم أن إسرائيل بررت هذه التحركات بـ”المخاوف الأمنية” لمنع انتشار “الجهاديين“(35)، إلا أن هذا التوغل يوفر لها “عمقاً استراتيجياً” ومواقع مراقبة حيوية تطل على دمشق و (30)(36). وقد وثقت منظمات حقوقية مثل “هيومن رايتس ووتش” انتهاكات مزعومة، بما في ذلك التهجير القسري للمدنيين وهدم منازلهم، وهو ما يُعد جريمة حرب بموجب القانون الدولي (38). هذا يوضح كيف تُستخدم “الذرائع الأمنية” كقناع لتبرير تحقيق أهداف توسعية طويلة الأمد.

الجزء الرابع: تفكيك سردية التزوير والتضليل

4.1 بروتوكولات حكماء صهيون: تزوير تاريخي في خدمة العداء

يُعد تفكيك سردية التضليل جزءاً لا يتجزأ من أي تحليل مهني للأسطورة الصهيونية. ومن أبرز الوثائق التي يتم تداولها في هذا السياق، وساهمت في ترويج نظريات المؤامرة حول “السيطرة اليهودية على العالم”، هي “بروتوكولات حكماء صهيون“. من الضروري التأكيد بشكل قاطع أن هذه الوثيقة هي تزوير تاريخي سيئ السمعة (40).

تزعم “البروتوكولات” أنها محاضر اجتماعات سرية لقادة يهود يخططون للسيطرة على العالم من خلال التلاعب بالحروب، والأزمات المالية، ووسائل الإعلام (42). إلا أن التحقيقات التاريخية أثبتت أن هذه الوثيقة لم تُكتب من قبل اليهود، بل هي عملية سرقة أدبية من كتيب سياسي فرنسي ساخر صدر عام 1864 بعنوان “حوار في الجحيم بين مكيافيلي ومونتسكيو” (Dialogue in Hell Between Machiavelli and Montesquieu)، الذي لا يحتوي على أي إشارة إلى اليهود (12). وقد تم تأليفها وتلفيقها في روسيا القيصرية في بداية القرن العشرين، بهدف إثارة الكراهية ضد اليهود واستخدامهم ككبش فداء للاضطرابات السياسية.

لقد استخدمت هذه الوثيقة كأداة دعائية قوية لتبرير العنف والاضطهاد ضد اليهود، خاصة من قبل النازيين في ألمانيا (42). كما أنها ما زالت تُستخدم من قبل جماعات معادية للسامية في جميع أنحاء العالم (42). إن الاعتماد على وثيقة مزورة كهذه في نقد الحركة الصهيونية يخدم أجندتها بشكل غير مباشر، لأنه يسمح لها بتقديم نفسها كضحية لنظريات مؤامرة كاذبة، مما يصرف الأنظار عن ممارساتها الحقيقية على الأرض. وبالتالي، فإن تفنيد “البروتوكولات” هو خطوة أساسية لتعزيز مصداقية النقد القائم على الحقائق، وفصل الجوهر السياسي للصهيونية عن الدعاية المضللة التي تحيط بها (44).

4.2 “لن يتكرر أبداً”: تلاعب بالذاكرة للتبرير

شعار “لن يتكرر أبداً” (Never Again) هو عبارة قوية نشأت في أعقاب المحرقة، وقد استخدمها الناجون من معسكرات الاعتقال للتأكيد على ضرورة منع تكرار الفظائع والفاشية مرة أخرى (46). كانت هذه العبارة في أصلها نداءً عالمياً لمناهضة الظلم والإبادة الجماعية أينما كان.

لكن الأيديولوجيا المتطرفة، وخاصة “الكاهانية”، قامت بتحريف هذا الشعار لتستخدمه في سياق مختلف تماماً. فقد قام الحاخام مئير كهانا في كتابه “لن يتكرر أبداً! برنامج للبقاء” بإعادة تعريف الشعار ليصبح دعوة إلى التطرف والعدوان. ففي نظره، أصبح الشعار يعني أنه “لن يتم تهديد وجود اليهود مرة أخرى“، وهو ما يتطلب، بحسب أيديولوجيته، طرد الفلسطينيين بالقوة من “أرض إسرائيل” لمنع أي تهديد ديمغرافي مستقبلي (47).

هذا التحريف يمثل مثالاً صارخاً على “تلفيق الأسطورة“، حيث يتم استغلال ذكرى تاريخية مؤلمة، مثل ذكرى المحرقة، لإنشاء سردية جديدة تبرر ممارسات تتناقض تماماً مع روح الشعار الأصلي. إنه يحول “لن يتكرر أبداً” من دعوة عالمية لمناهضة الظلم إلى شعار قومي حصري يخص مجموعة واحدة فقط. وقد أدت هذه الأفكار، التي كانت في الماضي تُعتبر هامشية، إلى اكتساب شرعية سياسية في العصر الحديث، مما يدل على كيف يتم تطبيع التطرف وجعل أفكار مثل الطرد الجماعي والتمييز العنصري مقبولة تحت ستار “الأمن القومي” وحماية وجود الدولة (22).

الخاتمة: الأسطورة الأبدية في مواجهة الواقع

في الختام، يُظهر هذا التقرير أن سردية “إسرائيل الكبرى” ليست مجرد خرافة قديمة أو حلم ديني طوباوي، بل هي أيديولوجيا معقدة ومتعددة الأوجه، تتميز بالمرونة والتكيف لتظل حيّة وفاعلة. لقد بدأت كفكرة لاهوتية ذات حدود متضاربة، مما سمح بتأويلات انتقائية لخدمة الأهداف السياسية. وتطورت على يد مؤسسي الحركة الصهيونية من رؤية حالمة إلى استراتيجية براغماتية يتم تنفيذها على مراحل. ثم انتقلت من الهامش إلى صميم السياسة الإسرائيلية بعد حرب 1967، لتصبح برنامجاً عملياً تقوده حركات دينية-قومية متطرفة.

تتجلى هذه الأيديولوجيا في العصر الحديث عبر مشاريع استراتيجية مثل “خطة ينون”، التي سعت إلى إعادة تشكيل المنطقة عبر تفتيت الدول المجاورة، وفي مشاريع عملية مثل “ممر داوود”، التي ترتبط بشكل مباشر بالتحركات العسكرية الأخيرة في سوريا.

إن هذه المشاريع والتحركات لا يمكن فهمها بمعزل عن السردية التوسعية الأوسع، فهي تظهر كيف تُستخدم “الذرائع الأمنية” كقناع لتحقيق أهداف جيوسياسية واقتصادية طويلة الأمد.

ومع ذلك، تواجه هذه الأسطورة تحديات جوهرية من الداخل والخارج. فعلى الصعيد الداخلي، يضع الوجود الديمغرافي الملايين من الفلسطينيين في الأراضي المحتلة تحدياً أمام فكرة الدولة “اليهودية الديمقراطية”، مما يهدد هويتها وطابعها (3). وعلى الصعيد الخارجي، يؤدي التمسك بأيديولوجيا السيطرة الكاملة إلى زيادة العزلة الدولية.

إن فهم هذه السردية المعقدة، التي جَمعتُ فيها بين بعض النصوص القديمة والطموحات الحديثة، هو مفتاح لفهم الديناميكيات الجيوسياسية في الشرق الأوسط، ولفهم أن الصراع لا يدور حول حدود مؤقتة، بل حول أسطورة تسعى إلى تحويل الخريطة برمتها. فهل من زعيم عربي “شريف” يتصدى لهذا التحدي؟

مصادر السردية