الانقسام في المواقف من الأحداث التي تشهدها سورية منذ منتصف آذار من العام الماضي لم يقتصر على المسيحيين في سورية، بل طال معظم شرائح ومكونات الشعب السوري عرباً وأكراداً مسلمين ومسيحيين، فالفئة الموالية للنظام متلونة بكافة ألوان الطيف السوري، كما هي الفئة المعارضة للنظام تماماً.. ولم يكن مستغرباً وقوف معظم رجال الدين مسلمين ومسحيين مع النظام، فأغلب رجال الدين وقفوا في صف الحاكم حفاظاً على الامتيازات الممنوحة لهم، وهو أمر لا يتسق مع تاريخ المسيحية الشرقية والسيرة الوطنية لكنيستها منذ القديس يوحنا الذهبي الفم، ولا ينسجم مع جوهر وجود المسيحية في البلاد التي ولدت فيها وانطلقت منها، ولا يراعي مصلحة المسيحيين كمواطنين يشتركون مع أبناء وطنهم في مسؤولية إدارة الحاضر وبناء المستقبل. غير أنه لابد من الإشارة هنا إلى ما يمكن وصفه ببداية تحوّل في موقف بعض رؤساء الكنائس المسيحية في سورية تجاه ما يجري في سورية وهذا ما يُفهم من حديث غبطة بطريرك الروم الكاثوليك غريغورس لحام لصحفية الشرق الأوسط بتاريخ 8/1/2012 والذي أكد فيه: ” لا يمكن أن يرتهن المسيحيون في المنطقة لأي نظام”.. وقوله :” ليس هناك خوف على مسيحيي سوريا بوصفهم مسيحيين.. أنا لم أشعر يوماً بأنني كمسيحي مستهدف”.
وفي مقابل ذلك هناك قسم كبير من المسيحيين التزموا الصمت تجاه ما يجري في سورية، خشية من أي تغيير قد يستهدفهم، وهو تغيير بنظر الكثير منهم مازال غير واضح المعالم حتى الآن خصوصاً بعد تصدر الإسلاميين لمشهد الربيع العربي، وربما خوفاً من عمليات القمع والاعتقال التي يتعرض لها مناهضو النظام، فأثروا الصمت طريقاً للسلامة حفاظاً على حياتهم. ومع ذلك فهناك مناطق انضم فيها مسيحيون إلى الحراك السياسي المعارض للنظام كما في يبرود وعربين وقطنا بمحافظة ريف دمشق وبعض مناطق حمص وأدلب وحماه والحسكة، وإن استمرار القمع والقتل والاعتقال وبحكم طبيعة المسيحيين المعادية للعنف وكرههم للدماء وميلهم الشديد للتسامح والمحبة سيدفع المزيد من الصامتين منهم إلى الانخراط في الحراك السياسي الذي تشهده سورية. وهذا ما برز مؤخراً عندما قامت مجموعة شبان مسيحيون من حي باب توما وجرمانا بلباس بابا نويل بالمشاركة في مظاهرة مناهضة للنظام شهدتها منطقة زملكا بريف دمشق مساء يوم 21/12/2011 حيث أضفت مشاركتهم مع أطياف أخرى جواً احتفالياً معبراً عن وحدة الشعب السوري ورفضه للاستبداد والطائفية.
لذلك ولكل ما تقدم يمكن القول أن تخويف المسيحيين من التغيير والمستقبل لا يصمد أمام الحقائق الموجودة في الواقع السوري، لعل الأبرز فيها “أن المجتمع السوري لا يملك رصيداً من الأحقاد والمواجهات الحادة بين مكوناته يستحق التوظيف والاستثمار فيما تشهده سورية اليوم، ثم أن وعي الشعب السوري والتفافه واندفاعه نحو ممارسة المهمات الوطنية والقومية ترك آثاراً إيجابية على تضامنه ووحدته واندماجه بعيداً عن الأطر الطائفية والمذهبية”11/. وإلا كيف نفسر اندفاع المواطن السوري المسيحي “جول جمال” للدفاع عن مصر إثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 حيث فجر نفسه في البارجة الفرنسية وضحى بحياته من أجل أن يحيا الشعب المصري. كما إن المسيحيين في سوريا مندمجون مع بقية مكونات الشعب السوري، ولعبوا ما زالوا يلعبون دوراً مهماً في التحرر القومي والمعرفي، والذي ثبت خلاله تعايشهم وتفاعلهم مع محيطهم الاجتماعي والسياسي بما فيه الجماعات الإسلامية، ولا يجب أن ننسى أهمية التداخل الجغرافي بين مكونات المجتمع المختلف إذ قلما نجد أحياء خالصة مسيحية أو إسلامية في المدن كما هو الحال في لبنان، ولعل الأهم من ذلك كله هو أن الحراك الشعبي الذي تشهده سورية منذ تسعة أشهر ليس حراكاً إسلامياً صرفاً، بل يضم جميع مكونات الشعب السوري، الإسلاميين والعلمانيين والمسلمين والمسيحيين والعرب وغير العرب، وأن أحداً من زعماء التيار الإسلامي لم يطرح إقامة حكم إسلامي في سوريا بعد سقوط النظام، وأن أحد أهم وجوه الحراك السياسي والثقافي هم مسيحيون، ولا ننسى عشرات المسيحيين الذين اضطهدوا واعتقلوا وسجنوا على خلفية معارضتهم النظام قبل الأحداث بسنوات وخلالها أيضاً ونذكر منهم المعارض ميشال كيلو وجورج صبرا والمحامي أنور البني والكاتب أكرم البني والراحل الكبير الياس مرقس..الخ، ولعب المثقفون المسيحيون نشاطاً مهماً في ربيع دمشق إلى جانب أخوتهم السوريين، وأن الاضطهاد والظلم لم يقتصر على طائفة بعينها، بل شمل جميع الطوائف.
ومن هنا تبدو مسؤولية مسيحيي الشرق كبيرة ومضاعفة تبدأ أولاً من الاعتراف أن مسيحيي الشرق ولاسيما رؤساء الطوائف منهم قد تقاعسوا عن أداء دورهم ورسالتهم الحضارية وهجروا بلدانهم. ومن بقي منهم حصر نشاطه السياسي والثقافي والفكري بالعبادات التي لم تتعد عتبة باب الكنيسة. بعد أن أحجموا طوعاً أوقسراً عن المشاركة السياسية والاقتصادية الثقافية والفكرية والفنية في المجتمع وتقوقعوا على أنفسهم واستكانوا العيش في ظل الاستبداد، إلا قلة قليلة أخذت على عاتقها مقاومة الاستبداد ودفعت أثماناً باهظة. وثانياً وهو الأهم ضرورة إعادة الاعتبار لدور المسيحيين العرب في نهضة مجتمعاتهم في هذا الشرق، وهم الذين سبق أن كانوا البادئين في إدخال المطبعة إلى البلدان العربية ونشر التعليم وتأسيس المدارس ونقلوا مفاهيم النهضة الأوروبية والدولة الحديثة إلى العرب كمفاهيم الحرية والمساواة وتكافؤ الفرص والحق بالتعليم وتحديث الدولة.
نعم نريد استعادة هذا الدور المسيحي في نهضة بلداننا من براثن التخلف والتطرف والاستبداد بالمشاركة مع إخوتهم المسلمين، وعلى المسلمين أيضاً أن يساعدوهم في ذلك. فإذا كان العرب المسلمون قادوا الثورة العربية والنهضة العربية عسكرياً، فإن المسيحيين عرباً وأشوريين وأرمن وسريان كانوا رواداً هذه النهضة فكرياً وثقافياً../12/ فهذا هو قدرنا الذي لا مفر منه في هذه المنطقة من العالم. نحتمي بأخوتنا المسلمين عرباً وأكراداً وتركمان وشركس ويحتمون بنا، تماماً كما احتمى العظيم فارس الخوري بأخوته المسلمين، عندما اعتلى منبر الجامع الأموي مخاطباً المصلين:” إذا كانت فرنسا تدّعي أنها احتلت سورية لحمايتنا نحن المسيحيين من المسلمين، فأنا كمسيحي من هذا المنبر أشهد أن لا إله إلا الله … فأقبل عليه مصلو الجامع الأموي وحملوه على الأكتاف وخرجوا به إلى أحياء دمشق القديمة في مشهد وطني مازال يتذكره السوريون إلى يومنا هذا.
إن مستقبل شعوب هذه المنطقة في خطر وثرواتها سوف تضيع، ما لم نتلمس دوراً حقيقياً للرواد من أبناء سورية والمنطقة العربية من مسيحيين ومسلمين يضعون أسس النهضة الجديدة على أساس من الحرية والديمقراطية والتعددية والعدالة الاجتماعية واحترام الإنسان، بصرف النظر عن أي انتماء سياسي أو ديني، عن اللون أو العرق والجنس …
المصادر :
11- “عن خوف الأقليات في سورية” مقالة للكاتب السوري أكرم البني صحيفة الحياة 1/12/2011
12- “مسيحيو العرب الحضور التاريخي وتجديد الدور” مقالة للكاتب حسين العودات عضو هيئة التنيسق الوطنية المعارضة في سورية نشر في مجلة حوار العرب التي صدرت عن مؤسسة الفكر العربي العدد 7 لعام 2005″ تحدث فيه باستفاضة عن دور المسيحيين العرب في النهضة العربية الحديثة.
http://webcache.googleusercontent.com/search?q=cache:3K4ZlMy6KrgJ:dvd4arab.maktoob.com/f20/1449544.html+&cd=4&hl=ar&ct=clnk كما تحدث عن ذلك أيضاً الكاتب إميل أمين في مقالة له بعنوان: ( المسيحيون العرب … والجرح المؤلم والمخيف) نشر على موقع “أبونا” الذي يصدر عن الاتحاد المسيحي الكاثوليكي العالمي للصحافة http://www.abouna.org/Details.aspx?M=1&id=6008&tp=0
.>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>