مراحل ثلاث يمكن التوقف القصير عندها كي نصل إلى الحالي :
ـ بنية ومرتكزات نظام الطغمة الفئوي مذ تأسس على يد الطاغية المجرم الأسد الأب، والتي اعتمدت محاور متشابكة : تعضدية طائفية مستترة تعتمد على نخبة منتقاة من الطائفة والأقارب والقرية لوضعها في المفاصل الحساسة : الجيش والأجهزة الأمنية، وتحويل الدولة إلى نظام أمني قوامه فروع متكاثرة، أخطبوطية، تراقب الهواء الذي يتنفسه المواطن، ولا مانع من أن تتجسس على بعضها، وتكتب التقارير ببعضها لمزيد من إشاعة جو الريبة والخوف والتشكيك بين الناس، وتمتدّ لجيش لجب من المخبرين ليس بغرض إحكام طوق الرقابة وحسب، بل لتخريب الضمائر والنفوس كجزء من الإفساد المنهج الشامل، وغربلة الجيش من المعارضين، والمشتبه بوطنيتهم ومخالفتهم لنهج الطاغية، وتركيز فئات طائفية في المواقع الحساسة، تضبط وقع الحركة فيه، يساعد على ذلك حرص متواصل على إنشاء قطعات متميزة، بصلاحيات منفلتة يقودها أبناء العائلة(الأخ وأبناء الأخول، فالأولاد) مهمتها الرئيس تطويق العاصمة من كل المفارق، وممارسة عمليات الهرس والإخضاع للقطعات الأخرى بطرق مختلفة، والتهديد بالسحق لكل محاولة تفكير بعمل معارض، وإشاعة أجواء النفاق، والتطويف، والتجارة، والتجاوزات لمبادئ الانضباط العسكري، وروح المؤسسة، ومبرر نشوء الجيش.. بينما انتهج الطاغية منظومة من الأطر الواجهية، بدءاً من امتطاء البعث وتجويفه، ونحره، وتمريغه بالدنس والموبقات كلها، إلى ” جبهة” بصم وتصفيق ومغانم وأرشفة، فواجهات سنية، وأخرى للتصدير والتغرير، فنهج إفسادي يشتلع من الناس ضمائرهم وقيمهم الأخلاقية التي رضعوا حليبها من قيم الأسرة والمجتمع واستبدالها بأخرى لقيطة، هجينة تفرّغ القيم الوطنية وتستبدلها بسياسة التزلف، ودبر رأسك، وسط نهم جشع للقوى البيرقراطية التي ولدت من رحم السلطة وفي أمعهانه النتفخة، المتحالفة مع طفيلية سمسارة، وبما يجعل سياسة المقايضة نتاجاً لتكوين لا يمانع من وضع الوطن وقضاياه، والأمة ومقدساتها في قبضة الاتفاق مع الخارج .
ـ وثالثة الأثافي كان التوريث المفروض، والمجيء بالابن شبه المعتوه وتنصيبه بصلاحيات مطلقة، وعبر تلك المرتكزات التي أنشأها الأب، والتي راح يلعب معها لعبة التباين والخلاف، وتصدير التسويق لتمرير أكبر كارثة لحقت بالجمهورية حين تمّ تحويلها إلى جملكية خاصة لآل الأسد وأزلامهم، مثلما حوّل الطاغية الأب الدولة إلى قطاع خاص بملكية مختومة لهم، وضمن مملكة للرعب، والقتل والتفريغ، والسحق ..
ـ في الحالين، ورغم أن ضعف المعارضة، وما وقع لها من كوارث على أيدي نظام الفتك، كان يضطر بعضها لتسويق الأوهام بإمكانية الإصلاح من الداخل، وملاحقة الوعود الخلبية، والمغمغمة، وما فيها من خبث متعمّد لشرشحة تلك القوى وتصوير مدى لهاثها خلف الكلمات المطاطية، ومدى تهالكها على مراهنات ليس لها نصيب من الحقيقة.. فإن كل المعطيات . كل الحقائق . كل المسارات والنتائج أكدت الحقيقة الساطعة التي لا تقبل التكتيك والتبرير : أن نظام الطغمة، موضوعياً، وذاتياً غي رقابل للإصلاح، ويستحيل عليه أن يُصلح، أو أ، يقود أية عملية إصلاحية ولو شكلية، وأنه مرعوب في داخله، مأزوم درجة الهوس الذي يدفعه لارتكاب الجرائم الفظيعة إذا ما شعر بأي هبّة خطر، حتى ولو جاءته من أطفال حوران، وعبر بعض الشعارات المكتوبة على الجدران .
ـ يوميات الثورة السورية من بداياتها، وردّا على فذلكة البعض الذي ما زال يعلك اللوات، أو يريد تحميل المعارضة وزر” عدم الحوار”(وكأنها كانت مدعوة للحوار، وكأن الطغمة تعترف بوجود شريك، أو بوجود شعب، أو بوجود مطالب مشروعة)، واستغراب البعض لجوء النظام إلى منتهى العنف، ورفضه الحلول السياسية والتفاوضية، وتكريس سياسة الإخضاع بالقتل ثم رشّ الفتات على الرفات ببعض الإجراءات السخيفة التي يسميها إصلاحات .. وكثيراً ما سمعت من عاديين وسياسيين خلط الأمنيات وطرحها بصيغة الاستغراب : لو أن النظام قام بحوار أهل درعا منذ البداية . لو أنه لم يشلع أظافر الأطفال ولم يطلق الرصاص الحي على المتظاهرين السلميين، لو اعتمد السياسة بدلاً من الرصات والقتل . لو قام ببعض الإصلاحات.. ولوات كثيرات تغرق في التبرير، أو تغطية حقيقة المجرم بالرغبات. فالنظام يستحيل عليه : بدءاً، وعلى مسافة يوميات الثورة السورية أن يكون غير الذي أكده، لأنه صادق مع جوهره، ينتج منتجه الوحيد، ولا يملك غيره سوى الرعب من مصير محتوم يشكل كوابيسه الدائمة، فيرفق التدمير بالدفع باتجاهين مبرمجين : التطويف القائم على التخويف من أكثري، وحكاية المؤامرة الخارجية، وبوحيهما لا مانع أن يمارس المجازر حدّ الإبادة الجماعية، وأن يبرر لنفسه، ولمن معه في جوقته أنه لا يملك سوى ذلك، وهو فعلاً لا يملك سوى ذلك ..
ـ نظام الطغمة، تأسيساً، غير قابل بأي حوار له صفة الحوار، وما زالت العنجهة المدعمة بنهج الاستخفاف بالحياة، والنظرة للمواطن، والمعارضة كالنظرة للحشرات والذباب هي الدماء التي تسري في عروقه وتحرك مخه الحاقد.. فأي حوار كان يمكن أن يقوم مع النظام في الأيام الأولى للثورة، وصورته عما يريد من الحوار جسدها في تلك الحالة اليتيمة التي ترأسها نائبه، والتي وصلت كثير المعلومات أنها لم تعجبه، وكان يريد نعاجاً أكثر، وأرانب لا تعرف أن تفتح فمها سوى بالتسبيح بحمد وبطولات وإصلاحات الطغمة، حتى أنه لم يكررها . وحين تقدّم عديد الوطنيين الغيورين بمبادرات يرون فيها مخرجاً لما يهدد بلدنا.. ركلها بقدمه، بل اعتقل بعض تلك الرموز وهددها بالتصفية..
ـ هذا كان زمان.. قبل أن يوغل بالقتل، وقبل أن يغوص بدماء الشعب حتى الركب، وقبل أن تثبت الثورة أنها قادرة على الاستمرار وانتزاع النصر عبر تهشيم بنيانه، ودكّ أهم مرتكزاته : التخويف، وقبل أن تتحول المواجهة إلى كسر عظم لا مجال فيها للتراجع .
ـ الحوار، لمن يطرحه، يعني أن يجلس الجميع ـ هذا على فرض قبول النظام بذلك الجميع، وليس إحضار أصحابه وأهله وحلزوناته، وأمعائه، ونفاياته ـ على طاولة واحدة.. كأنّ دماً لم يرق، وكأن بلداً لم تدمر مدن كثيرة فيه، ولم يغتصب الرجال والنساء، ولم يهجّر مئات الآلاف، ولم يعتقل مئات الآلاف وهم يتعرضون للفتك بالآدمية.؟. كأنّ وكأنّ.. الأمور عادية، أو كما يحلو للبعض أن يسوق مقولات عامة لاشتقاق ما يريد منها، تماماً كاستغلال جزء من ألاية الكريمة من نظام السادات وهو يقدم على الخيانة الصريحة، وعرب التسوية” وإن جنحوا للسلم فاجنح له” وكأن ذلك مجرد في المكان والزمان والمضامين، والمقدمات والنتائج ..
ـ الحوار، حتى لمن يريد اعتباره تكتيكاً، أو فضحاً لطغمة لن تقبله، وكشفاً وتعرية لها، هو اليوم بهذا المعنى إخلال بالبديهيات التي أرستها الثورة، وبالنتائج التي حققتها، ناهيك على أنه يمكن أن يقع ضمن دائرة الخيانة لها، ولدم الشهداء..وعذابات المعتقلين والمهجّرين، والأمل الذي وضع بلادنا في موقع الانتصار وإسقاط النظام. ناهيك عن أن قرار الحوار ليس من حق أحد طرحه والتداعي إليه، لأنه حق حصري لقادة الثورة وأهلها. هم من يقرر، وهم من يرفض. ولأن الثورة ترفض ذلك رفضاً قاطعاً، واضحاً.. فإن مجرد طرحه يبدو نوعاً من البلبلة التي نحن بغنى عن المزيد منها .