لبنان الديموقراطي والولادة العسيرة

في بدايات الحرب الاهلية اللبنانية دعى المفكرالعربي الكبير الراحل ياسين الحافظ اللبنانيين بكل اطيافهم السياسية والمذهبية ان لا يأخذوا لبنان الى الهاوية ورفض المخططات التي تريد ان يفقد لبنان ديموقراطيته وان يتحول الى دولة استبداد شرقي اسوة بكل الانظمة العربية الاخرى حيث الغيت الشعوب والاوطان ليحل مكانها عبادة الفرد المفروضة على الشعوب عن طريق الاجهزة الامنية. لم يستمع احد الى هذه النصيحة ودخل في حرب اهلية بشعة دمرت لبنان وديموقراطيته، ليتحول كما توقع ياسين الحافظ الى دولة تابعة تسيرها الاجهزة الامنية التي اضحت هي السلطة الفعلية

اليوم لبنان يعيش حالة مخاض جديدة، والجميع يريد ان يكون القابلة للوليد القادم والجميع يريد ان يكون الوليد على صورته ومثاله، ولكن الشعب اللبناني الذي يصنع اليوم تاريخه يرفض كل القابلات ويريد ان يكون هو القابلة القانونية التي ستخلق النظام السياسي الديموقراطي الامثل، والذي تخاف منه كل الانظمة العربية خوفا من ان ينقل هذا النموذج الى الاوطان التي استبيحت

هل ما يحدث اليوم في شوارع بيروت ظاهرة صحة ام ظاهرة مرضية؟ سؤال يتداول اليوم على كل لسان ويتساءل به كل مراقب سياسي. ان ما يحدث اليوم كما اسلفنا هو حالة مخاض ولكنه مخاض عسير، ولكن ما يريح بان كل اللبنانيين، وبكل اطيافهم متفقون على شعار مشترك الا وهو عدم العودة الى ما قبل الطائف، اي الى التذابح ليس ما بين الطوائف فحسب بل بين ابناء كل طائفة. هذا الاتفاق في الشعارمن القوى التي لها الثقل في الشارع اللبناني لا يمكن الا ان يكون ظاهرة صحة ولا بد للوليد الا ان يكون نظاما سياسيا ديموقراطيا

التظاهر من قبل المعارضة، والتظاهر المضاد من قبل حزب الله، لان في الحقيقة الطرف الاخر لا يشكل الا كومبارس في مقابل الثقل النوعي لحزب الله، الذي مد يده الى القوى الاخرى  للتحاور والتشاور من اجل بناء النظام اللبناني الديموقراطي على اسس سليمة وصحيحة

الشارع اللبناني اليوم يمتلكه قوتان، قوى المعارضة التي استطاعت ان تجتمع حول برنامج حد ادنى من التعاون السياسي، صحيح ان هناك اختلافات ضمن هذه المعارضة ولكن يجمعها شعار واحد هو بناء لبنان الوطن كدولة قانون ومؤسسات، لبنان الديموقراطية الذي لعب دورا حضاريا كمتنفس لاحرار المنطقة التي عصفت فيها قوى القمع والتعسف

اما القوة المقابلة فهي قوة حزب الله، الذي بقناعتي لا يختلف كثيرا مع القوى في الطرف الاخر بل هو يشعر بان الدولة العظمى، في قرارها 1559 تستهدفه بالدرجة الاولى حتى تقوم على تصفية دوره المقاوم في الجنوب ضد الدولة العبرية الدخيلة على المنطقة. اما القوى الاخرى التي تحاول ان تفتخر بضفيرة خالتها وتختبئ وراء القوة الشعبية لحزب الله فهي قوى لا دور لها على المستوى الشعبي بل اثبتت الاحداث الاخيرة بانهم عرفوا حجمهم الطبيعي فصمتوا ولم يعودوا الى التغريد الا بعد ان تحرك حزب الله، ليتصرفوا بطريقة اقرب ما تكون الى البلطجة منها الى السياسة، حيث دعوتهم لم تكن الى الحوار كما دعا اليها حزب الله، بل كانت كما هدد امين حزب البعث في لبنان عاصم قانصو  “بتكسيررأس المعارضة” وهو الحوار الوحيد الذي يعرفه هو ومن معه من سياسيي اللحظة الاخيرة الذين لا طعم لهم ولا لون ناهيك بان لا وزن شعبيا لهم

ان كلا المعارضة وحزب الله  صادقون في الحوار ولا يخافون الواحد الآخر، لانهم بالمحصلة يلتقون تحت شعار واحد هو بناء لبنان الجديد، ومن يستمع الى احاديث ممثلي  كل من المعارضة في ساحة الشهداء او ما اصطلح  على تسميتها بساحة الحرية، وحزب الله في ساحة رياض الصلح، يرى بان كلا الطرفين متفقان على البنود العريضة والهامة لبناء لبنان، ولكن اختلافهم هو على التفاصيل التي من الطبيعي ان لا تكون واحدة

ان الاختلاف في وجهات النظر، وخاصة في القضايا المصيرية والهامة، هو دلالة صحة وليس دلالة مرض، فالتوافق المطلق هو عبارة عن ورم سرطاني يدخل المريض الى غرفة العناية الفائقة ولا يخرج منها الا بالموت. وحدهم الضعفاء هم الذين يخافون الحوار، اما الاقوياء، ونقول الاقوياء ليس بالمعنى المسلح بل بقوة المنطق والوطنية والقومية، فهم لا يخافون لانهم يعرفون بانهم في المحصلة سيتفقون  على حل مشترك يساهم في ولادة لبنان القرن الواحد والعشرين

ان ما يحدث في لبنان اليوم ليس لبنانيا فحسب بل هو عربي، ولابد ان ينعكس على كل المنطقة، حيث ان القوى الغربية من مصلحتها ان تحدث تغييرات في المنطقة، تخدم مصالحها، ومن هنا تأتي ضرورة ان نسبقها ونحدث التغيير بذاتنا. ان الاستمرار بالتجمد في قوالب ثابتة مترهلة، لا يقود الى القدرة على مجابهة القوى  العظمى التي تريد ان تخلط الاوراق في المنطقة، بل التحرك نحو بناء اوطان ودول ومؤسسات تستند الى قوة الشعب لا قوة الاجهزة الامنية التي ترهب هذه الشعوب

آن الاوان ان نتحرك لبناء الوطن المبني على الانتماء الوطني والقومي، والمبني على الاسس التي تبنى عليها الاوطان اي على قيم الحرية والديموقراطية. نحن لا نشك ابدا بان القوى الخارجية تسعى لترسم المنطقة حسب مصالحها، ومن منظور هذه المصالح، وليس من منظور مصلحة شعوب المنطقة، وهو شيء لا يختلف اثنان حوله، ولكن هل نقف مكتوفي الايادي ثابتين على الاوضاع التي يجمع الكل، بما فيها الانظمة القائمة، بانها لم تعد مقبولة وبحاجة الى تبديل وتغيير، ام نعمل على تسريع مسيرة التغيير

ان ما تشهده الساحة، السياسية اللبنانية، هو عبارة عن حجرة كبيرة رميت في المستنقع العربي الراكد والذي توقف عن التطور والتحديث بما يتلائم مع التطور العالمي. ان الحالة الاستنقاعية التي عانينا منها لسنوات طويلة، لا بد ان تنتهي لخدمة مصالح شعوب المنطقة وليس حكامها

لقد آن الاوان ان نبني الاوطان على اسس الحرية والحداثة حتى نستطيع المواجهة مع القوى التي تريد ان تغيره حسب ما ترسمه هي. آن الاوان ان يكون شعارنا الهتاف للوطن والعروبة والقومية وليس ترداد شعار بالروح بالدم نفديك يا…. ولا يهم من يكون هذا المفتدى فهو فرد، ومهما على شأنه لا بد ان ينتهي. وحدها الشعوب والاوطان هي الباقية وتستحق ان تفتدى