جديّة النظام السوري في الإصلاح…تحت المجهر (2-3) … بقلم: إياد الجعفري

جديّة النظام السوري في الإصلاح…تحت المجهر (2-3) … بقلم: إياد الجعفري

 

السطوة الأمنية…البند الأول في التشكيك بنوايا النظام

 

في بعض تصريحاته، أقرّ رأس النظام في سورية شخصياً أن الأجهزة الأمنية السورية لم تكن مؤهلة لمواجهة الاحتجاجات السورية في بداياتها….فهل كان يقصد أنها لم تكن مؤهلة بالمعنى الفنّي البحت

بمعنى أن الأجهزة الأمنية السورية بحكم مواجهاتها لعقود مع قوى سياسية منظّمة ذات هرميّة، أو قوى إسلامية حركيّة ذات نشاطات ميدانية، في جانب منها مسلّح، لم تكن مؤهلة لمواجهة مظاهرات شعبية وحراك جماهيري لا هرمية فيه، ولا قيادة أو تنظيمية واضحة في معالمه….أم كان يقصد بأن الأجهزة الأمنية لم تكن خاضعة لضوابط قانونية واضحة تجعلها تفرّق بين الظروف التي يحق لها فيها أن تستخدم العنف، وحدود هذا العنف المتاح، وبين الظروف التي يتوجّب فيها أن تستخدم اللين، أو أن تفسح ا

لمجال للمعالجات السياسية والقانونية….؟

سؤال كبير تصعب الإجابة عليه، لأن رموز النظام في أغلبهم لا يخوضون كثيراً في هذه الحيثية على أهميتها البالغة….لكن ربما تكون الإجابة على هذا السؤال هي الفيصل في تقييم جديّة النظام في إصلاح الأجهزة الأمنية التي اعترف رموزه بأنها وقعت في أخطاء، وتعهدوا بإصلاحها….فما الجانب الذي سيتم إصلاحه في الأجهزة الأمنية؟

هل سيتم العمل على ضبط الأجهزة الأمنية قانونياً…وإخضاع ضباطها وعناصرها للمساءلة في حال الوقوع في الخطأ؟….أم سيتم تطوير قدرات الأجهزة الأمنية فنياً وتدريبياً على مواجهة حالات التظاهر أو الشغب أحياناً للحد من وقوع القتلى قدر المستطاع؟

من المعلوم للجميع، وأعتقد أن هذه نقطة اتفاق لجميع الأطراف على اختلاف مواقفها من الأزمة الراهنة، أن اللبنة الأولى للإصلاح في أي بلد هي إخضاع جميع أجهزته وأفراده لسيادة القانون، بحيث لا تكون هناك استثناءات…وهو ما يجب أن ينسحب على الأجهزة الأمنية في سورية، بل ويجب أن يكون الضبط القانوني للأمنيين أكبر من سواه في الوظائف والمهمات الرسمية الأخرى بحكم ما يتمتع به رجل الأمن من سطوة وسلطة، تتطلب ضبطاً حازماً حتى لا تغريه هذه السلطة المطلقة فيتجاوز حدوده…ومن المعلوم للجميع أن عدم وجود محاسبة لأي شخص يتبوء موقع رسمي يخوله سلطة كبيرة، يجعله عرضة للانحراف عن دوره ومهمته…وهو ما ينطبق على أي شخص في أي بلد في العالم، فهي طبيعة إنسانية تتلخص في مقولة شهيرة في عُرف السياسة مفادها أن "السلطة المطلقة مفسدة مطلقة"….

وهنا نسأل….إن عتّمنا قليلاً على مشهد الأزمة الراهنة في عقولنا، وعدنا بذاكراتنا إلى الوراء عقوداً ثلاثة في سورية،…هل نجد حادثة ما أو تجربة ما تثبت أن الأجهزة الأمنية السورية تخضع للمحاسبة القانونية…وهنا أقول المحاسبة القانونية، بمعنى ذات الطابع القضائي الرسمي، وليست المحاسبة التي يقرّرها المسؤول الأعلى رتبة، فهذه لا تعدّ محاسبة قانونية، فهي تخضع للمزاجية، وللظروف المتعلقة بكل حادثة على حدا، أما المحاسبة المطلوبة، فهي التي ترتكز على نص قانوني، وتتحقّق فعلياً بيد القضاء….

أعتقد بأن الإجابة الموضوعية هي "لا"….

الآن إن انتقلنا بذاكرتنا إلى الأيام والأسابيع الأولى للأزمة، والتي كما سبق وأسلفنا، أقرّ رأس النظام شخصياً بأن الأجهزة الأمنية خلالها وقعت في أخطاء وتعهد بإصلاحها –يمكن في هذا الصدد مراجعة عدة تصريحات للرئيس الأسد أبرزها كان في آب المنصرم-، وجميعنا، كما أوضحنا في الجزء الأول من مقالنا، يعرف ملابسات الحادثة التي أثارت الفتيل الأول للاحتجاجات في درعا، هل كانت هذه الحادثة خطأ فردي، أم نتيجة لمنهجية إدارة الأجهزة الأمنية من جانب النظام؟….

سؤال هام، يتطلب وقفة دقيقة، هل أساء المسؤول الأمني في درعا التصرف فقط…..أم أن القضية هي أن الأجهزة الأمنية بأكملها تسيء التصرف لأنها تعمل وفق منهجية تجعلها مطمئنة إلى عدم وجود محاسبة قانونية على أخطائها؟….

وإن كنا نقرّ هنا بوجود فروق في التعاطي الأمني بين مسؤول وآخر، وأكبر تأكيد على ذلك يتمثّل في الفرق الهائل في التعاطي الأمني بين وزير الداخلية السابق في تظاهرة سوق الحريقة بدمشق قبيل اندلاع الاحتجاجات في درعا بأسابيع، والذي استطاع امتصاص الغضبة الجماهيرية التي شكّلت تحدياً لهيبة الأمن حينها، يفوق بكثير ذلك التحدّي الذي شكّلته بضعة كتابات على جدران بعض المدارس في درعا، جعلت المسؤول الأمني في درعا يعتقل الأطفال ويهين الأهالي وبعض الرموز العشائرية في تلك المنطقة، مما أطلق الفتيل الأول للاحتجاجات……

لكن رغم إقرارنا بأن التعاطي الأمني قد يختلف بين مسؤول وآخر، وهو ما يرجع لشخص المسؤول ومقدار ثقافته وحنكته، إلا أن السؤال يبقى مطروحاً بحدّة….هل أساء المسؤول الأمني في درعا التصرف فقط….أم أن القضية هي أن الأجهزة الأمنية بأكملها تسيء التصرف….وإن كانت كذلك….فلماذا؟….ألغياب المساءلة؟….

لو أجبنا بأن خطأ المسؤول الأمني في درعا كان خطأ فردياً….فإننا سنقع في الإشكالية الكبيرة التي تمثّلها هذه الإجابة والتي تتركّز في التساؤل التالي: لماذا لم تتم محاسبة عاطف نجيب علناً حتى الآن؟….ألم يكن ذلك كفيلاً بامتصاص جزء من الغضبة الجماهيرية في بداياتها؟…..لو أجبنا بأن الخطأ المذكور كان فردياً….فإننا سنقع في مطب تناقض منطقي….أين المحاسبة؟ ولماذا لم تتم؟….سيجيب علينا البعض بأن المحاسبة آتية بعد الانتهاء من المؤامرة، وحصر الفلتان الأمني، وهنا أذكّر بأنني أركّز في نقاشي على الأسابيع والأشهر الأولى من الأزمة وليس على الوضع الراهن الآن، فإن كانت المحاسبة ستأتي بعد حصر الفلتان الأمني….أقول لماذا؟….لماذا تأتي المحاسبة بعد حصر الفلتان الأمني؟….

هل إن حاسبنا بضعة عشرات أو حتى مئات من عناصر وضباط الأمن الذين ارتكبوا أخطاء خلال الأزمة من عداد عشرات آلاف عناصر الأمن، هل هذا سيقوّض أداء الأمن….يقول قائل…الوقت الآن ليس مناسباً….حينها سأعيد صياغة السؤال بصورة أخرى….إن كانت هناك أخطاء أمنية أقرّ بها الرئيس شخصياً…وهي بإقرار البعض حتى من أنصار النظام واحدة من أسباب عديدة سببت اندلاع الأزمة وتفاقهما…فإن التحرك المنطقي يرتكز على محاصرة أسباب الأزمة والتخلص منها أو تقليل تأثيرها قدر المستطاع كي نستطيع تجاوز الأزمة ذاتها…والأخطاء الفردية في الأجهزة الأمنية واحدة من أسباب الأزمة…والأجهزة الأمنية تضم عشرات آلاف العاملين…فهل سيضرّ بهذه الأجهزة محاسبة بضعة عشرات أو مئات من عناصرها ارتكبوا أخطاء أجّجت الأزمة، وذلك بهدف إقناع الشارع بأن النظام جادّ في الإصلاح….

إن قال قائل لا نملك الزمن الكافي لمعالجة هذا الجانب فالأولوية هي للاستقرار الأمني، أعيد تذكيره بأنني أتحدث عن الأسابيع والأشهر الأولى من الأزمة وليس عن الوقت الراهن، وأسأله، ألم يجد النظام الوقت الكافي لعقد مؤتمر للحوار الوطني في مجمع صحارى بدمشق….ألم يجد الوقت المناسب لإعداد قوانين تحكم الإرهاب، ورفع حالة الطوارئ، وقوانين تتعلق بالإعلام وانتخابات الإدارة المحلية وإعداد الدستور….ألم يجد النظام في فسحة كل هذا الوقت المستهلك في "الإصلاحات" سابقة الذكر مجالاً زمنياً كافياً لأن يقوم بإجراء محاكمات علنيّة لرموز وعناصر أمنيّة أساءت التصرف خلال الأزمة…وذلك بهدف كسب ثقة الشارع….

عند هذه النقطة قد نجد شخصاً صريحاً يقول لنا بـ "فجاجة" لا يجب ضعضعة الأجهزة الأمنية وصرف بعضها عن أداء واجبه في ملاحقة "المتآمرين" و"المغرر بهم"، خشية المحاسبة، فالأولوية لفرض الأمن….وهنا نجيب هذا الشخص أن هذا المبدأ، إن كان هو المعتمد من جانب النظام، أي الإبقاء على وحدة الصف الأمني ضباطاً وعناصر، كي يصطفوا وراء النظام بحزم للسيطرة على الأوضاع، فإن ذلك يثبت ما سبق وبدأناه بأن القضية التي أطلقت شرارة الاحتجاجات في درعا ليست خطأ أمنياً فردياً….وامتداد الاحتجاجات إلى مناطق أخرى، وغياب أية محاسبة لأي رجل أمن حتى الساعة، تؤكد أن النظام كان وما يزال يعتمد منهجية تجنيب الأجهزة الأمنية أية محاسبة قانونية على أفعالها…وهو ما يفسّر غياب أية حادثة في تاريخنا منذ أكثر من ثلاثين عاماً حُوكم خلالها رجل أمن على أخطاء ارتكبها….

هل كانت محاسبة عاطف نجيب كفيلة بحصر الاحتجاجات وتجنب ما وصلنا إليه الآن….تصعب الإجابة على ذلك بصورة أكيدة…لكن من المؤكد أنها لو حدثت بصورة تتمتع بالمصداقية لكانت أثبتت نيّة النظام في الإصلاح، وعزّزت من شعبية رموزه….وأعتقد أنها لو حدثت في الوقت المناسب لكانت وسّعت بصورة كبيرة من الهامش الديمغرافي لمؤيدي النظام….وعزّزت قدرته على إقناع جزء أكبر من الشارع السوري بصدقيّة نواياه….

لكن لماذا يحتاج النظام إلى تعزيز صدقيّة نواياه أمام شارعه؟….

ربما مراجعة بسيطة، وموضوعية، لتاريخ السطوة الأمنية في سورية خلال العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة، كفيلة بالإجابة على السؤال السابق….بل أضيف بأن التدقيق الموضوعي في هذا التاريخ قد يقودنا إلى حقيقة مفاجئة مفادها أن النظام في حالات الأزمات والضغوط، خاصة الخارجية منها، يخفّف من قبضته الأمنية داخلياً، وفي حالات المنعة واستقرار الأمور لصالحه على الصعيد الإقليمي، يعزّز من قبضته الأمنية داخلياً، ويكفي أن نراجع سنوات ما بعد العام 2000، فبعد أقل من عامين، وحالما استقرّت الأمور لصالح حكم الرئيس بشار الأسد، بعد نقلة التوريث التي أثارت جدلاً كبيراً في الأوساط السياسية السورية حينها….كانت حملة الاعتقالات التي طالت نشطاء المجتمع المدني السوري في خريف العام 2001….وإن انتقلنا إلى المرحلة الزمنية التالية بعد بدء الضغط الإقليمي والدولي الكبير على سورية منذ نهايات العام 2004 بخصوص لبنان، مروراً باغتيال الحريري ومسلسل التحقيق الدولي في هذا الخصوص….تراجعت القبضة الأمنية على النخبة السياسية والإعلامية في سورية….لكن بعد حرب تموز 2006 وبصورة أكثر تحديداً مع مطلع العام 2007 ومع تراجع الأثر السلبي للتحقيق الدولي في اغتيال الحريري على سورية، وهبوط مستويات التهديد الخارجي….عادت القبضة الأمنية لتصبح أكثر حدة، ونذكّر هنا بحملة الاعتقالات التي طالت نشطاء ما سمي في العام 2007 بـ "إعلان دمشق"….وحصل تضييق أمني ملحوظ على الحريات الإعلامية يدركها المتابعون الدائمون للإعلام السوري غير الرسمي في تلك الحقبة….

وإن رجعنا أكثر إلى الوراء….فبعد أحداث حماه عام 1982 والتي حسمت الصراع الأمني والميداني مع جماعة الإخوان المسلمين تقريباً على الساحة الداخلية….هل تراجعت القبضة الأمنية في سورية؟…من عاش تلك الحقبة يدرك تماماً أن النظام في سورية حينها شدّد قبضته الأمنية أكثر لتطال النخبة السياسية حتى من القوى اليسارية…ومن ثم انتقل لتشديد القبضة الأمنية حتى على العامة من الناس…حتى بات تقرير خطي لعنصر أمن يتهم شخصاً بأنه تفوه بكلمات تنبئ بعدم رضاه عن النظام كفيلة ربما باعتقال هذا الشخص، أو على الأقل تعنيفه أمنياً….وحينها انتشرت شعبياً عبارة ذات مغزى لكل من عاش تلك الحقبة "الجدران لها آذان"….حقبة من الضغط الأمني لم تتراخى حلقاتها حتى مطلع التسعينات رغم غياب أية مبررات موضوعية داخلية على الأقل….أما إن كنا سنقول أن الضغوط والمؤامرات الخارجية تبرّر القبضة الأمنية الداخلية فهذا يعني بكل بساطة أن علينا أن نحيا في ظل هذه القبضة حتى "قيام الساعة على الأقل"…وأن نقنع أنفسنا بتناقض منطقي خطير أن السطوة الأمنية المطلقة غير الخاضعة للقانون أو المحاسبة لن تتخللها حالات من الفساد أو إساءة استخدام السلطة مما يسيء لمساعي الإصلاح في البلاد

إن تقييد السطوة الأمنية لأجهزة غير مضبوطة قانونياً يشكّل واحداً من أبرز الأدلة على نوايا النظام الصادقة في الإصلاح، والعكس صحيح، وهنا نقول للمدافعين عن سطوة الأمن بحجج متعلّقة بضرورة فرض القانون على الساحة الداخلية قبل إصلاح ومحاسبة المذنبين في الأجهزة الأمنية،…كيف يمكن معالجة داء بذات الداء…كيف يمكن معالجة الخروج عن القانون بخروج آخر عن القانون…هذا تناقض منطقي….ونتيجته المنطقية أن أولئك المتحررين من أية ضوابط قانونية والذين خدموا السلطات في لحظات الأزمة…هل سيقبلون بمحاسبتهم بعد حسمها؟….بل قد يكون السؤال أكثر جرأة: هل ستتمكن القيادة السياسية من محاسبتهم بعد كل هذا التغلغل والصلاحيات المطلقة؟….أم أنهم الأقوى بحكم أنهم الممسكين بزمام الأمور على الأرض؟….

وهل يعني ذلك أننا سنعيش، في حال انتهاء الأزمة الراهنة لصالح النظام، في حقبة مشابهة لحقبة ما بعد العام 1982، في سطوة أمنية هائلة، تفوق بكثير تلك التي عشناها بعد العام 2000؟….

هل سيصلح النظام الأجهزة الأمنية؟….أم أنها ستصبح الحاكم على أرضه بعد الأزمة بحكم أنها كانت السبب في حسمها أصلاً لصالح النظام؟….

أسئلة كثيرة برسم أولئك الذين يرجّحون صدقيّة نوايا النظام في سورية……تحتاج ربما إلى الكثير من التمعن….

جديّة النظام السوري في الإصلاح…تحت المجهر (1-3) … بقلم: إياد الجعفري

جديّة النظام السوري في الإصلاح…تحت المجهر (3-3) … بقلم: إياد الجعفري