رحل … فجر النهار”، بهذه المانشيت نعت جريدة النهار الى كل العالم عملاقها، الذي ترجل عن فرسه ليرحل الى الأبدية، ليلتحق بعائلته التي شاهد رحيلهم الواحد تلو الآخر، وكان آخرهم الشهيد جبران تويني، والذي قيل عنه بأنه ديك النهار. يومها اثبت غسان تويني بأنه أقوى من المصائب والمصاعب، ففور سماعه خبر استشهاد جبران، تحرك وعيون العالم كلها شاخصة لما سيقوله هذا العملاق، فقبل ان يستفهم عن اليد الأثمة التي قتلت جبران، جمع اُسرة النهار وقال لهم “ممنوع البكاء” وكتب بيده مانشيت ذاك اليوم الاسود “جبران لم يمت… و”النهار” مستمرة”. وبالفعل فالشهداء لا يموتون واستمرت النهار، بداية بغسان الذي رعى نايلة حتى وقفت على قدميها في ادارة النهار.
عرفه لبنان مذ كان شابا يافعا، كصحافي وسياسي وبعدها دبلوماسي. دخل معترك الحياة كسياسي حيث عرفه من واكبوه نائبا، عن الحزب القومي الاجتماعي السوري، يوم كان الحزب القومي السوري فعلا حزبا، وصنف الى جانب عظماء هذا الحزب مثل انطون سعادة، وعبد الله سعادة، وأسد الاشقر أو سبع بولص حميدان، وجورج عبد المسيح وعصام المحايري. يوم شعر بأن هذا الحزب اصبح ملحقاً بنظام ديكتاتوري، لم يعد يقبل تصنيفه ضمن هذا الحزب. دخل الندوة البرلمانية عدة مرات، وكان فيها فعالاً كعادته في أي مضمار اعتلى. وكما نجح في الصحافة باكراً، كذلك نجح باكراً كوزير، حيث وضع لمساته في اي وزارة حل.
عرفه لبنان ايضا دبلوماسياً، وزيراً للخارجية وسفيراً ومندوباً للبنان في الامم المتحدة، وكان مثال الدبلوماسي الناجح، حيث حقق للبنان ما لم يستطيع ان يحققه اي دبلوماسي أخر حيث كان دبلوماسيا محايدا كما تقتضيه الدبلوماسية الصحيحة لا كما هي خرقاء اليوم في الوطن العربي.
وكما أعلنها أكثر من مرة، وخاصة بعد استشاد جبران، بأن أجمل لقب أحب اليه هو لقب الصحافي، وهو بالفعل كان صحافياً عملاقاً. فلقد مارس الصحافة شاباً يافعاً، حيث استلم رئاسة تحرير النهار، وقد كانت صحيفة متواضعة في ذلك العصر، ولكن مع غسان تويني تحولت الى مؤسسة صحفية ضخمة، عرفت خلال سنواتها المديدة الكثير من كبار الصحافيين، وكانت أفتتاحية النهار، التي كان يكتبها ميشيل ابو جودة، صباح كل نهار تخيف الحكام العرب، ومنهم طاغية دمشق حافظ الاسد، الذي أمر بخطف ميشيل ابو جودة من قلب بيروت، ليقوم الراحل الشهيد كمال جنبلاط بوساطة لاطلاق سراحه من براثن الأجهزة الامنية، ليعيده الى بيروت، ولكن الصدمة كانت قوية على ميشيل ابو جودة فتوقف عن الكتابة.
فتح صفحات النهار لكل أحرار المنطقة، فليبراليته لم تفرق بين يسار ويمين، فلقد عرفت النهار ولا زالت الكثير من الكتاب اليساريين من امثال أمين معلوف، كمال حمدان، فواز طرابلسي وبالطبع الشهيد سمير قصير الذي كان، وعبر صفحات النهار، اول من بشر بالربيع السوري القادم لا محالة، ليدفع حياته ثمن مناداته بثورة الشعب السوري من أجل حريته وديموقراطيته.
يوم دخلت قوات الردع السورية، عرف غسان تويني بأن لبنان سيدخل الى نفق مظلم، من هنا كانت نشرة ” النهار العربي والدولي” التي كان يصدرها الشاب اليافع، جبران غسان تويني، والتي كانت كزميلتها النهار اليومية في لبـنان منارة للديموقراطية.
بعد استقرار لبنان، عاد غسان تويني ولم يبقى من عائلته الا جبران، واعتقد بأنه قد آن له ان يستريح وينقل الأمانة الى جبران، ولكنها كانت كتلة من نار استلمها جبران من ابيه غسان وارثا منه الجراءة والشجاعة والوطنية والإباء وحب الناس والديموقراطية. لم يُخِب ظن غسان تويني، ليلحق جبران هو الآخر بركب شهداء ثورة الارز، الذي كان زهرتها بقسمه الشهير، ” أقسم بالله العظيم مسلمين ومسيحيين …”
استشهاد جبران، اعاد غسان تويني بالدرجة الاولى الى الصحافة مدربا لنائلة، والى السياسة كنائب عوضا عن جبران ليسلم الامانة بعدها الى حفيدته نائلة التي كانت أصغر النواب سنا، في برلمان 2009، والذي تصدت لميشيل عون وهزمته في الاشرفية حيث كان يعتقد بأنها تدين له.
اليوم يغيب غسان تويني عن هذه الحياة، ولكن في الحقيقة لن يغيب، فكلما يصدح ديك النهار فجر كل يوم، فيستذكر الناس فجر النهار غسان، وديكها الصادح جبران. فالكبار والعمالقة لا يموتون، وهكذا هو غسان تويني عملاقا سيبقى بيننا حتى وهو غائب.