إثارة موضوع هجرة المسيحيين بعد فوات الأوان بقلم منير درويش

 

إثارة موضوع هجرة المسيحيين بعد فوات الأوان

بقلم منير درويش 

منير دروبش

هكذا نحن دوماً. العالم من حولنا يرسم خططه وإستراتيجياته لأحداث متوقعة قبل حدوثها بعقود، بينما نحن نبدأ بمعالجة أحداثنا بعد فوات الأوان   .

    تتصاعد الآن الدعوات لمواجهة هجرة المسيحيين من مؤسسات دينية ورسمية وفعاليات وشخصيات عامة وتحثهم على البقاء في بلدانهم بعد أن تصاعدت هذه الهجرة من الوطن العربي بشكل واسع، حيث هاجر من سورية وحدها نحو 450 ألف منهم منذ بدء الأزمة قبل عامين ونصف، (تصريح غبطة البطريرك غريغوريوس لحام، جريدة السفير 20/11/ 2013) وهم يشكلون حوالي ثلث عدد المسيحيين المتبقين قبل انفجار الأزمة، والباقي منهم وضع مصيره في حقيبة سفر أمام مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أو أبواب السفارات الأجنبية، رغم المشقات الكبيرة والأموال اللازمة، أو في زوارق الموت وأخطارها المحتملة. كما تشكلت منظمات عدة باسم المسيحيين ليس لها علاقة بموضوع الهجرة، واستفاقت وسائل الإعلام بعد غياب لتجمع معلومات عن الهجرة وترتب ملفات لها  كما أشير بذلك. وأقيمت لقاءات في العواصم ضمت المئات معلنة صرخة الخطر هذه  .

    وتذكيراً كنا قد أثرنا موضوع هجرة المسيحيين لأول مرة منذ بداية عام 2003 خلال ندوة عن (الإصلاحات العثمانية وموضوع الأقليات)، أقامها المركز العربي للدراسات الإستراتيجية  بدمشق وبحضور رجال دين مسيحيين ومسلمين بينا فيها مخاطر هذه  الهجرة  على التركيب الاجتماعي للمجتمعات العربية المتواجدين فيها، وكان تعليق مدير الندوة "أننا غير معنيين الآن بهذا الموضوع". لكن عدداً من الحضور تبنوا الموضوع  فيما بعد وأسسنا في آذار 2003 (لجنة المبادرة الشعبية لمواجهة هجرة المسيحيين) التي ضمت شخصيات من المسلمين والمسيحيين، هدفها إثارة موضوع الهجرة ليس من منطلق ديني بل من منطلقها السياسي والاجتماعي وبيان مخاطرها على ثقافة المنطقة، وإعطاء هذه الهجرة طابعها الشخصي من خلال التأكيد على أن الهجرة ليست وقفاً على فئة معينة بل تشمل كل من استطاع لها، لكن تأثيرها على المسيحيين هو في قلة عددهم، وكنا نعلم مسبقاً أنه خارج هذه الأهداف لا تستطيع اللجنة عمل شيء آخر إلا بجهود كبيرة وبمشاركة مختلف الفعاليات. أقامت اللجنة ندوات وأصدرت نداءات لم يكترث لها أحد من المعنيين إلا من غبطة البطريرك غريغوريوس لحام بطريرك كنيسة الروم الكاثوليك الملكيين الذي استقبلها يوم 25/6/ 2008. وكذلك الأب الياس زحلاوي اللذين استقبل اللجنة بعد شهر من هذا التاريخ وأثنى الشخصان الجليلان على جهدها وشجعاها على استمرار عملها .

    كان مفهوم المؤامرة هو الذي يحكم مواقف الذين أبدوا آراءهم حول هذه القضية، (الغرب يريد إفراغ المنطقة من المسيحيين كي تتحقق صحة نظرية هنتنغتون حول صراع الحضارات)، وكان ردنا، بأن عوامل الهجرة وأسبابها الأساسية هو الخوف والقلق من الأوضاع القائمة وتطوراتها القادمة وفق مسارها الراهن مع الأخذ بالاعتبار أن المسيحيين كمواطنين لا يخضعون لرغبات الغرب (ومؤامراته)، وإذا كانت مؤامرة فليكن أليس من الواجب مواجهة هذه المؤامرة بخلق الظروف التي تجهضها ؟ .

    على خلفية هذا النشاط قمت بإعداد كتابي حول (هجرة المسيحيين من الوطن العربي، أسباب ونتائج ) الذي صدر في شباط 2011. وكان الهدف منه أيضاً هو إثارة هذه القضية سياسياً واجتماعياً دون أن يكون له أية خلفية دينية أو حتى رقمية  .

    كيف تعاملت الجهات المعنية مع هذه الدعوة ؟

   أقامت اللجنة عدة محاضرات وندوات لم تكترث لها أي من وسائل الإعلام الرسمية أو الخاصة، وقد تحمس أحد الصحفيين الذي حضر إحدى المحاضرات بنشر نصها في صحيفة يعمل بها دون جدوى وباعتقادنا أن الصحيفة لم تعر حماس الصحفي الاهتمام، ونشرت المحاضرة  في عدد من الوسائل الغربية .

   أرسلت النداءات لصحف عربية لم تكترث لها .

   وجهنا نداءات للمؤتمرين، القومي العربي، والقومي – الإسلامي للتدخل، وأثير الموضوع في دوراتهما وتبناه حينها معنا المطران عطا الله حنا مطران القدس لكنه ومع الثناء على خطوة اللجنة لم تلق الدعوة استجابة تذكر كما لم تذكر في البيانات الختامية إلا مروراً .

   تجاهلت المؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية هذه النداءات ولم تبدي استعداداً للقاء اللجنة كي لا تتحمل المسؤولية وهي مجرد مسؤولية معنوية بالطبع، كما لم تعلق على  كتابنا حول الهجرة رغم أنه وزع عليها.

   عندما  صدر كتابنا علق عليه بعض المثقفين / فليهاجروا / .

  نحن الآن أمام دعوات مكثفة من  مؤسسات دينية ورسمية على أعلى المستويات تدعو لوقف هجرة المسيحيين وثباتهم في بلدانهم وهي دعوات إيجابية وهامة، وإن جاءت بعد أن أحاطت بهذه البلدان أخطار داهمة دفعت ليس بالمسيحيين وحدهم للهجرة بل لمئات الآلاف من كل الفئات، ولكن أثرها على المسيحيين يبقى في قلة عددهم بل في وجودهم الذي أخذ بالتلاشي، فهل من سبيل لبقائهم ؟

  أعتقد أن التمنيات والمواعظ لم تعد تجدي الآن إذا لم تقم المؤسسات الرسمية والدينية على أعلى المستويات ومنظمات المجتمع الأهلي والمدني وكل المنظمات الثقافية والاجتماعية بحملة واسعة ومسنودة بالأسس العملية التي تبعث على الطمأنينة والأمان وتعزز مفهوم المواطنة المتساوية قانونياً واجتماعياً، مع وقف العنف، وغير ذلك فإن الدعوات لوقف الهجرة بصوره عامة وهجرة المسيحيين بخاصة ستكون مجرد أمنية بعد فوات الأوان .

دمشق   22 / 11 / 2013