جدل حول مقولتين وثلاث مشكلات كبرى
هل يمتلك النظام السوري نوايا حقيقية في الإصلاح بسوريا؟
لكن لماذا نطرح هذا التساؤل الآن؟….
ربما الإجابة أنه بعد عام من بدء الاحتجاجات في سورية، وبعيداً عن طبول الحرب التي تقرع في المدن والبلدات السورية، ما يزال أنصار طرفي الأزمة يتمترسون وراء وجهتي نظر متناقضتين:
الأولى لأنصار النظام الذين يعتقدون أن النظام السوري الراهن هو الأقدر على إدارة الساحة السورية، وهو الضمانة الأمثل لأمن واستقرار وسيادة سوريا، وحماية الأقليات واحترام الخصوصيات والحريات الدينية فيها، وأن البديل يتمثّل إما في قوى إسلامية متطرفة، أو في أحسن الأحوال في خليط غير متجانس من المعارضين المتصارعين حتى في أحلك ظروفهم حول رؤاهم ومصالحهم مما يعني فوضى أمنية وسياسية لا يعلم إلا الله متى يمكن ضبطها، والأهم من كل ذلك أن قوى المعارضة، على اختلاف تلويناتها، حسب أنصار النظام، هي قوى تدور في فلك المحور الأمريكي – الأوروبي وحلفائه العرب في المنطقة، مما يعني تقويضاً لجهود سنوات من الممانعة والمقاومة لمشاريع الغرب وربيبته إسرائيل في المنطقة، قام بها بإخلاص كبير محور يمتد من طهران إلى دمشق وحتى الضاحية الجنوبية في بيروت….
لكن قد تكون الحجة الأكثر تداولاً في أوساط منظري وأنصار النظام، وفي قمّة كل ما سبق، هي أن النظام السوري جادٌ في الإصلاح، وأن قمة الهرم في سورية بات اليوم أكثر قناعة أكثر من أي وقت مضى بضرورة تلافي أخطاء الماضي، وإصلاح مثالب النظام ونقاط ضعفه التي ساهمت، مع جملة عوامل أخرى، في اندلاع واحدة من أحلك الأزمات في تاريخ سورية المعاصر….وبالتالي فالنظام في سورية، بعد إتمام الانتصار على المؤامرة، سيحثّ الخطى، نحو الإصلاح،…بل هو قد بدأ فعلاً بخطواته الراسخة نحو الإصلاح منذ الأشهر الأولى للأزمة الراهنة….
في مقابل ما سبق….تأتي القناعة الثانية لمعارضي النظام، على اختلاف تلويناتهم، والذين يجمعون، وهي من نوادر نقاط إجماعهم، على أن النظام في سورية عصيّ على الإصلاح، لأن الإصلاح يمسّ بنيته وركائزه مباشرة، ويقوّض استقراره، ويهدد بخسارته للساحة السورية….فهو نظام بُني على القمع، وترسخت ركائزه على الاستبداد، وطال أمده عبر الكبت، مما يعني أن الإصلاح الحقيقي الصادق، يمثّل ضربة قاصمة لأعمدته….
وقد دأب المعارضون خلال السنة الماضية على نقد “خطوات الإصلاح” التي تقدم بها النظام، وفندوها، وقدموا، من وجهة نظرهم، الأدلة على بطلانها، وعدم صدقيتها وجديتها….
وهكذا بعد عام، يبقى الجدل ذاته قائماً، وتبقى القناعات ذاتها صامدة، ورغم أن هذا الجدل قد تراجع نسبياً عن مقدمة المشهد المتأزم في سورية، بعد أن تقدمت الأحداث الميدانية، والتطورات الإقليمية والدولية، ليتصدرا هذا المشهد، إلا أن ذاك الجدل ما يزال يحتفظ بأهميته، باعتباره الركيزة المنطقية التي تقوم عليها مشروعية وجود ونشاط كل طرف، فالنظام يقدّم مشروعه مرتكزاً على الإصلاح المعتمد من جانبه، وقوى المعارضة تقدّم مشروعها مرتكزة على نقد وتفنيد صدقية النظام في الإصلاح….
بعد أن بيّنا أسباب طرحنا للسؤال الذي افتتحنا به مقالتنا، نلتفت لسؤال آخر يتيح لنا الانتقال بسلاسة أكبر نحو لبّ ما نريد قوله…
ما هي الجوانب التي يجب إصلاحها في سورية والتي على أساس التطورات فيها يمكن تقييم جديّة النظام في الإصلاح؟
قد تكون الإجابة هنا عسيرة نسبياً، خاصة أنها تخضع لأجندات أصحاب الأجوبة، لكننا يمكن أن نعتمد معايير محايدة قدر المستطاع باعتماد فكرة مفادها أن أهم ما يجب إصلاحه في سورية هو المشكلات التي أدت أصلاً إلى اندلاع الأزمة الراهنة…
فقبل 15 آذار عام 2011، كان الأمن مستتباً، والاستقرار متجذراً، والسيادة –نسبياً- مصانة، وموقع سورية الإقليمي وسياستها الخارجية تتمتّع بقبول ملحوظ محلياً…..
إذاً ما المشكلات التي أدت إلى اندلاع شرارة احتجاجات 15 آذار 2011؟
بدايةً، نلفت هنا إلى أنه يستحيل أن نناقش المُغرقين في نظرية المؤامرة الذين وصف بعضهم مطلع الأحداث في سورية على أنها صنيعة خارجية معدّ لها منذ سنوات….فالنقاش هنا لن يأتي بنتيجة….لأن أصحاب هذا الرأي ينكرون أية مشكلات موضوعية يعاني منها النظام، وينفون أخطاء ارتكبت من جانبه، أقرّ أبرز رموزه بها، وينكرون مثالب عديدة يحياها السوريون، ويقررون فصلهم عن محيطهم الإقليمي الطبيعي، والتساؤل عن أسباب خروجهم للاحتجاج بعد نجاح ثورتي تونس ومصر، متجاهلين، بصورة غير موضوعية، التماثل الكبير في السياسة الداخلية لجميع الأنظمة التي اندلعت الاحتجاجات ضدها في المنطقة ومنها النظام السوري….لذا فإن النقاش مع هذا الفريق تصعب إدارته بمنطقية، بحكم أنهم يعتمدون معطيات وحقائق مقدمة من جهات مشكوك في صدقيتها ويتبنونها وكأنها حقائق منزلة غير قابلة للنقاش لإثبات وجهة نظر “فجّة” نسبياً، تقول بأن كل ما حدث ويحدث في منطقتنا العربية مؤامرة كبرى، وخديعة عظمى….
لذا فأعتقد بأن الفئة التي يمكن أن نناقشها هي تلك التي تقرّ بمثالب النظام لكنها تؤكد أنه أفضل من الفوضى أو المجهول أو الحكم الإسلامي المتطرف، وأن نيّته في الإصلاح الجاد هي السبب الرئيس الداعم لثقتهم به…
وهنا نعود إلى السؤال آنف الذكر…..ما المشكلات التي أدت إلى اندلاع شرارة احتجاجات 15 آذار 2011؟
يمكن لنا أن نقدّم إجابات عديدة، لكنني أعتقد أن ثلاث قضايا كبرى يمكن أن يتمحور الحديث حولها باعتبارها أكثر المشكلات جوهرية….المشكلة الأولى، هي ما يعتبره البعض، وما أقرّه بعض المقربين من النظام من وسائل إعلام –راجع في هذا الصدد أعداد جريدة الأخبار اللبنانية في شهري آذار ونيسان من العام المنصرم-، من أنها السبب المباشر في اندلاع الأزمة السورية الراهنة، وهي التعاطي الأمني مع الحراك الاحتجاجي في بداياته، خاصة في درعا….
أما المشكلة الثانية، فهي عقيدة النظام في السياسة الداخلية، والتي تقوم على مبدأ الحزب القائد، وترتكز فعلياً على تقييد الحريات وضبط الاتجاهات السياسية المتاحة قانوناً في بوتقة محددة من النظام تسمى “الجبهة الوطنية التقدمية”، وتتعزّز بدستور وقوانين تدعّم كل ما سبق، فلا أحزاب، إلا تلك المتحالفة مع النظام والمنضوية تحت جناحه، ولا قوى سياسية إلا تلك التي تتبنى التوجهات القومية والاشتراكية –سابقاً على الأقل-، مع تحريم مطلق لأي حراك سياسي إسلامي أو قومي غير عربي….
أما المشكلة الثالثة، فهي أداء النظام الاقتصادي خلال العقد الأخير، والذي قام على الانفتاح على الاقتصاد العالمي والتحرر تدريجياً من العقيدة الاشتراكية في الاقتصاد والدعم الحكومي للطبقة الوسطى والفقيرة، وانتهاج اقتصاد السوق، في ظل احتكار واضح من جانب فئات متسلطة على ثروات البلاد، مستفيدة من علاقاتها السلطوية ومتحالفة مع البرجوازية التقليدية وتلك الصاعدة، بصورة مترافقة مع فساد إداري واقتصادي مستشري بلغ مراتب خطيرة، تزامناً مع تراجع الوزن المالي للمصدر الريعي الأهم في الميزانية السورية، النفط، بعد تراجع مستوياته الموجودة والمستكشفة،….وتُوّج كل ما سبق بعقد اتفاقيات اقتصادية مع دول عربية وصديقة تحكمها المصالح السياسية أكثر من المصالح الاقتصادية السورية، مما أضرّ بالاقتصاد السوري وبطبقات كبيرة من المجتمع السوري، فتردّى وضع الفلاح السوري بصورة هائلة، وتدنت بنسب ملحوظة إمكانات التصنيع المحلي في المشروعات الصغيرة والمتوسطة أمام تدفق البضائع العربية والتركية التي خُفّضت رسومها الجمركية، مع تركيز غير مدروس على السياحة والخدمات وإهمال كبير للصناعة والزراعة….مما أفقر شرائح كبيرة من السوريين، وأدى إلى تراجع حاد في القوة الشرائية لشرائح واسعة أخرى، في مقابل تنامي ثراء فئة صغيرة من السوريين، احتار المسؤولون الاقتصاديون في سورية كيف يمكن تأمين “المولات” وأماكن الترفيه لتعزيز أجواء الرفاه التي تحياها هذه الفئة….
وبعد ذلك الاستعراض المستفيض، الذي ربما يلخّص الأسباب الجوهرية لاندلاع وتفاقم الأزمة الراهنة في سورية، والتي وصلت اليوم حافة الحرب الأهلية….هل أثبت النظام السوري أنه جاد في الإصلاح عبر معالجة جديّة ذات مصداقية لأيّ من المشكلات الثلاث آنفة التفصيل….