لا ندري ما هي دوافع هذا الهجوم القاسي والمتكرر على اليسار بمناسبة أو بدونها من قبل رموز كبار غرقوا في إيديولوجيات ومناهج وسياسات التجربة السوفييتية ومنظومتها (الاشتراكية ) وثابروا عليها حتى انهيارها. هؤلاء الذين تجاهلوا الفكر النقدي الذي سعى لتصحيح هذه التجربة لتتحول من تجربة ديكتاتورية استبدادية إلى تجربة ديمقراطية تقتدي بها الشعوب المقهورة، وعادوا أصحاب هذا الفكر النقدي وهاجموهم. و نظروا نظرة وحيدة الجانب للتاريخ عندما ساندوا الاستبداد والديكتاتورية التي مارسها زعماء هذه التجربة، وعندما انهارت تبرؤا منها وتهربوا من تاريخهم متجاهلين كل مواقفهم. وكان يمكن لهذا التجاهل ما يبرره لو جاء في سياق تطور الوعي الأمر الطبيعي ان يعترف بما أصاب أو اخطأ .
قد تكون هذه ردة فعل متوترة نوعاً ما على مقالة السيد حازم صاغية ” الثانية ” بعنوان (“اليسار” والثورة السورية)، جريدة الحياة السبت 27 / 10 / 2012 .” الأولى ” كانت في 25 أب 2012 تحت عنوان (لو اختار اليسار لحظة تأسيس أخرى) . لكن هذا التوتر ليس دفاعاً عن يسار أي يسار، أو الهجوم على يسار آخر أو الإقصاء أو التجاوز لأية جهة انما واقعها وانتماؤها، بل هي دعوة إلى فتح حوارا ديمقراطي جاد حول اليسار بكافة مكوناته السياسية والفكرية والشروط لإنهاضه مما أصابه كي يتحول إلى كتلة ديمقراطية منافسة في عالم مضطرب. ومن باب أن تجاربه التي مرت هي تجاربنا أصبنا فيها أو أخطأنا وقد أخطأنا أخطاء كبيرة بالتأكيد مهما تهربنا من الواقع، وعلينا أن نعترف بأخطائنا ونقيمها ونصححها في مجتمع ديمقراطي بدأ وعينا يتبلور فيه على نحو إيجابي .
نحن نعلم أن المفهوم التقليدي لليسار واليمين هو مفهوم ضبابي هلامي ليس له حدود. الخ. أن الأديان والمذاهب والطوائف تضم كل منها عدداً من (الملل والنحل) ، فإن اليسار واليمين أيضاً فيها من هذه (الملل) ما يغنيها وهما ليسا طبقات مغلقة موحدة في اتجاهاتها ومواقفها وتكافلها وتضامنها، وقد لا يجمع مكوناتهما إلا التسمية، فالتجربة الروسية واشتراكياتها، والتجربة السويدية واليوغسلافية، وكثير من الأحزاب الديمقراطية في العالم الغربي كلها يسار بمن فيها حزب العمال في بريطانيا الذي لا يبتعد عن هذا التصنيف، وهناك يسار انتهاز ، ويسار ملتزم ويسار استبدادي أو ديمقراطي، ومثله اليمين، وكل منها له توجهاته ومناهجه وسياساته المتناقضة والمتناحرة في كثير من الجوانب الاقتصادية والاجتماعية …الخ .وبالتالي لا توجد جهة (كافرة) بالمطلق وجهة (مؤمنة) بالمطلق لذا فإن وضع أي منها في كيس واحد وتحميل أطراف منه وزر أطراف أخرى هي محاولة من هؤلاء للتهرب من تاريخها خاصة وهي تتحدث عن ألـ “هم ” بدلاً من ” نحن ” كي لا تحمل نفسها مسؤولية ما حصل. ولأننا نتحدث عن اليسار نقول أنه منذ بداية الخمسينات من القرن الماضي كان هناك فئات وتيارات وأفراد من اليسار الديمقراطي العالمي والعربي نقدت بشدة، كل التجارب التي مارست الديكتاتورية والاستبداد وضحت بالديمقراطية بحجة تحقيق (الاشتراكية أو مقاومة الإمبريالية) أو لأي سبب آخر، كما نقدت الستالينية كتجربة ديكتاتورية شوهت الماركسية وأجهضت الثورة العالمية لصالح مركزية الثورة (أو مركزية الدولة)، وعززت فكرة الحزب الواحد والقائد وأحلت زعامة الفرد (الزعيم الأوحد) محل الشعب والسلطة والحزب، ولقيت مواقف هؤلاء هجوماً كاسحاً من رموز أخرى من اليسار (الستاليني) والغارق في تجربته واتهمتهم (بالأطلنطيين) أي عملاء الأطلسي. وعندما اندلعت الحرب اللبنانية قبل حوالي 35 عاماً وصفتها بعض قوى اليسار ( بالحرب الطائفية القذرة) وهي كذلك فعلاً، بينما رأت فيها رموز يسارية أخرى مولعة بالطبقاوية بأنها حرب طبقية بين الأغنياء والفقراء، وشاركت فيها على هذا الأساس لتكتشف فيما بعد كم كانت مخطئة .
منذ الخمسينات الماضية انصب النقد على التجربة السوفييتية ليس في مجال الاستبداد فقط وهو مهم. ولكن في تنصيبها ودعمها لأنظمة عربية وعالم ثالثية عسكرية متخلفة ادعت تبنيها للسياسة السوفياتية باشتراكيتها، لكنها في الحقيقة كانت تتآمر عليها، والاشتراكية التي تبنتها لم تكن سوى (تأخراكية) أي اشتراكية متأخرة كما وصفها ياسين الحافظ . هذه الأنظمة لم تكن بالفعل سوى (أنظمة الأمن القومي الأمريكي) قلبها على اليمين وجيبها على اليسار .
لم يتطرق الكاتب لتاريخ هؤلاء اليساريين العرب الذين واجهوا الاستبداد الذي مارسته الأنظمة، بكل الوسائل السياسية وقدموا تضحيات كبيرة في محاربة ألإمبريالية، التيقراطية، وحقوق الإنسان، وحرية المواطن وكرامته، وهم يجدون أن أية مقاومة أو ممانعة لا قيمة لها إلا بتحقيق الديمقراطية لمواطن حر له حق حرية الرأي والتعبير وممارسة حياته السياسية التي نزعت منه وكانوا بذلك يضعون الأسس الفكرية والسياسية التي تبنتها الثورات العربية. في الوقت الذي كانت ترفض رموز يسار آخر من التي شنت هذا الهجوم وتبنت برامج هذه الأنظمة وسياساتها بحجة النهج التقدمي الاشتراكي ومواجهة ألإمبريالية التي تنتهجه، بل وتحالفت معها في الوقت الذي كانت تستشري في قمع شعوبها .
لذلك فإن الفصل بين أهداف القسم الأكبر من اليسار وأهداف الثورة السورية كثورة حرية وكرامة فيه إجحاف كبير خاصة وإن أعداداً لا تحصى من رموز هذا اليسار وعلى هذه الأهداف إما انخرطت في الثورة (السلمية بالطبع) أو ساندتها ودعمتها، بعد أن هدمت أيضا (الأولوية المعطاة للخارجي والجيوبوليتيكي) التي سعت لتبرير الهجوم على هذه الثورة، صحيح أن اليسار تفاجأ بالثورة كما تفاجأ بها العالم كله لكن المفاجأة لم تمنع أطراف عدة من المشاركة السياسية فيها، وصحيح أن هذا اليسار لم يشارك بالحراك الشعبي المباشر ناهيك عن العمل المسلح الذي يدينه، لكنه لم يترك فرصة سياسية إلا واستغلها لإيجاد مخرج سياسي يحقق أهداف الثورة، وهنا لا ندري كيف توصل الكاتب لاستنتاجه بأن (” أهل الثورة ” بات بعضهم يقف في مواجهة الثورة أو يتحفظ عليها ليبقي منهم هامش ضيق يؤيدها)، وهل هناك إحصائيات تدعم هذا الاستنتاج أو استطلاعات للرأي توصلت له ؟ .
المطلوب الآن من اليسار باعتباره محور حديثنا وتياراته السياسية والفكرية، مختلفين أو متفقين، وفي كل دولة عربية وعلى صعيد الوطن العربي والعالم، إعادة النظر بكل البرامج والسياسيات التي اتبعت قبل عقود وخاصة البرامج التي كانت تفرقها، وتقويم هذه البرامج لاستنتاج ما يؤدي إلى تشكيل تيارات وطنية وديمقراطية متنافسة لا متصارعة تقاوم الاستبداد بكل أشكاله، هذا الاستبداد الذي قامت الثورات العربية لمواجهته هو العدو الأول للشعوب، وأن الديمقراطية هي السبيل لتعزيز أية مقاومة أو ممانعة، وعليها يجب أن تتكاتف الجهود لتحقيق الدولة الديمقراطية التعددية التي يتساوى فيها الجميع ومهيأة لتؤسس لمجتمع ديمقراطي يعزز المفاهيم السياسية فيها . أما اليمين فله شأنه أيضاً.
دمشق 31 / 10 / 2012