لمحة موجزة عن الحياة السياسية في سورية بقلم عبد الحميد درويش

عبد الحميد درويش ، جاد الكريم جباعي ، ورياض سيف 

 

عبد الحميد درويش ، جاد الكريم جباعي ، ورياض سيف

ساد سوريا بعد الاستقلال جو مفعم بالأمل والحرية بمستقبل مشرق ، بعد أن تسلم أولئك الذين ناضلوا ببسالة من اجل تحرير وطنهم سوريا من النير الأجنبي زمام الأمور ، هؤلاء الذين كانوا في أكثريتهم من النخبة المثقفة التي تلقت دراساتها في الدول الأوربية ، وكانوا من المتأثرين بالثقافة والحضارة الغربيتين ، والمؤمنين بالنظام الديمقراطي والحرية الفردية ، باعتباره يوفر أرضية أفضل لإدارة الحكم وتحقيق التقدم الاقتصادي في البلاد ، وبالفعل فقد صدرت في السنوات الأولى من عهد الاستقلال التي تلت الجلاء الأجنبي عشرات الصحف والمجلات اليومية والأسبوعية ، وكانت دمشق تزخر بالصحافة الحرة التي تصدر دونما رقيب ، كما وبرزت على الساحة عدد من الأحزاب السياسية كانت تمارس نشاطها بكل حرية وبشكل علني ، وهي تمثل مختلف الشرائح والفئات والطبقات الاجتماعية في البلاد كانت تتنافس فيما بينها بكل حرية  وعلى أسس من العدالة والمساواة من قبل حكام البلاد ، وهكذا سلكت سوريا نهجاً يختلف في مضمونه ومغزاه عن سواه من الأنظمة الحاكمة التي تتصف بالرجعية والدكتاتورية في منطقة الشرق الأوسط،  وفي ظل هذا العهد عاش الكُرد بمساواة تامة مع بقية المواطنين ، وكانوا يتمتعون بكامل حقوق المواطنة ، ولم يشعروا قط بأية تفرقة أو تمييز قومي بينهم وبين بقية المواطنين السوريين في الحقوق والواجبات ، ولم تبرز ظواهر اضطهادية تجاه الشعب الكردي الذي يعد القومية الثانية في البلاد ، بل وتبوأ البعض من المواطنين الكُرد مراكز ومسؤوليات رفيعة وحساسة في قيادة البلاد ، وقد أثار هذا الوضع حفيظة أوساط وجهات دولية وعربية غاظها أن تصبح سوريا بنظامها الديمقراطي الحر مثالاً تقتدي به شعوب المنطقة ، فبدأت هذه الأوساط بحبك المؤامرات للإجهاز على هذا الوضع الذي يشكل بقائه نبراساً لشعوب المنطقة ، فكانت البداية في انقلاب حسني الزعيم ” العميد ” في 3 آذار 1949 الذي أطاح برئيس الجمهورية شكري القوتلي وبذلك دخلت البلاد في دوامة من عدم الاستقرار ،  حيث توالت بعده الانقلابات العسكرية ، فحدثت عدة انقلابات خلال فترة قصيرة تلت عهد الاستقلال وقام الزعيم ” العميد ” سامي الحناوي أيضاً  بانقلابه ضد حسني الزعيم في 14 آب من نفس العام ،ولم يمض سوى وقت قصير حتى نفذ الزعيم فوزي سلو في 20 كانون الأول 1951 انقلابه ضد سامي الحناوي ، كما نفذ العقيد أديب الشيشكلي انقلاباً آخر ضد فوزي سلو ةتسلم السلطة في 10 تموز 1953 . وهكذا أضحت سورية مسرحاً للانقلابات العسكرية بعد تحريرها ، وفي عام 1953 تشكلت الجبهة الوطنية من عدد من القوى والأحزاب السياسية بهدف إسقاط النظام الدكتاتوري الذي تزعمه العقيد أديب الشيشكلي والإتيان بحكم ديمقراطي ينعم الشعب السوري في ظله بممارسة الحريات العامة ، وحرية تنظيم الأحزاب السياسية وإجراء انتخابات برلمانية عامة.

وعلى إثر ذلك قام الضباط الأحرار في مدينة حلب بانتفاضة في 25 شباط 1954 أدت إلى إسقاط النظام الدكتاتوري ، وفي صيف نفس العام 1954 جرت انتخابات عامة تميزت بالنزاهة والحرية التامة ، وانتخب برلمان يمثل بحق إرادة الشعب قل مثيله في منطقة الشرق الأوسط ، وبذلك مرت سوريا بتجربة متميزة وفريدة من نوعها في الفترة من عام 1954 – 1958 حيث تحولت إلى واحة للديمقراطية والحرية ، وملجأ لأحرار العالم ، يحتمون بسوريا من ظلم وقمع الأنظمة الاستبدادية والدكتاتورية من كل أنحاء العالم ،وشكل النظام الديمقراطي الجديد في سوريا تهديداً جدياً للأنظمة الدكتاتورية والرجعية في منطقة الشرق الأوسط ، فبادرت هذه الدول إلى تشكيل حلف بغداد عام 1955 من الدول التالية : بريطانيا – تركيا – العراق – إيران – باكستان – الولايات المتحدة الأمريكية ، كان من أهدافه مناهضة الحركات التقدمية ، وحركات التحرر للشعوب تحت ستار مكافحة النشاط ( الهدام ) إلى جانب الهدف الأساسي الآخر وهو الوقوف في وجه حركة التحرر الوطني الكردية في بلدان الحلف ، وفي هذا المضمار نعيد إلى الذاكرة بأن حزبنا الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا هو وليد هذه الفترة أيضاً حيث تأسس في 14 حزيران من عام 195، وتأكيداً على أن حزبنا كان على رأس أولوياته القضية الوطنية فقد جاء في برنامجه التأسيسي لعام 1957 وفي المادة الرابعة منه ما يلي: (( متى زال النفوذ الاستعماري عن بلادنا ، وانقطعت سبل تدخله في شؤوننا الداخلية ، سيطالب حزبنا عندها ببرنامج خاص لتحقيق الحقوق السياسية ، الثقافية ، الاجتماعية لـ 400 ألف كردي يعيشون في الجزيرة – حلب – عين العرب )). وهذا الموقف إن دل على شيء فإنما يدل على مدى تعلق حزبنا بحرية واستقلال بلاده سوريا، إلا أن هذه التجربة أجهضت بقيام الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958 ، هذه الوحدة التي استهدفت في جزء منها هذه التجربة ، وقامت على أسس عاطفية لم يراع في قيامها الظروف الذاتية والموضوعية التي تحيط بالبلدين ، ولم يؤخذ بعين الاعتبار التطور الاجتماعي والاقتصادي لكل منهما ، ومنعت الأحزاب السياسية من ممارسة النشاط العلني وتحولت البلاد من جديد إلى العهد الدكتاتوري ، ولهذا انتكست الوحدة وانتهت بنتائج درامية ، حيث حدث انقلاب عسكري جديد في 28 أيلول 1961 ، وتم الانفصال بين سوريا ومصر وتسلم الانفصاليون مقاليد الأمور في البلاد ، وكان هدفهم الأول هو القضاء على التدابير الاقتصادية التي اتخذت في عهد الوحدة ، بدلاً من معالجة قضايا البلاد الملحة التي تؤثر على حياة المواطنين المعيشية وحرياتهم العامة ، وحاولوا أن يغلفوا الحركة الانفصالية بمسألتين أساسيتين لامتصاص نقمة الجماهير العربية التي اعتبرت الانفصال طعنة لآمالها فأشاعوا وبشكل واسع موضوعاً وهمياً وهو ” الخطر الكردي ” وما يشكله من تهديد على شمالي شرق سوريا (وبأن الأكراد ينوون الانفصال عن سوريا وتشكيل دولة كردية خاصة بهم ) وشنوا حملة شعواء في الصحافة والإذاعة وجميع وسائل الإعلام بين أوساط الرأي العام العربي في سوريا لإلهائه ” بالخطر الكردي المزعوم ” وأرسلوا وزير خارجيتهم آنذاك أسعد محاسن في مهمة لأوربا لهذه الغاية ، وكتدبير لحرصهم المفتعل على العروبة بادروا إلى تغير اسم الجمهورية السورية إلى الجمهورية العربية السورية ، وإلى إجراء إحصاء استثنائي في 5 تشرين الأول عام 1962 في محافظة الحسكة جردوا بموجبه حوالي 120 ألف مواطن كردي من الجنسية السورية. ومهد الانفصاليون لتطبيق سياسات عنصرية مقيتة ضد الشعب الكردي وكان العراب السيئ لهذه السياسات العنصرية محمد طلب هلال الذي اصدر عام 1962 كراساً بعنوان  ” دراسة عن محافظة الجزيرة من النواحي القومية والاجتماعية والسياسية ” دعا فيه بكل فظاظة إلى تجويع وتجهيل الأكراد ، ومن ثم تهجيرهم من مناطق سكناهم .

أما المسألة الثانية فكانت مسالة الحريات العامة والحياة الديمقراطية ، وفي هذا المجال أجروا انتخابات عامة في كانون الأول 1961 كانت مثالاً للسخرية وعدم النزاهة . ولم يستطيعوا بهذين الأمرين أن يكسبوا تأييد الشارع السوري لحكمهم فعم الاستياء بين أبناء الشعب من هذا الحكم الذي اعتمد المناورة وأساليب التوائية في حكم البلاد ، ثم حدثت حركة 8 آذار 1963 بين أوساط الجيش السوري والتي كان ورائها حزب البعث بالاشتراك مع أوساط تنتمي للتيار الناصري ، ولم يمض وقت طويل حتى تم إبعاد العناصر الناصرية من السلطة ، وفرض حزب البعث هيمنته على مقاليد الأمور في البلاد ، واعتبر نفسه في مراحل لاحقة بموجب المادة “8 من الدستور ” قائداً للدولة والمجتمع ، منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم وفرض حالة الطوارئ والأحكام العرفية وظلت هذه الحالة سارية المفعول حتى الآن أيضاً .

مما لاشك فيه هو أن القوى والأحزاب السياسية عانت الكثير من المضايقات بموجب القوانين الاستثنائية المفروضة على البلاد منذ أكثر من أربعين عاماً ، وقد طالبت قوى المعارضة السلطات المسؤولة مراراً وتكراراً بإلغاء حالة الطوارئ والقوانين التي تحد من الحريات العامة وتحرم النشاط الحزبي والسياسي وإفساح المجال أمام إجراء انتخابات نيابية حرة ونزيهة بعيداً عن التدخل والتزوير ، حتى ينبثق برلمان منتخب يمثل إرادة الشعب بموجب صناديق الاقتراع واعتماد مبدأ التعددية السياسية والحزبية ، وإنهاء استئثار حزب البعث بالسلطة ، لأن ذلك لم يعد مقبولاً في هذا العصر الذي أصبح سمته الأساسية الديمقراطية وحقوق الإنسان ، إلا أن حزب البعث لم يتجاوب مع مطالب القوى والأحزاب السياسية والشخصيات الوطنية المعارضة مما دفعها إلى أن تجتمع في شهر تشرين الأول 2005 وتشكل تجمعاً سياسياً وتبادر إلى إصدار بيان باسم ” إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي السلمي ” وقد عقدت أوساط واسعة من أبناء الشعب السوري منذ البداية آمالاً عريضة على هذا الإعلان الذي يعد الأول من نوعه منذ عشرات السنين ، فهو يضم قوى وأحزاب وشخصيات وطنية