صحيح أن النظام الحالي في سورية قد رفع شعارات العلمانية، إلا أنه حدد في الدستور السوري النافذ دين رئيس الجمهورية بالإسلام واعتبر أن الفقه الإسلامي هو مصدر رئيسي للتشريع، وبقي تمثيل المسحيين في مجلس الشعب السوري وفي الوزارة ضئيلا، لا يتناسب مع حجمهم الديموغرافي. وإن أقصى ما حصلوا عليه هو وزيرين أو ثلاثة وزراء في أحسن الأحوال وسبعة عشر مقعداً في مجلس الشعب من أصل 255 مقعداً يتم انتخابهم في لوائح الجبهة الوطنية التقدمية، ونادراً ما كان ينجح نائب مسيحي خارج إطار الجبهة التي يقودها حزب البعث. ورغم أن الرئيس الراحل حافظ الأسد ومن بعده الرئيس بشار الأسد عينا مستشارين لهما من الطائفة المسيحية منهم إسكندر لوقا، وجبران كورية ، وجورج جبور، وكوليت خوري.. وهناك مستشار مسيحي لمفتي الجمهورية، إلا أن ذلك لا يعني أن مسيحيي سورية شاركوا أو كانوا يشاركون في صنع القرار السياسي أو حتى الاقتصادي، بل كانوا ومازالوا مهمشين أكثر من بقية فئات المجتمع السوري، وقد عبّرت عن ذلك الدكتورة كوليت خوري قبل تعيينها مستشارة لرئيس الجمهورية بأن المسيحيين أكثر فئات المجتمع السوري تغيباً وإبعاداً عن المشاركة السياسية في إدارة البلاد.
والحديث عن أوضاع المسيحيين العرب لم يهدأ طيلة السنوات الأخيرة، بعد أن تناقصت أعدادهم بشكل خاص في العراق ولبنان ومصر وفلسطين المحتلة وسوريا خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين. لأسباب مختلفة يأتي في مقدمهما الخوف من صعود التيار الإسلامي الأصولي المتطرف، خاصة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، وما تلاها من احتلال أفغانستان والعراق، ولاسيما بعد الاعتداءات المباشرة التي استهدفت المسيحيين في أرواحهم وممتلكاتهم وكنائسهم في العراق ومصر.
ومع اندلاع ثورات الربيع العربي في أكثر من بلد عربي ارتفعت وتيرة الحديث عن مستقبل المسيحيين العرب، لاسيما بعد تصدر الإسلاميين للمشهد العربي إثر فوزهم في الانتخابات التشريعية التي جرت في تونس ومصر التي أعقبت اندلاع ثورات الربيع العربي، وكذلك فوز الإسلاميين في انتخابات المغرب، وبعد التحذير الذي أطلقه من باريس بطريرك الموارنة في لبنان بشارة الراعي من مغبة سقوط النظام السوري واستلام الإسلاميين وانعكاس ذلك على مستقبل المسيحيين في سورية ومجمل الشرق العربي. ترى لو أن أجدادنا مسيحيي المشرق فكروا بمثل هذا المنطق في زمن الحملات الصليبية، واعتبروا أنهم في معركة مع الإسلام السني وفي حلف مع من يحكم المسلمين ضد إرادتهم أو يعاديهم، هل كان بقي مسيحي واحد في المشرق كله إلى اليوم؟
إن خشية المسيحيين في سورية وخوفهم على وجودهم ومستقبلهم لا يرتبط بوضعهم الداخلي في سورية، قدر ارتباطه بما جرى ويجري من تطورات وأحداث في دول الجوار العربي، فالخوف منبعه خارجي وليس داخلي، ويأتي في مقدمة الأحداث التي أثرت في مخاوف المسيحيين ما جرى ويجري في فلسطين المحتلة، حيث أدت سياسة إسرائيل المدعومة من الغرب إلى تهجير وطرد أغلب المسيحيين خارج وطنهم، كما إن الاعتداءات التي تقوم بها إسرائيل تحت بصر وسمع ودعم دول الغرب المسيحي ضد الفلسطينيين والعرب واستمرار احتلالها للجولان السورية ومناطق في جنوب لبنان، انعكست سلباً على أوضاع المسيحيين العرب، كما أدت الحرب الأهلية التي اندلعت في لبنان على مدى 15 عاماً إلى إضعاف الوجود المسيحي فيه وتحجيم دورهم. وكذلك تنامي التحريض الديني ورعايته من قبل عدد من الدول كالسعودية لاسيما بعد استلام السادات الحكم في مصر وإطلاقه العنان للحركات الإسلامية المتطرفة، وقد أدى هذا التحريض إلى احتقانات وصدامات طائفية بين المسلمين والمسيحيين في مصر والسودان. /9/ إلا أن التطور الأبرز حدث بعد احتلال أميركا للعراق، والتي كان من نتائجها المباشرة تعرض المسيحيين لمذابح دموية وتدمير لكنائسهم وتهجير واسع لهم خارج وطنهم في خطوة تكاد تماثل ما أصاب المسيحيين في فلسطين.. لقد هدمت كنائس ودمرت بيوت، وقتل رهبان وشردت عائلات مسيحية على نحو لم يعرفه العراق منذ استقلاله عن بريطانيا.. وحمل المهاجرون المسيحيون العراقيون الذين توزعوا في المدن والبلدات السورية ذات الأكثرية المسيحية وقائع مفجعة ومروعة عن معاناتهم إلى من سكنوا بجوارهم في سوريا. فتسلل الخوف إلى قلوب المسيحيين في سوريا. وأخذوا يتساءلون متى يحين دورنا. ويضاف إلى تلك المخاوف مخاوف جديدة تتمثل في الدور الجديد الذي تقوم به دولة قطر بما تملكه من إمكانات مالية هائلة في دعم وتمويل الحركات الإسلامية في البلدان العربية، وما قد يشكل ذلك ضغطاً إضافياً على ما تبقى من مسيحيي المشرق.
ومع استمرار الاحتجاجات المتواصلة في سورية منذ عشرة أشهر وتصاعد وتيرة أعمال القتل والقمع والتي أخذت منحى طائفي في بعض المناطق السورية، جعلت معظم المسيحيين السوريين يخشون من أن يحصل لهم كما حصل للمسيحيين في العراق الذين هجروا من العراق بعد استهدافهم في أرواحهم وممتلكاتهم، والاعتداءات التي يتعرض لها مسيحيي مصر على يد الجماعات السلفي، وأن يؤدي استمرار تلك الاحتجاجات إلى اندلاع حرب أهلية على أسس طائفية تستهدفهم الأقليات عموماً والمسحيين خصوصاً، لاسيما بعد تواتر الحديث عن وجود مسلحين وعصابات مسلحة استغلها البعض لإشاعة الخوف بين الأقليات وجعلها تتطلع إلى النظام لحمايتها، إلا أنه لم يُثبت حتى الآن أن مسيحياً قُتل لكونه مسيحياً، بل أن القتل حدث لأسباب تتعلق بشبهة التعاون مع الأمن..
وقد انقسم المسيحيون في سورية بما يشبه الانقسام المسيحي في لبنان بين فئة مؤيدة لبقاء النظام مع تنفيذ إصلاحات سياسية جذرية للنظام وفئة يغلب عليها الشباب والمثقفين تطالب بتغيير النظام، وانخرط الكثير منها في الحراك السياسي المعارض وشاركت فيه بفعالية، حيث استشهد العديد منهم كما اعتقل الكثير منهم. وكان عشرات المثقفين المسيحيين في سورية أصدروا بياناً بتاريخ 16/9/2011رفضوا فيه تصريحات البطريرك الماروني لجهة خشيته على مسيحيي الشرق من سقوط النظام في سوريا.. معتبرين تصريحاته بمثابة إساءة لهوية وأصالة ووطنية الشعب السوري، وذكّروا “بأن المسيحيين عاشوا منذ مئات السنين إلى جانب إخوتهم في الوطن السوري دون خوف، ولا فضل لأحد في بقائهم أو حمايتهم، فهم جزء لا يتجزأ من هذه الأرض.” مؤكدين في بيانهم “أن الأزمة السورية سياسية بامتياز وليست طائفية، وأن الحراك القائم حالياً هو ثورة شعبية ذات طابع مدني…,ومعلنين رفضهم لكل ما نتعرض له كسوريين من عنف وقتل وملاحقة وتشريد، بسبب مطالبتنا بالحرية والديمقراطية والحياة الكريمة.”/10/
المصادر :
9- لابد من التوضيح هنا إلى أن الحركة الإسلامية في السودان لم تكن يوماً على وئام مع الحركة الإسلامية في مصر فقد تصادمت معها بعد أن رفضت الهيمنة الإسلامية المصرية عليها التي دعمت الانشقاقات الداخلية في الحركة السودانية وشهرت بقادتها ومنعت وصول إي عضو من أعضائها للمؤسسات الإسلامية العالمية.
10- بيان المثقفين المسحيين في سورية نشر على العديد من المواقع الالكترونية ومنها موقع الثورة السورية تاريخ syrianrevolution.org/?p=13644