لمناسبة مرور أحد عشر عاماً على نداء بكركي التاريخي الذي طالب فيه مجلس المطارنة الموارنة بخروج الجيش السوري من لبنان ومن ثم العمل على توحيد اللبنانيين في حركة وطنية لبنانية أثمرت في العام 2005 الاستقلال الثاني للبنان، رأيت أنه لا بد لي من التحدث من موقعي المتواضع عن رأيي بموضوعية خالصة في سلوك البطريركية اليوم.
من المؤكد أن البطريرك تحدث أكثر من مرة عن “السيئ والأسوأ” وعن “التشدد والأكثر تشدداً”، معرباً بذلك عن تخوفه من تداعيات الثورات العربية وخشيته أن تنتج أنظمة ذات طابع إسلامي متشدد. ومن المؤكد، أنه، وإن لم يقصد دعم النظام السوري المتهاوي، فلا شك في أن كلامه هذا يتناغم تماماً مع إدعاءات النظام الأسدي أنه علماني وأنه يحمي الأقليات، ولا سيما المسيحيين، من الاخوان المسلمين والسلفيين الذين سوف يقهرون الأقليات في ما إذا إستلموا حكم سوريا.
والحقيقة أن النظام الأسدي هو حليف إستراتيجي للنظام الأوتوقراطي الإسلامي في إيران وهو حليف إستراتيجي للإخوان المسلمين في فلسطين (أي “حماس”) كما لـ”الجهاد الإسلامي” (حزب الله السني الفلسطيني)، وهو حليف “حزب الله” الإسلامي الجهادي في لبنان، وهو يتعاطى استخبارياً مع كل المجموعات الإسلامية المتشددة، مثل “القاعدة” و”فتح الإسلام”، تارة مستخدماً إياها “إرهابياً” في العراق وفي لبنان لتحقيق أهافه الإقليمية وتارة أخرى متخلياً عنها لحساب الأميركيين أو غيرهم بأثمان سياسية باهظة. وللمناسبة، ألم يقتل عدد كبير من المسيحيين العراقيين على يد الإسلاميين الوافدين من سوريا إلى العراق؟!
فأين هي حماية الأقليات؟! وهل من المعقول أن يخشى غبطته على المسيحيين في سوريا من تغيير نظام من المؤكد أنه يتهاوى؟! ألا يظن غبطته أن كلامه يدفع مسيحيي سوريا إلى الإلتصاق بالنظام المتهاوي، فيتهاوون معه؟! ألا يظن أنه من الأفضل لمسيحيي سوريا أن يبدأوا بإعادة تموضعهم بهدف حمايتهم من جهة، ولكي يكونوا متناغمين مع النظام الديموقراطي الجديد، ولكي يحفظوا دورهم فيه، ولكي يعيشوا قيم الحرية والمحبة والإنسانية التي يعلّمنا إياها الدين المسيحي، بدلاً من الإنحياز إلى أقلية تقمع الغالبية؟!
وماذا عن مسيحيي لبنان وعن اللبنانيين عموماً الذين نكّل بهم النظام الأسدي؟! وهل غيّر هذا النظام سلوكه تجاه لبنان أم أنه غيّر سلوكه بالنسبة لبعض المسيحيين الذين إرتضوا أن يصبحوا “بذمته” كما هو الحال بالنسبة الى غالبية مسيحيي سوريا؟! وهل هذه السياسة حكيمة؟! فإذا خسر النظام الأسدي يخسرون معه وإذا ربح، فلا يكون قائدهم ربح سوى فتات المائدة السلطوية ويخسر المسيحيون ولبنان معهم.
من المؤكد أيضاً أن غبطته تحدث عن الشرق الأوسط الجديد وكأن كلامه يوحي بأنه ثمة مؤامرة أميركية أو غربية تهدف إلى تقسيم المنطقة وإلى خلق “الفوضى الخلاقة” وإلى فرض الديموقراطية بالقوة، كما أعرب عن توجسّه من “الإضطرابات” التي يشهدها العالم العربي محذراً من تداعياتها الخطيرة، أي الحروب الأهلية ذات الطابع الطائفي والمذهبي.
هنا أيضاً يتناغم خطاب غبطته مع خطاب النظام الأسدي (وبالتحديد كلام الرئيس الأسد) وكل حلفائه في لبنان وعلى رأسهم “حزب الله”.
والحقيقة، أن غبطته لا يرى أن الثورات في العالم العربي هي ثورات حقيقية تقدمية تخرج العالم العربي من سباته وتخلفه وتشدده الإسلامي إلى رحاب الحرية والديموقراطية والحداثة والعدالة، حتى لو شارك فيها إخوان مسلمون أو حتى بعض أنواع السلفيين (وهم أقلية ضمن الأقلية، وهم موجودون في كل البلدان العربية والمسلمة)، علماً أن الإسلاميين إلتحقوا بالثورات ولم ولن يكونوا روادها.
والحقيقة أنه من المستبعد جداً أن تتحول هذه الثورات إلى ديكتاتوريات إسلامية أو ثيوقراطيات إذ أنها أتت في سياق دينامية ديموقراطية. فالشعب الذي رفض الظلم لا يمكنه أن يستعيده بحلة أخرى. وهنا، لا بد من ملاحظة أن إعطاء المثال الإيراني للتدليل على خطأ هذه المقولة هو في غير محله لأن الثورة في إيران أتت في عصر آخر وبخصوصية شيعية وإيرانية خاصة جداً ولأن طابعها الرئيسي كما قيادتها كانت منذ البداية إسلامية.
والحقيقة أن الثورة التكنولوجية في المواصلات والإتصالات عرّفت الشباب العربي على حقيقة المجتمعات في العالم، فخلقت لديهم الوعي بحقيقة أوضاعهم المأسوية: لا حرية، لا كرامة إنسانية، لا عدالة إجتماعية، قلة تحكمهم بالحديد والنار وتستأثر بخيرات البلاد، وغالبيتها ملكيات غير متوجة عمرها ثلاثون أو أربعون سنة أتت إلى الحكم من خلال إنقلابات عسكرية.
من المؤكد أيضاً أن غبطته دعم الثالوث المقدس (الشعب والجيش والمقاومة) وأكثر عندما أعلن في الغداء التكريمي في بعلبك تعقيباً على كلمة الشيخ محمد يزبك، الوكيل الشرعي العام للسيد خامنئي في لبنان ورئيس الهيئة الشرعية في “حزب الله”، أنه يتبنى ما جاء في كلمته “من مطالب وثوابت وطنية” داعياً إلى “التمسك بها كوثيقة وطنية”.
من المؤسف أنه، بالرغم من أن الأعضاء في “حزب الله” لهم بالتأكيد جنسية لبنانية، قد غاب عن بال غبطته أن الحزب هو تنظيم جهادي إسلامي له ايديولوجية ورؤى إسلامية كونية يهدف في هذه المرحلة الإستراتيجية إلى تدمير دولة إسرائيل كخطوة اولى على طريق تحقيق مشروعه الإسلامي الكوني يداً بيد مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية وأن السبيل الوحيد لتنفيذ هذا الهدف هو المقاومة المسلحة. فأولويته ليس لبنان ولا مزارع شبعا ولا حماية النفط والغاز اللبنانيين ولا الدفاع عن لبنان، إنما توكيل نفسه قسراً بدلاً من الدولة اللبنانية بكل هذه المهمات بهدف الإبقاء على سلاحه وإستخدامه عندما يحين الأوان كخطوة على طريق التقدم في تحقيق هدفه الإستراتيجي.
فـ”حزب الله” يفرض بقوة السلاح رأيه هذا على اللبنانيين بمن فيهم الشيعة جاعلاً لبنان رأس رمح لقضية تتعدى نطاق الصراع العربي – الإسرائيلي وتضع لبنان في خطر إندلاع حرب مدمرة قد يتخذ قرارها هو أو إسرائيل وفق توقيت مناسب من هنا أو هناك وفي كل الأحوال لتحقيق أهداف لا ناقة لللبنانيين فيها ولا جمل.
لذا، أرجو غبطته قراءة الوثيقة السياسية لـ”حزب الله” التي صدرت منذ سنة لكي يتحقق من صحة ما قلته أعلاه ولإعادة صياغة مواقفه في ضوئها.
من المؤكد أيضاً وأيضاً أن غبطته أبدى خشيته من تسلم السنّة الحكم في سوريا، لئلا يدفع هذا الأمر إلى تأجيج الصراع السني-الشيعي في المنطقة ولا سيما في لبنان، وفقاً لمقولة كلاسيكية لدى مسيحيي الشرق تقول إن المسيحيين يدفعون دائماً ثمن حروب الآخرين لأنهم الأضعف. غير أن ثمة مقولة أخرى لدى بعض المسيحيين تقوم على مبدأ خاطئ وخرافي، وهو تحالف الأقليات، تقول أن لا مصلحة للمسيحيين في “حكم سني” لسوريا إذ أن هذا الأمر سوف يدفع سنة لبنان إلى توطيد سيطرتهم عليه على حساب المسيحيين والشيعة. أتمنى أن لا يكون هذا التقويم رأي غبطته.
إن مواقف غبطته تعرض الدور والحضور الماروني والمسيحي إلى الخطر وبالتالي تضع لبنان الرسالة في مهب الريح.
في ما يخصني، لا وجود للكيان اللبناني دون حضور أساسي للمسيحيين عامة والموارنة خاصة فيه. إن مسلمات بكركي كما فهمتها وأفهمها هي: الحرية والإنفتاح على العالم، الكرامة الإنسانية، العدالة، المحبة، إحترام الآخر المختلف، العيش المشترك.
عملياً، تحتم هذه المبادئ العامة أن تقوم الدولة القوية لتحمي الكيان وتحقق السيادة والإستقلال، وأن يكون لها حصرية السلاح وحصرية إستخدامه، على أن يقوم النظام السياسي على قاعدة المناصفة الحقيقية لا الشكلية تحقيقاً لقاعدتي التوازن والتوافق في السلطة والمجتمع اللتين أرساهما إتفاق الطائف والذي لم تطبق حتى يومنا هذا. فبكركي حامية الهيكل، أي المؤتمنة وطنياً على صحة تنفيذ هذه المبادئ والمسلمات الوطنية، تماماً كما كانت تاريخياً ولا سيما في مرحلة البطريرك صفير.
إنطلاقاً من هذه الرؤية فقط، يمكننا الحكم على مواقف بكركي سلباً أو إيجاباً. فلا أحد فوق المساءلة الوطنية لأن مستقبل الكيان ومستقبل أولادنا في هذا الكيان في خطر.
وعليه اقترح دعوة المسيحيين عامةً والموارنة خاصةً – الذين رفضوا لبنان الصغير وطناً قومياً مسيحياً وطالبوا بلبنان الكبير عام 1920، والذين رفضوا بقاء الانتداب في 1943 وناضلوا من اجل الاستقلال الوطني، والذين آمنوا باتفاق الطائف على قاعدة المناصفة الاسلامية – المسيحية بدلاً من استمرار الحرب ومساكنة الطوائف، والذين رفضوا الاستلحاق بالنظام الامني السوري وطالبوا عبر “قرنة شهوان” بالتواصل مع سائر مكونات لبنان من اجل إخراج الجيش السوري، والذين توحّدوا في 14 آذار 2005 مع اخوانهم
المسلمين بدلاً من الإصطدام الطائفي – الى الاجتماع مجدّداً من اجل اعادة تكوين خط الشرعية التاريخية المسيحية في لبنان والمنطقة.
سياسي ومفكر لبناني