كان لافتاً ضعفُ المكون الحزبي في أول موجة عمل عام علنية عرفتها سورية في عهدها الحالي، الذي تزامن مطلعه مع أول صيف من هذا القرن. سُميت هذه الموجة “ربيع دمشق” لكونها أعقبت جدبا سياسيا قاسيا استغرق العقدين الأخيرين من القرن العشرين، وكذلك استبشارا بمناخات سياسية ومعنوية أخصب وأقل قسوة. تكثفت شخصية “ربيع دمشق” في “المنتديات” بخاصة، وهي تجمعات من عشرات المهتمين، تُعقد في منازل خاصة للتداول في شأن القضايا العامة. وقد برز فيها دور مثقفين ومعتقلين سياسيين سابقين وناشطين حقوقيين أكثر من الأحزاب السياسية. وتمثل الوعي الذاتي لتلك المرحلة في مدركات مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والمواطنة، وليس في إيديولوجيات حزبية كالشيوعية والقومية العربية، تعود إليها منابت معظم المشاركين في ذلك الموسم الربيعي الذي لم يحل عليه الحوْل. إلى المنتديات، ظهرت في تلك الفترة وبصورة علنية جمعيات تُعرِّف نفسها بقضية حقوق الإنسان، ونشأ أيضا تجمع مثقفين مختلفي الأصول والمشارب، أطلق على نفسه “لجان إحياء المجتمع المدني”. وكانت المشاركة النسوية حاضرة في كل هذه التجمعات، وكذلك في المنتديات، لكنها ربما تتدنى عن خمس المشاركين. المشترك بين هذه المجموعات أنها غير سياسية، لا تستهدف النظام السياسي ولا ترتب على نفسها مهمة تغييره. إلا أنها اعتبرت معارضة مع ذلك. من جهة لكونها مستقلة، ومن جهة ثانية لأنها طرحت مطالب عامة ذات مضمون سياسي واضح، ويقتضي تحققها تغييرا سياسيا كبيرا، ومن جهة أخيرة لكون معظم المنخرطين في أنشطتها من أصول معارضة، وغير قليل منهم معتقلون سياسيون سابقون
ومن أبرز سمات ذلك الطور من النشاط العام غياب الإسلاميين التام عنه. الأمر مفهوم. كان هؤلاء خاضوا معركة عنيفة مع النظام بين أواخر سبعينات القرن العشرين ومطالع ثمانيناته، انتهت بخسارتهم وبإخضاعهم لمعاملة بالغة القسوة. على أن الإسلاميين المقيمين في الخارج واكبوا “ربيع دمشق” من مغترباتهم، وأصدروا وثائق تتقاطع مع اللغة الديمقراطية لناشطي تلك المرحلة، واستفادوا من شبكة الانترنت لإيصالها إلى جمهور واسع نسبيا. أما الأحزاب السياسة المستقلة والمعارضة في الداخل فكانت تتحرك ببطء، عاملة على إعادة تأهيل نفسها ضمن هذا المشهد الجديد. لم تكن منعزلة عن العمل العام، لكنها بالقطع لم تكن في موقع قيادته أو توجيهه. كل ذلك يتعارض مع ثوابت تاريخ العمل العام في سورية، وقد كان تاريخ أحزاب وإيديولوجيات سياسية، فضلا عن تطلع بديهي إلى الحكم، لم يكن يندر أن ينجح قبل أن يقيم آخر الناجحين في الحكم ثلاثين عاما، ويورثه لنجله. من جهتها دفعت السلطات بالإصلاح الاقتصادي كبديل عن الإصلاح السياسي الذي تمحورت حوله مطالب الربيعيين. ثم تحولت إلى “التطوير والتحديث”، أو إلى “الإصلاح الإداري”. كان ذلك (ووثائق الإسلاميين) مؤشرا على أن مبادرات المثقفين والناشطين السوريين هي التي تحدد أجندة النقاش العام في البلاد حينها، وإن رفضت السلطات الاستجابة لمطلبهم الجوهري المتمثل في الإصلاح السياسي
على أن المشهد السوري لم يتغير جديا حتى العام 2005. والمفارقة أن هذا حصل أثناء أعنف أزمة مر بها نظام الرئيس بشار الأسد، وبدا لبعض الوقت أنها قد تطيح به. في صيف 2005 عقد حزب البعث الذي يحكم البلاد منذ عام 1963 مؤتمرا دشن فيه التحول نحو “اقتصاد السوق الاجتماعي”، أي عمليا نحو تحرير الاقتصاد بعد أزيد من أربعين عاما من الاقتصاد الحكومي المدوّل. وفي أواخر عام 2007، وبعد أن كان الطور الحاد من الأزمة قد انطوى، وجهت السلطات ضربة لائتلاف “إعلان دمشق” المعارض الذي كان تشكل في خريف 2005، ومثل الجسم الأساسي للمعارضة السياسية. وكان في أيار 2005 أغلق آخر رمز لربيع دمشق، “منتدى الأتاسي للحوار الديمقراطي”. وعلى هذا النحو هيمن النظام على ملعب اقتصادي موسع، وعزز قبضته على ملعب سياسي مُضيّق. كان ائتلاف “إعلان دمشق” مكونا أساسا من أحزاب، وقد شاركت فيه أحزاب كردية، وانضم إليه من منفاهم “الإخوان المسلمون” السوريون فور إعلانه. لكن حتى قبل أن تعتقل السلطات قياداته في أواخر 2007 ومطلع 2008 عرف الإئتلاف تجاذبات وصراعات أسهمت في إضعافه
واليوم، في خريف 2010، يبدو الطيف الحزبي والإيديولوجي السوري شاحبا محدود النشاط، ومكتهلا غير جذاب للجيل الشاب. ويبدو أن هذا ينطبق حتى على حزب البعث الحاكم، وكذلك على أحزاب موالية يفترض أنها تساعده في حكم البلاد ومنضوية تحت قيادته في “الجبهة الوطني التقدمية”. وبالمثل يبدو أن المثقفين، وقد كانوا في قيادة العمل العام أيام “ربيع دمشق”، ينأون بأنفسهم عن أية أنشطة عامة اليوم. أما “الدولة” ذاتها، ففوق أنها حزبية منذ 47عاما، فقد عرضت تمركزا مفرطا حول وظيفة السلطة ودوامها منذ الأيام الأولى لعهد الرئيس الراجل حافظ الأسد، الأمر الذي تحقق دوما على حساب بنيتها ودورها العامين. وفي بيئة كهذه، يعاني فيها الحزب السياسي والإيديولوجية السياسية الحديثة والمثقف، وهم ركائز الحداثة السياسة، من أزمة، يضاف إليها الضعف المؤسسي للدولة وضمور السلطات التشريعية والقضائية والإعلامية أمام السلطة التنفيذية التي يغلب مكونها العضلي على مكونها القانوني، وتعرض طابعا “مشخصنا” فوق ذلك، أقول في بيئة كهذه تضيق فرص التماهي الوطني المشترك، يرجح أن تنتعش التشكلات الأهلية الجزئية، بما فيها الروابط الدينية. هذا محقق فعلا
في السنوات الأخيرة سجلت مظاهر التدين ورموزه ظهورا أوسع في الفضاء العام إلى درجة أنها أثارت حفيظة السلطات. في أواخر شهر أيار الفائت، وفي حديث لقناة بي بي إس الأميركية، قال الرئيس بشار الأسد إن “التحدي الأكبر” الذي يواجه سورية هو “الحفاظ على علمانية المجتمع”، وفي أواخر الشهر التالي، حزيران، قامت وزارة التربية بنقل 1200 معلمة منقبة من المدارس إلى وظائف أخرى، في البلديات بخاصة، وقال وزير التربية إن وزارات أخرى ستنهج النهج نفسه. وقد تبعتها بالفعل وزارة التعليم العالي بأن حظرت أواسط تموز دخول المنقبات أحرام الجامعات السورية. وبينما يحتمل أن وراء مثل هذه التوجهات رسالة تفيد أن سورية ليس مثل إيران و”حزب الله” و”حماس”، على ما رأى متابعون (كان الرئيس في الحوار نفسه قال إن دعمنا “حزب الله” و”حماس” لا يعني أننا نحبهم)، إلا أنها ربما تشير كذلك إلى حيرة السلطات في كيفية التعامل مع ظاهرة مقلقة، لا توفر سببا لضربها بالقوة، ولا مجال لكبحها دون تجدد معنوي وثقافي وسياسي واسع، لا يبدو أن السلطات قادرة عليه أو راغبة فيه. يبدو لنا أن التدين الاجتماعي، وتنامي الوعي الذاتي الفئوي عموما، مرتبط بعمليات اقتصادية واجتماعية غير عكوسة جارية في البلاد. من هذه “تحرير الاقتصاد” نسبيا، ودرجة من اللبرلة الاجتماعية والإعلامية المرافقة له، وتوسع التعليم الخاص. ومنها تدهور الخدمات العامة، التعليمية والصحية بخاصة، وانتشار البطالة ونمو القطاع الاقتصادي غير النظامي. ومن جهة أخرى ثمة تدهور مواز في أجهزة التعبئة الاجتماعية التي رافقت حكم حزب البعث، أعني “المنظمات الشعبية”، الطلابية والشبابية والنسوية، وحزب البعث نفسه، وكذلك النقابات. يتعلق الأمر بتغير بعيد المدى في “العقد الاجتماعي الشعبوي” الذي كانت الدولة الحزبية تحتكر بموجبه التنظيم الاجتماعي والسياسي مقابل التكفل بأساسيات الحياة للجمهور العام (والدفاع عن البلاد). اليوم “يتحرر” الاقتصاد، وتتراجع الدولة عمليا عن التزامها بشروط حياة مقبولة لقطاعات واسعة من السكان، بينما تبقى محتكرة للتنظيم ومضادة بقوة لنشوء منظمات ونقابات مستقلة. ويضاف إلى ذلك حالة من الفراغ القيمي والثقافي، بفعل التحول الاجتماعي نفسه وتدهور قيمة الإيديولوجيات القومية واليسارية التي كانت مهيمنة في سورية حتى ثمانينات القرن العشرين. كل ذلك يرفع الطلب على التدين وعلاماته ورموزه. والأكيد أن هذا ليس تدينا سياسيا. إنه تدين اجتماعي يعرض الإسلاميون السياسيون بالذات تقربا منه، وابتعادا عن المخاصمة السياسية للسلطات وعن الشراكة السياسية مع معارضين آخرين
تتعزز مجمل هذه التحولات بتكنولوجيات الاتصال الجديدة التي تكسر السيادة المعلوماتية للدولة من جهة، وتشجع الحياة الخاصة والانسحاب من الفضاء العام من جهة أخرى. وكذلك بأزمة عالمية للحداثة ومؤسساتها. الحزب السياسي في أزمة في كل مكان، ومثله الإيديولوجيات أو السرديات الكبرى الخلاصية على ما يقول منظرو ما بعد الحداثة. تنحاز هذه بصورة منظومية للسرديات الصغيرة ولكل ما هو هامشي وعرضي ومتنحي، فتقوي نزعات التجزؤ الاجتماعي الناشطة أصلا في مجتمعاتنا أو تضفي عليها الشرعية، بينما تضعف أو تنال من شرعية مدركات مثل الشعب والأمة والدولة والمواطن. ويضاف إلى ذلك كله ظاهرة تدويل النخب عبر “المنظمات غير الحكومية” التي لا يزال انتشارها محدودا في سورية قياسا إلى مصر وفلسطين ولبنان. لسنا خارج هذا المناخ العالمي المحمول على العولمة وتكنولوجياتها، وعلى تغير في بنى الإنتاج والطلب في المراكز الرأسمالية، في اتجاه مُفرّد أكثر وأكثر، ومتزايد الابتعاد عن الإنتاج بالجملة لجمهور غُفْل وموحد
وما يمكن ترتيبه على ذلك أن جملة هذه التحولات لا تشير إلى نهوض مفترض للمجتمع المدني في سورية. كانت السياسات الحكومية أضعفت مدنية المجتمع المحكوم (حظر المبادرات والانتظامات الاجتماعية المستقلة)، ويبدو اليوم أن الرسملة الزاحفة في غياب لبرلة سياسية تدفع نحو ضعف أكبر للمشتركات الاجتماعية. ومن جهتها تؤدي أزمة أدوات الحداثة وقيمها في سياقاتنا الاجتماعية والثقافية إلى انتعاش قيم وصيغ انتظام ما قبل حداثية أو محاكية للصيغ ما قبل الحداثية، تتسم بتجزؤ كبير. المجتمع المدني أحد مفهومات الحداثة، وحين تكون هذه في أزمة فإنه لن يكون بمنجى عنها. نفضل الكلام على أزمة البنية الوطنية للدولة والمجتمع، على مجتمع عضوي مجزأ، وعلى شكل حديث للدولة السلطانية
في أي اتجاه يتطور هذا التشكل الاجتماعي؟ وقبل ذلك ما هي القوى التي تحدد وجهة تطوره؟ أولا وقبل الجميع التغيرات الاقتصادية. وقد قلنا إنها ذات مفعول مجزأ اجتماعيا. نضيف إن الصلة بينها وبين انتشار الفقر وارتفاع معدل البطالة واتساع الهامشية مؤكد. في المقام الثاني ثمة عمليات العولمة الاقتصادية والاتصالية ومناخات ما بعد الحداثة المرتبطة بها. هذه تقلص العالم اقتصاديا واتصاليا، لكنها تبلقنه ثقافيا على قول ريجيس دوبريه، وتثير فيها منازعات الهوية و”الحضارة” والدين، مما هو ظاهر عيانا بيانا. وهي فوق ذلك تنال من سيادة الدولة الاقتصادية والمعلوماتية والرمزية. وقد نضيف في المقام الثالث دور الديناميات الإقليمية الذي قد يقفز في كل وقت إلى الصدارة. في محيط إقليمي فيه إسرائيل، وفيه العراق ولبنان، وفيه إيران ونزاعها مع الغرب، في هذا “الشرق الأوسط” المدول بعمق لا تنفرد الديناميات الداخلية باتجاهات تطور البلدان. في أية لحظة قد يحدث ما ليس بالحسبان، فيدفع في اتجاهات مغايرة، قد تكون معاكسة لما يجري الآن. وتأثير “العامل الخارجي” هذا يتناسب طردا مع نقص تشكل الداخل المحلي أو تبنينه. والحال إننا نفتقر إلى نموذج نظري لضبط اجتماعنا السياسي المعاصر مفهوميا ولشرح تحولاته. هذا تحد كبير يواجه المثقفين السوريين والعرب، لا نرى أن مدرك “المجتمع المدني” يستجيب لمواجهته