تأسس حزب البعث العربي عام 1947 غداة استقلال سورية، بالطبع كان حزب البعث العربي يحمل “رسالة قومية”، التي كانت في الحقيقة رسالة قوموية، ذو بعد رومانسي، بعيدة كل البعد عن أي فكر قومي، ليردفها في بداية خمسينات القرن المنصرم، واثر اندماجه بالحزب العربي الاشتراكي، باشتراكية هيولية، لم تكن أيضاً نتاج فكر اشتراكي بل نتيجة اشتراكية شعبوية، قادها أكرم الحوراني في دفاعه عن فلاحي حماة ضد ” الاقطاع “، الذي تبين فيما بعد بأنه لم يكن كذلك، بل كانوا عبارة عن مزارعين وملاكي أراض وعمال زراعين.
ركب العسكر البعث منذ بداياته، فكانت الكلمة الفصل في البعث للضباط، الذين ادانوا بالولاء بالدرجة الأولى لأكرم الحوراني أكثر منه للبعث.
اسقطت القوى العسكرية الوحدوية الانفصال، بعد ان كان الضباط البعثيين في العراق قد اسقطوا حكم عبد الكريم قاسم، وانقض العسكر البعثيون على القوى الوحدوية لينفردوا بالسلطة في سورية أيضا، لتكتشف القوى البعثية المدنية بان لا برنامج سياسي او اقتصادي لديها لممارسة الحكم في كلا القطرين، فتوالت المؤتمرات القطرية في العراق أولا وفي سورية ثانية، ليطلعوا ببرامج مرحلية، وصولاً الى المؤتمر القومي السادس ذي البعد الفكري اليساري، ولكن العسكر انقض على مقررات المؤتمر القومي السادس في كل من العراق وسورية.
مع سقوط البعث في العراق، بقي البعث في السلطة في سورية، وعقد البعثيون مؤتمراً قومياً سابعاً، أضعف العسكر بموجبه قيادته القومية، وكان هذا المؤتمر بداية تراجع البعد القومي العربي للبعث، لتسقط هذه القيادة بالضربة القاضية في صبيحة 23 شباط 1966، ليتراجع البعد القومي لصالح البعد القطري، رغم قيادة قومية هزيلة، كانت في الحقيقة لا تمثل احد على الأرض بل بعض الشخصيات المرتهنة للأجهزة الأمنية، التي بدأت ممارسة دورها القذر، سواء في العراق او سورية.
مع هذه الدولة القطرية كان هناك خطر جديد يهدد الدولة السورية، الا وهو بداية الممارسة الطائفية في الحزب والدولة والمجتمع، حيث كان العسكر المنتمون الى الطائفة العلوية، وخاصة الاخوة الأسد، يمارسون طائفية بغيضة جعلت باقي مكونات الشعب السوري تشمئز من هذه الممارسات. بالطبع لابد من التأكيد بأن ليس كل الطائفة العلوية كانت مع هذه الممارسات، فقد رفضها المخلصون منهم أسوة بالمجتمع السوري بكل مكوناته.
1970 انفرد حافظ الأسد بالسلطة، ليحول البعث الى كاريكاتور حزب قومي، ولكي يكسب الناس اعلن دستوراً على قياسه، ولكنه أعلن إسلامية الدولة السورية في المادة الثالثة والرابعة من الدستور، ولكي تنطبق عليه المادة الثالثة منه، لجأ الأسد الاب الى الامام موسى الصدر، الذي أعطاه شهادة بانه مسلم، كون العلويين شيعة. ومن يدري فقد يكون الثمن الذي قبضه موسى الصدر هو سماح الأسد بسياسة التشيع، التي كانت جمعية الامام المرتضى بزعامة جميل الأسد، عتلة سياسة التشيع هذه.
مارس حافظ الأسد سياسة تقديم المخلصين من طائفته للمراكز الأساسية في القيادات الأمنية والقيادات العسكرية، فكان القرار دائما في يد المستزلمين له من أبناء الطائفة، وهذا ما دفع القوم الاكثري من الشعب السوري الى ردة فعل، ارتموا خلالها في أحضان الاخوان المسلمين، أي الهروب الى الفكر الديني، على حساب الفكر الديموقراطي الذي وضع شبابه في سجون النظام لسنوات مديدة بلا محاكمات، وهم الذين كان من المفروض فيهم التصدي للفكر الديني.
دخل الأسد في صراع مع القوى الإسلامية، وبطش بهم بطريقة بربرية، فشهدت المدن السورية العديد من المجازر التي ارتكبها النظام، لم تكن مجزرة المشارقة في حلب الا بدايتها، تلتها مجزرة سجن تدمر التي نفذت نتيجة محاولة اغتيال حافظ الأسد عام 1980 ووصولا الى مجزرة حماة الشهيرة عام 1982 حيث استبيحت المدينة ودمر قسمها الأكبر وكل بيوت العبادة من مساجد وكنائس، ولا زال الكثيرون يختلفون حول عدد ضحاياها الذي بلغ عشرات الألوف من البشر، بالإضافة الى حالات الاغتصاب والسرقة والنهب الذي مارسته سرايا الدفاع بقيادة السفاح رفعت الأسد.
بعد استتباب الأمور للأسد، لم يكتفي هذا الأخير بضرب القوى الإسلامية، بل ضرب كل القوى المعارضة لنظامه أيضا، وبعدها اتجه الى استرضاء القوى الإسلامية، ليرضي دول الخليج وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، وذلك بالإكثار من بناء الجوامع وترخيص المدارس والكليات الشرعية، ودعم تأسيس القبيسيات ومكنها من السيطرة على معظم المدارس الخاصة في دمشق، كما ان الأجهزة الأمنية غضت الطرف عن نشاطهن في البيوت حيث أخذن يغسلن دماغ النسوة من أمهات واخوات وبنات، لينشروا النقاب في المجتمع السوري حيث تراجع دور المرأة السورية من أمرأه رائدة الى امرأة مختبئة وراء ايدولوجية دينية انغلاقية.
مات حافظ الأسد وورثه ابنه بشار، وكان خطاب قسمه مكان تفاؤل للمثقفين، ولكن لم تمر اشهر الا وكانت السجون تغص بالقوى الديموقراطية، لتعود القبضة الأمنية من جديد وبشكل اكثر فساداً واكثر قمعا من عهد ابيه.
احتل الامريكيون العراق عام 2003، وأخذت الأجهزة الأمنية السورية تصدر “المجاهدين” الى العراق، حيث لعب محمد غول اغاصي الملقب بابي القعقاع دوراً بارزاً بتدريب المجاهدين لإرسالهم الى العراق، حيث دعموا هناك منظمة الزرقاوي التابعة للقاعدة، ومن كان يتراجع منهم كانت السجون السورية تعج بهم.
15 اذار 2011 كانت بداية الثورة السورية السلمية، اصم الطاغية الاسدي اذنيه عن مطالب الإصلاح، واصدر مجموعة كبيرة من مراسيم العفو العام، لم يخرج بموجبها الا المتطرفين الاسلامويين، ليلعبوا الدور المطلوب منهم، في نشر التطرف الاسلاموي في كل انحاء سورية، حيث اردفهم المالكي بمتطرفين من عنده، حيث سهل هروبهم من السجون العراقية ليأتوا ويقاتلوا في سورية، حيث اعلنوا عن تأسيس الدولة الإسلامية في العراق والشام والمعروفة بداعش.
سهل نظام الأسد لداعش احتلال الرقة ومحاولة السيطرة على دير الزور وآبار النفط، وعندما انقلبت هذه الدولة على المالكي واحتلت الموصل، عادت الى سورية مدججة بالسلاح الثقيل لتحكم سيطرتها بشكل كامل على محافظة الرقة، بأسقاطها الفرقة السابعة عشر ومطار الطبقة العسكري وابار النفط في دير الزور الخ… من الانتصارات على جيش النظام السوري.
تكشف للجميع بأن معظم قيادات داعش هي عراقية، وكلهم من كبار ضباط الجيش العقائدي للبعث العراقي، جيش صدام حسين، الذين اختفوا في سورية بعد سقوط نظام طاغيتهم في بغداد، ليتحالفوا مع جماعة الزرقاوي لتشكيل قوة عسكرية اسلاموية متطرفة.
خلاصة القول تراجع البعث من العمق القومي العربي الى العمق الاسلاموي المتطرف، الذي يزيد الشرخ الطائفي والعنصري في كل من المجتمعين العراقي والسوري، وبدل ان تكون رسالته القومية خالدة اذا بها رسالة قومية متراجعة لصالح العد الاسلاموي الشيعوي.