مقدمة: تفكيك “المسألة المسيحية” وعدسة الدراسات النقدية
لا يمكن قراءة تحولات الخطاب المسيحي في المشرق العربي، وفي سوريا تحديداً، باعتبارها مجرد رصد لردود أفعال “أقلية” دينية تجاه “أكثرية” مهيمنة، أو كمتتالية تاريخية من الاضطهاد والحماية. إن مثل هذه القراءة الاختزالية، التي سادت في الأدبيات الاستشراقية التقليدية وبعض الدوائر الكنسية المحافظة، تغفل الديناميات المعقدة لإنتاج الهوية داخل حيز السلطة والحداثة. إن هذه الدراسة تسعى، مستندة إلى منهجية الدراسات الأمريكية النقدية (Critical American Studies) ونظريات ما بعد الاستعمار (Post-Colonial Theory)، إلى إعادة موضعة “المسألة المسيحية” لا كقضية “أقليات” تبحث عن أمن بيولوجي، بل كمدخل لتشريح بنية الدولة الوطنية الحديثة في المشرق، وأزمات المواطنة، وآليات الهيمنة التي مارستها الأنظمة السلطوية والاستعمارية على حد سواء.
تستند هذه المقالة البحثية إلى فرضية مركزية مفادها أن “الطائفية” (Sectarianism) ليست معطىً أنطولوجياً ثابتاً في جينات مجتمعات الشرق الأوسط، بل هي عملية سياسية وتاريخية حديثة – أو ما يسميه أسامة مقدسي “التطييف” (Sectarianization) – نتجت عن تقاطع الحداثة العثمانية المتأخرة، والتدخل الاستعماري الأوروبي، ولاحقاً “هندسة الهويات” التي مارستها دولة ما بعد الاستقلال، وصولاً إلى نظام البعث في سوريا. المصدر: (1)
“الطائفية هي تعبير عن الحداثة… أصولها تكمن في تقاطع الاستعمار الأوروبي في القرن التاسع عشر مع التحديث العثماني. إنها ليست عودة إلى الماضي، بل تمزق وتأسيس لثقافة جديدة.”
.Makdisi, Ussama. The Culture of Sectarianism. University of California Press, 2000
تغطي المقالة المسار الزمني الممتد من “مذابح 1860” وصدمة الحداثة، مروراً بمرحلة “الوهم القومي” وتأسيس البعث، ثم حقبة “الاستقرار القسري” تحت حكم عائلة الأسد، وصولاً إلى الزلزال الجيوسياسي الذي ضرب المنطقة بسقوط النظام السوري في كانون الأول 2024 وبدء المرحلة الانتقالية الهشة في 2025 بقيادة “هيئة تحرير الشام” والحكومة المؤقتة. سنحاول تتبع كيف تحول الخطاب المسيحي من “الريادة النهضوية” في القرن التاسع عشر إلى “الانكفاء الخائف” في القرن العشرين، وكيف تعيد لحظة 2025 تشكيل هذا الخطاب بين خيارات “الهجرة“، “الذمية الجديدة“، أو “النضال من أجل المواطنة“.
الفصل الأول: جينيالوجيا “الطائفة”: الاستعمار، الإرساليات، واختراع الأقلية (1860-1946)
1.1 من “الملة” العثمانية إلى “الأقلية” الحديثة: صدمة التنظيمات
لم يكن المسيحيون في المشرق يعيشون في “جنّة” قبل الحداثة، لكنهم كانوا جزءاً من نظام اجتماعي تراتبي (Hierarchy) مستقر نسبياً يُعرف بنظام “الملة“. يجادل الباحثون النقديون، مثل “أسامة مقدسي“، بأن العنف الطائفي الذي انفجر في منتصف القرن التاسع عشر لم يكن عودة للقبلية، بل كان نتاجاً مباشراً لمحاولات التحديث القسرية وتدخل القوى الأوروبية التي فرضت مفهوماً مشوهاً للمساواة. المصدر: (1)
أدت إصلاحات “التنظيمات” العثمانية (1839، 1856)، التي سعت لمنح المساواة القانونية بين الرعايا، إلى تخلخل البنية الاجتماعية التقليدية. وفي الوقت الذي كانت فيه الدولة العثمانية تحاول مركزة السلطة، كانت القوى الأوروبية (فرنسا، بريطانيا، روسيا) تعيد تعريف الطوائف المسيحية كـ “وكلاء” لها، مما حول الاختلاف الديني إلى انقسام سياسي حاد.المصدر: (3) هنا، ولدت فكرة “الأقلية” (Minority) ليس كحقيقة عددية فحسب، بل كهوية سياسية تتطلب “حماية” خارجية، وهو ما أسس لـ “ثقافة الطائفية” الحديثة التي تنفي عن المسيحي صفة المواطن الأصيل وتحوله إلى “مشروع محمي” المصدر: (2)
1.2 “الاستشراق التربوي”: الإرساليات وتصنيع النخبة الهجينة
لعبت المؤسسات التعليمية التبشيرية، ولا سيما الكلية السورية البروتستانتية (الجامعة الأمريكية في بيروت لاحقاً) و الجامعة اليسوعية، دوراً مزدوجاً في تشكيل الوعي المسيحي. من ناحية، ساهمت هذه المؤسسات في خلق نخبة مسيحية (وإسلامية) متنورة قادت حركة النهضة الأدبية والفكرية. ولكن من منظور نقدي، ساهمت هذه المؤسسات في خلق “انزياح ثقافي” و تمايز طبقي. المصدر: (5)
أصبح التعليم الغربي “رأسمالاً ثقافياً” (Cultural Capital) يميز النخبة المسيحية عن محيطها، مما عزز الشعور بالتفوق الحداثي لدى البعض، وبالاغتراب لدى البعض الآخر. هذا التمايز استغله الاستعمار الفرنسي لاحقاً لتبرير وجوده كـ “حامي للحضارة” وكحليف للأقليات المتنورة ضد “الغوغاء” التقليديين. المصدر: (5)
1.3 الانتداب الفرنسي ومأسسة الانقسام الطائفي
مع فرض الانتداب الفرنسي (1920–1946)، تحولت الطائفية من ممارسة اجتماعية إلى “مؤسسة دستورية“. يرى الباحثون أن الانتداب الفرنسي لم يكتفِ باستغلال الانقسامات الموجودة، بل قام بـ “مأسستها” (Institutionalization) لضمان ديمومة سيطرته. المصدر: (6)
في لبنان، تم توسيع جبل لبنان ليشمل مناطق ذات أغلبية إسلامية لضمان هيمنة اقتصادية للموارنة تحت الرعاية الفرنسية، مما خلق كياناً سياسياً قائماً على القلق الديموغرافي الدائم> أما في الداخل السوري، فقد حاول الفرنسيون تقسيم البلاد إلى دويلات طائفية (دولة العلويين، دولة الدروز)، وهو ما قاومه الوطنيون السوريون، بمن فيهم نخب مسيحية بارزة. المصدر: (8)
هذه السياسة الاستعمارية زرعت بذور التوتر المستدام: المسيحيون في لبنان ربطوا مصيرهم بـ “الكيانية اللبنانية” المنفصلة عن العروبة، بينما وجد مسيحيو سوريا (الأرثوذكس خاصة) أن مصلحتهم تكمن في الاندماج الكامل في المشروع الوطني السوري لمواجهة التجزئة. المصدر: (9)
الفصل الثاني: الوهم العلماني: القومية العربية كآلية دفاعية (1946-1970)
2.1 “العروبة” كبوتقة صهر: استراتيجية الاندماج المسيحي
في مواجهة خطر التهميش كـ “أقلية”، طور المثقفون المسيحيون في مرحلة ما بعد الاستقلال خطاباً قومياً عربياً علمانياً. كان هذا الخطاب، الذي قاده مفكرون مثل قسطنطين زريق وميشيل عفلق، محاولة لـ “علمنة” المجال العام واستبدال الرابطة الدينية بالرابطة اللغوية والتاريخية. المصدر: (10)
بالنسبة لقسطنطين زريق، لم تكن القومية نقيضاً للدين، بل كانت “ديانة علمانية” تحتوى الإسلام كإرث حضاري لكل العرب. جادل زريق بأن “الروحانية” الحقيقية ترفض التعصب، وأن المسيحي العربي يجب أن يرى في الحضارة الإسلامية تاريخه القومي. المصدر: (10) كانت هذه محاولة ذكية لكسر ثنائية (مسلم/مسيحي) واستبدالها بثنائية (عربي/أعجمي) حيث يتساوى المسيحي والمسلم.
“القومية العربية ليست نظرية ولا هي عاطفة، إنها قدر… وهي تتجاوز الفوارق المصطنعة التي خلقها الاستعمار.”
ميشيل عفلق، في سبيل البعث، (كتابات حول العروبة والإسلام).
2.2 ميشيل عفلق والبعث: “مسيحي يؤسس لدولة المسلمين”؟
يعد ميشيل عفلق، مؤسس حزب البعث، النموذج الأرقى لهذه الاستراتيجية. رغم خلفيته المسيحية الأرثوذكسية، مجّد عفلق الإسلام واعتبر الرسول محمداً “بطل العروبة“. قراءات ما بعد الاستعمار ترى في خطاب عفلق “تقية علمانية“؛ محاولة لتفكيك الهيمنة الإسلامية السياسية عبر تبني رموزها ثقافياً وإفراغها من محتواها التشريعي. المصدر: (10)
2.3 فشل المشروع القومي وانتكاسة 1967
أدت هزيمة 1967، وفشل الدولة القومية في تحقيق التنمية أو الديمقراطية، إلى تآكل “العقد الاجتماعي” العلماني. بدأت الجماهير تعود إلى هوياتها الأولية، وصعدت حركات الإسلام السياسي. وجد المسيحيون أنفسهم في العراء، فالغطاء القومي تمزق، والدولة الوطنية تحولت إلى دولة بوليسية. مهد هذا الطريق لصعود حافظ الأسد، الذي قدم نفسه كـ “منقذ” وحيد من الفوضى والتطرف. المصدر: (13)
الفصل الثالث: في “القفص الحديدي”: المسيحيون والأسدية (1970-2011)
3.1 هندسة “تحالف الأقليات” المبطن
دشّن حافظ الأسد في 1970 حقبة جديدة من العلاقات بين الدين والدولة. رغم شعارات البعث العلمانية، بنى الأسد نظامه على عصبية طائفية (علويّة) مبطنة، وسعى لتشكيل “تحالف أقليات” (Alliance of Minorities) غير معلن. كانت الرسالة الضمنية للمسيحيين و الدروز و الإسماعيليين: “نحن في مركب واحد ضد البحر السني الهائج“. المصدر: (3)
تصف الدراسات النقدية هذه العلاقة بـ “الابتزاز بالحماية” (Protection Racket). النظام يخلق الخطر (أو يضخمه)، ثم يقدم نفسه كحامي وحيد منه. مقابل “الأمن البيولوجي” وحرية ممارسة الشعائر الطقسيَّة، طُلب من المسيحيين التنازل عن حقوقهم السياسية وعن صوتهم النقدي في المجال العام. المصدر: (15)
3.2 تأميم الكنيسة واختراق الهرمية الدينية
لم يكتفِ النظام بالتحالف، بل سعى للسيطرة الكاملة. عبر وزارة الأوقاف والأجهزة الأمنية، تم “تأميم” المجال الديني. أخضعت تعيينات البطاركة و الأساقفة للموافقات الأمنية، وتم تحويل المنابر الكنسية إلى منصات لتمجيد “القائد الخالد“. المصدر: (16)
أنتجت هذه السياسة طبقة من رجال الدين (Clergy) الذين يعملون كـ “وسطاء زبائنيين” (Clientelist Brokers) بين الطائفة والنظام. مهمتهم ضمان ولاء الرعية، وتبييض صورة النظام في الغرب باعتباره “واحة العلمانية” في الشرق الأوسط. وفي المقابل، يحصلون على امتيازات، تراخيص بناء كنائس، وإعفاءات ضريبية. المصدر: (18)
الفصل الرابع: الثورة كاشفةً: انقسام اللاهوت والموقف (2011-2023)
4.1 صدمة 2011: بين “الخوف الوجودي” و”الأمل الثوري”
مع اندلاع الثورة السورية في 2011، انقسم المشهد المسيحي عمودياً.
- المؤسسة الكنسية الرسمية: اصطفت فوراً وبشكل قاطع مع النظام. بررت ذلك بالخوف من “البديل الإسلامي” (مستحضرة السيناريو العراقي)، وتبنت سردية النظام حول “المؤامرة الكونية” و”العصابات الإرهابية“. المصدر: (1)
- المثقفون والنشطاء الشباب: انخرط عدد كبير من الشباب المسيحيين في التنسيقيات والمظاهرات، رافضين منطق “الأقليات”.
4.2 ميشيل كيلو: تفكيك “الأقلية” سياسياً
قدم ميشيل كيلو، المفكر المعارض، نقداً جذرياً لسلوك الكنيسة والنخب المسيحية. في كتاباته ومقابلاته، جادل كيلو بأن “تحالف الأقليات” هو وصفة للانتحار، لأن الأنظمة زائلة والشعوب باقية. اعتبر أن الكنيسة الأرثوذكسية يجب أن تكون “كنيسة الشعب” (الكنيسة الوطنية) لا كنيسة السلطة. المصدر: (19)
“أنا لا أعتبر نفسي صوتاً للمسيحيين… نحن مواطنون سوريون، وقضيتنا هي الحرية والكرامة والعدالة، وهي لا تتجزأ بين مسلم ومسيحي.”
ميشيل كيلو، مقالات وحوارات صحفية (أرشيف الثورة السورية).
4.3 الأب باولو دالوليو: لاهوت “البدلية” والمواجهة العزلاء
شكل الأب اليسوعي باولو دالوليو، مؤسس دير مار موسى، الحالة الأكثر راديكالية في الخطاب المسيحي. استلهم باولو مفهوم “البدلية” (Badaliya) من المستشرق لويس ماسينيون، والذي يعني “الإبدال الروحي“، أن يضع المسيحي نفسه مكان المسلم، حاملاً همومه وآلامه كفعل حب وتضامن. المصدر: (20)
لم يكتفِ باولو بالتنظير، بل نزل إلى الشارع، وطُرد من سوريا، ثم عاد متسللاً إلى الرقة في 2013 للتفاوض مع “داعش” (الدولة الإسلامية) لإطلاق سراح نشطاء، حيث اختفى هناك. المصدر: (21) يمثل باولو “لاهوت الحرية” الذي يرفض الحماية السلطوية، ويختار المخاطرة والموت من أجل الحوار.
“أن يضع المرء نفسه مكان الآخر، وأن يقدم خلاصه الشخصي فديةً من أجل خلاص الآخر.”
Paolo Dall’Oglio, Collera e Luce (Anger and Light), & farewell letter 2012.
4.4 “الغائب الحاضر”: المطران يوحنا إبراهيم وتفكيك سردية الخوف
في مقابل خطاب “الخوف” الذي تبنته المؤسسة الرسمية، وخطاب “الثورة” الراديكالي للأب باولو، برز المطران غريغوريوس يوحنا إبراهيم (متروبوليت حلب للسريان الأرثوذكس) كممثل لـ “الطريق الثالث” العقلاني الذي تم تغييبه قسراً. لم يكن إبراهيم مجرد رجل دين تقليدي، بل كان مثقفاً عضوياً يحمل درجة الدكتوراه، وأتقن لغة الحوار الدبلوماسي التي تسعى لإنقاذ “الدولة” لا “النظام“.
خلال السنوات الأولى للثورة (2011–2013)، رفض إبراهيم الانجرار خلف السردية الأمنية للنظام التي صورت المتظاهرين كإرهابيين، كما رفض في الوقت نفسه عسكرة الحراك. تميز خطابه برفض قاطع لفكرة “الهجرة” كحل للمسيحيين، معتبراً أن “الهروب” هو الهزيمة الحقيقية، وأن المسيحيين “ليسوا ضيوفاً” بل أصحاب أرض.
اختطافه في 22 نيسان 2013 مع المطران بولس يازجي قرب حلب لم يكن مجرد حادث جنائي؛ بل يُقرأ نقدياً كعملية “اغتيال سياسي لخطاب الاعتدال“. باختطافه، تم إسكات الصوت الذي كان يمكن أن يقود مصالحة مجتمعية، وتم إفراغ الساحة لثنائية (النظام الحامي / الإرهاب الداعشي)، مما أجبر المسيحيين المتبقين على الاحتماء بخندق النظام كخيار وحيد للبقاء.
الفصل الخامس: ما بعد الطوفان: سقوط الأسد وتحديات “سوريا الجديدة” (2024-2025)
يمثل سقوط نظام الأسد في 8 كانون الأول 2024، ووصول “هيئة تحرير الشام” (HTS) وفصائل المعارضة إلى دمشق، نقطة تحول زلزالية أعادت خلط كل الأوراق، ووضعت المسيحيين أمام امتحان وجودي غير مسبوق.
5.1 ديناميات السقوط: انهيار “الحامي” المزعوم
كان السقوط المدوي للنظام، وفرار بشار الأسد إلى موسكو، بمثابة صدمة معرفية للوعي المسيحي الذي تشكّل لعقود على فكرة أن “الأسد هو القدر”. المصدر: (23) الفصائل التي خوّفهم النظام منها لسنوات، باتت هي السلطة الحاكمة في دمشق وحلب وحماة.
تولى أحمد الشرع رئاسة الحكومة الانتقالية، محاولاً تقديم نفسه “زعيم براغماتي منفتح. في خطاباته، أكد على “الفسيفساء السورية” وحماية الأقليات، وزار كنائس لطمأنة رجال الدين. لكن هذا الخطاب التطميني اصطدم بواقع معقد على الأرض. المصدر: (25)
5.2 الإعلان الدستوري 2025: مواطنة منقوصة؟
في آذار 2025، أصدرت السلطات الانتقالية “الإعلان الدستوري“. تحليل بنود هذا الإعلان يكشف عن التوتر البنيوي بين “الدولة المدنية” و”الدولة الإسلامية“:
- المادة 3.1: تنص على أن “دين رئيس الدولة هو الإسلام” وأن “الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع“. المصدر: (27)
- المادة 10: تنص على “المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات” المصدر: (28)
هذا التناقض يعيد إنتاج إشكالية المواطنة في المشرق. فالمسيحي “مواطن” في الحقوق المدنية، لكنه “رعيّة” في السقف السياسي.
“يسوع يريد كنيسته في سوريا… فكرة إفراغ سوريا من المسيحيين هي بالتأكيد ليست مشيئة الله. واجبنا الأول هو البقاء وحماية مؤمنينا.”
الكاتبة جودي البابا / Politikon IAPSS Journal of Political Science 58(2):26-49 ,Judy El Baba : November 2024
5.3 ردود الفعل المسيحية: استراتيجيات التكيف والمقاومة
أمام هذا الواقع الجديد، تبلورت ثلاثة تيارات في الاستجابة المسيحية:
- تيار “الذمية الواقعية” (الداخل): يمثله رجال الدين والأساقفة الذين بقوا في سوريا (مثل المطران جاك مراد). هؤلاء يتبنون خطاباً مهادناً للسلطة الجديدة، يمدحون “الأمن” ويتجنبون الصدام. المصدر: (28)
- تيار “الرفض الجذري” (الشتات): منظمات مثل (Syrian Christians USA) أصدرت بيانات حادة في تشرين الأول 2025 ترفض “حكم الميليشيات” وتطالب بدولة مدنية علمانية. المصدر: (31)
- تيار “العودة المشروطة”: تشير إحصائيات المفوضية إلى أن مئات الآلاف من اللاجئين (بمن فيهم مسيحيون) بدأوا بالعودة أو التفكير فيها. المصدر: (32)
الفصل السادس: نحو إطار نظري جديد: من “لاهوت الحماية” إلى “لاهوت المواطنة”
6.1 سقوط سردية الحماية
أثبتت وقائع 2024–2025 السقوط المدوي لسردية “الحماية“. الحماية التي وفرها النظام كانت “وهمية” ومؤقتة، وانهارت في لحظة الحقيقة، تاركة المسيحيين يواجهون مصيرهم منفردين.
6.2 إرث الأب باولو والمستقبل
في تموز 2025، عُقد مؤتمر في دير مار موسى لاستذكار إرث الأب باولو دالوليو. هذا الحدث يشير إلى أن “الطريق الثالث” لا يزال ممكناً، مستنداً إلى “المواطنة الراديكالية” و”الشهادة”. المصدر: (22)
أعاد الأب باولو تسييس هذا المفهوم لاهوتياً في السياق السوري، جاعلاً من “البدليّة” فعلاً ثورياً للتضامن مع المسلم المضطهد. قال باولو قبل اختفائه في الرقة:
“إن منطق ملكوت الله هو منطق المحبة في كل شيء ورغم كل شيء… أنا ذاهب، وبقدر ما أبتعد في المدى، أتعمق في انتمائي العربي والسوري.”
كان ذهابه للتفاوض مع “داعش” في 2013 تجسيداً حرفياً لـ “البدليّة“: تقديم الذات فديةً لحقن الدماء وللحوار المستحيل.
6.3 “مواطنة لا أقلية”: نبوءة يوحنا إبراهيم في قلب طهران
إذا كان الأب باولو يمثل “الشهادة الروحية“، فإن المطران يوحنا إبراهيم يمثل “الشهادة السياسية” لمفهوم المواطنة. ولعل اللحظة الأكثر تجلياً وتراجيدية في مسيرته كانت خطابه التاريخي في مؤتمر طهران للمعارضة في 18-19 تشرين الأول 2012. في عقر دار الداعم الأكبر للنظام (إيران)، وفي حضرة وزير خارجيتها، ألقى إبراهيم قنبلة فكرية حين رفض منطق “تحالف الأقليات” الذي كانت تروج له طهران ودمشق.
قال إبراهيم بوضوح:
“لا يرى المخلصون من أبناء شعبنا بديلاً عن المواطنة كسقف يستظل تحته كل المواطنين”.
وأكد أن الأغلبية الساحقة من السوريين ضد العنف، رافضاً تصنيف المسيحيين كـ “أقلية” تحتاج إلى حماية خارجية أو سلطوية، بل كـ “مواطنين” يستمدون أمانهم من القانون والدولة العادلة. لقد كان هذا الخطاب تفكيكاً جذرياً لـ “الابتزاز بالحماية“؛ فالمسيحي الذي يطلب المواطنة الكاملة لا يحتاج إلى دكتاتور ليحميه من جاره المسلم. يرى المحللون اليوم أن هذا الموقف الجريء – الذي عرّى الطائفية السياسية في عقر دار رعاتها – هو الثمن الذي دفعه المطران إبراهيم من حياته وحريته، ليصبح “شهيد المواطنة” التي رفض أن يقايضها بأمن الذميّة.
الخاتمة: نهاية “عقد الحماية” وبداية “عقد المواطنة” الشاق
إن التحولات الدراماتيكية التي شهدها المشرق العربي، و سوريا تحديداً، بين عامي 2011 و 2025، أسدلت الستار نهائياً على حقبة “لاهوت الحماية“. لقد سقطت الأوهام التي روجتها الأنظمة السلطوية بأن بقاء المسيحيين مرهون بوجود “المستبد العادل“. أثبت التاريخ القريب أن المستبد يرحل، وتبقى الشعوب تواجه مصيرها.
اليوم، يقف المسيحيون السوريون أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الانكفاء نحو “غيتوهات” الخوف وانتظار حماية دولية لن تأتي، وهو ما يعني الموت السريري للوجود المسيحي الفاعل؛ أو التقاط “الخيط الذهبي” الذي تركه المطران يوحنا إبراهيم و الأب باولو دالوليو و ميشيل كيلو. هذا الخيط هو “المواطنة الكاملة” التي لا تقبل بمنطق المنحة أو التسامح، بل تفرض الشراكة في المصير.
إن الدرس البليغ من تجربة المطران إبراهيم في طهران هو أن “الأمان” الحقيقي لا ينبع من تحالف الأقليات ضد الأكثرية، بل من الاندماج في مشروع وطني جامع يجعل من “المواطنة” السقف الوحيد، ومن “الحرية” الضمانة الأقوى. قد تكون الطريق شاقة ومحفوفة بالمخاطر في ظل حكم الفصائل الجديد، لكنها الطريق الوحيدة التي تليق بتاريخ مسيحية كانت، وستبقى، ملح هذه الأرض لا مجرد ديكور في قصر السلطان.
مستقبل المسيحيين في سوريا الجديدة لن يكتبه قانون “أحوال شخصية” جديد، بل ستكتبه القدرة على الانخراط في “عقد مواطنة” كامل، حيث لا فضل لأحد على أحد إلا بالقانون.
مصادر المقال:
- Sectarization as a political tool – Twist Islamophobia, accessed December 5, 2025, https://twistislamophobia.org/en/2017/11/10/sectarization-as-political-tool/
- The Mythology of the Sectarian Middle East – American Academy in Berlin, accessed December 5, 2025, https://www.americanacademy.de/mythology-sectarian-middle-east/
- What Is Sectarianization? | Arab Region Transitions | Carnegie Corporation of New York, accessed December 5, 2025, https://www.carnegie.org/our-work/article/political-sectarianization-middle-east-and-beyond/
- The Mythology of the Sectarian Middle East – Baker Institute, accessed December 5, 2025, https://www.bakerinstitute.org/sites/default/files/2017-02/import/CME-pub-Sectarianism-021317.pdf
- View of Polyglotism and Identity in Modern-Day Lebanon – Open Access Journals at Boston College, accessed December 5, 2025, https://ejournals.bc.edu/index.php/lingua/article/view/9611/9235
- Roots of Lebanon’s Sectarian Politics: Colonial Legacies of the French Mandate – Politikon: The IAPSS Journal of Political Science, accessed December 5, 2025, https://politikon.iapss.org/index.php/politikon/article/view/444
- Mandate for Syria and the Lebanon – Grokipedia, accessed December 5, 2025, https://grokipedia.com/page/Mandate_for_Syria_and_the_Lebanon
- Mandate for Syria and the Lebanon – Wikipedia, accessed December 5, 2025, https://en.wikipedia.org/wiki/Mandate_for_Syria_and_the_Lebanon
- (PDF) Roots of Lebanon’s Sectarian Politics: Colonial Legacies of the French Mandate, accessed December 5, 2025, https://www.researchgate.net/publication/386288792_Roots_of_Lebanon’s_Sectarian_Politics_Colonial_Legacies_of_the_French_Mandate
- Religion and Nationalism in the Arab World: Continuing or Temporary Intersection?, accessed December 5, 2025, https://www.scirp.org/journal/paperinformation?paperid=130198
- GENEALOGIES OF BAʿTHISM: MICHEL ʿAFLAQ BETWEEN PERSONALISM AND ARABIC NATIONALISM | Modern Intellectual History – Cambridge University Press, accessed December 5, 2025, https://www.cambridge.org/core/journals/modern-intellectual-history/article/genealogies-of-bathism-michel-aflaq-between-personalism-and-arabic-nationalism/DAB9C3B38D44F590342DCCCFF682511D
- Michel Aflaq – Wikipedia, accessed December 5, 2025, https://en.wikipedia.org/wiki/Michel_Aflaq
- Syria’s Transactional State | 2. The Origins and Evolution of Syria’s Shadow State – Chatham House, accessed December 5, 2025, https://www.chathamhouse.org/2018/10/syrias-transactional-state/2-origins-and-evolution-syrias-shadow-state
- Understanding Syria: Decisionmaking in the Assad Regime | The Washington Institute, accessed December 5, 2025, https://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/understanding-syria-decisionmaking-assad-regime
- Weaponization of Religion: The Manipulation of Religion in the Pursuit of Political Power in Yugoslavia and Syria – Fordham Research Commons, accessed December 5, 2025, https://research.library.fordham.edu/cgi/viewcontent.cgi?article=1105&context=international_senior
- Religion and the State in Post-War Syria – Arab Reform Initiative, accessed December 5, 2025, https://www.arab-reform.net/publication/religion-and-the-state-in-post-war-syria/
- The Religious Domain Continues to Expand in Syria | Carnegie Endowment for International Peace, accessed December 5, 2025, https://carnegieendowment.org/research/2019/04/the-religious-domain-continues-to-expand-in-syria?lang=en
- 2021 Report on International Religious Freedom: Syria – State Department, accessed December 5, 2025, https://2021-2025.state.gov/reports/2021-report-on-international-religious-freedom/syria/
- Q&A: Syria opposition figure Michel Kilo – Middle East Eye, accessed December 5, 2025, https://www.middleeasteye.net/news/qa-syria-opposition-figure-michel-kilo
- Michelle Kilo; A Syrian Opposition Figure Who Supported The Revolution and Practiced Democracy Selectively – Al-Estiklal Newspaper, accessed December 5, 2025, https://www.alestiklal.net/en/article/michelle-kilo-a-syrian-opposition-figure-who-supported-the-revolution-and-practiced-democracy-selectively
- Full article: Badaliya and Atonement: Father Paolo Dall’oglio and Dying for the Other – Taylor & Francis Online, accessed December 5, 2025, https://www.tandfonline.com/doi/full/10.1080/1462317X.2025.2569731?src=
- Father Paolo Dall’Oglio’s prophecy resonates in a still-wounded Syria – Agenzia Fides, accessed December 5, 2025, https://www.fides.org/en/news/76635-ASIA_SYRIA_Father_Paolo_Dall_Oglio_s_prophecy_resonates_in_a_still_wounded_Syria
- Fall of the Assad regime – Wikipedia, accessed December 5, 2025, https://en.wikipedia.org/wiki/Fall_of_the_Assad_regime
- Syria after Assad: Consequences and interim authorities 2025 – House of Commons Library, accessed December 5, 2025, https://commonslibrary.parliament.uk/research-briefings/cbp-10161/
- Who runs Syria – and what does it mean for its Christians? – Open Doors UK & Ireland, accessed December 5, 2025, https://www.opendoorsuk.org/news/latest-news/syria-hts-christians/
- What future awaits Syria’s Christian minority? – VOA, accessed December 5, 2025, https://www.voanews.com/a/what-future-awaits-syria-s-christian-minority-/7926961.html
- Religious Freedom in Syria’s Post-Assad Transition – The Washington Institute, accessed December 5, 2025, https://www.washingtoninstitute.org/sites/default/files/pdf/ZelinTestimony-20251113-USCIRF.pdf
- Constitutional Declaration of the Syrian Arab Republic Table of Contents1 – ConstitutionNet, accessed December 5, 2025, https://constitutionnet.org/sites/default/files/2025-03/2025.03.13%20-%20Constitutional%20declaration%20%28English%29.pdf
- Syrian bishop kidnapped by ISIS in 2015 explains challenges facing the Church in his country | Catholic News Agency, accessed December 5, 2025, https://www.catholicnewsagency.com/news/267441/syrian-bishop-kidnapped-by-isis-in-2015-explains-challenges-facing-the-church-in-his-country
- Archbishop Jacques Mourad: Jesus wants His Church to remain in Syria – Agenzia Fides, accessed December 5, 2025, https://www.fides.org/en/news/76590-ASIA_SYRIA_Archbishop_Jacques_Mourad_Jesus_wants_His_Church_to_remain_in_Syria
- Statement by Syrian Christians USA for Peace, accessed December 5, 2025, https://www.syrianchristians.org/statement-by-syrian-christians-usa-for-peace/
- Syrian refugee crisis: Facts, FAQs, and how to help – World Vision, accessed December 5, 2025, https://www.worldvision.org/refugees-news-stories/syrian-refugee-crisis-facts
- 2. Displacement and return movements | European Union Agency for Asylum, accessed December 5, 2025, https://euaa.europa.eu/interim-country-guidance-syria/2-displacement-and-return-movements
- Jesuit’s Life and Legacy Remembered | CNEWA, accessed December 5, 2025, https://cnewa.org/jesuits-life-and-legacy-remembered/