أدت أعمال العنف والقتل والدمار الراهنة والتي تعرضت لها سورية إلى تصاعد هجرة المسيحيين بصورة لم تشهد لها مثيلاً من قبل، وعززتهاعمليات التهديد والخطف والابتزاز التي اصطادت أعداداً منهم وقتل بعضهم من قبل جهات متخفية ومجهولة. تلك العمليات لم توفر أحداً بعضها بدافع الفدية المالية والبعض بدوافع دينية أو انتقامية كان أبرز ضحاياها عدد من رجال الدين آخرهم مطراني حلب الذين خطفا ولا زال مصيرهما مجهولاً رغم بعض التطمينات الوهمية. وبالتالي فإن هذه الظاهرة هي أقرب إلى التهجير القسري منها إلى الهجرة الطوعية التي دأبوا عليها قبلاً .
وتفيد المعلومات الميدانية أن أكثر من 30 % على الأقل من المهنيين ( أطباء ومهندسين وصيادلة ومحامين )، وأصحاب أموال وحرفيين من محافظة الحسكة وحدها غادروها مع عائلاتهم نسبة المسيحيين منهم لا تقل عن 80 % تاركين وراءهم بيوتهم وأراضيهم وثرواتهم، كما أن محافظات أخرى كدير الزور و ادلب وحمص لم يبقى فيها سوى عدد محدود جداً من العائلات المسيحية، ( في دير الزور عائلة واحدة فقط من أصل أكثر من مئة عائلة، وأن الأغلبية الساحقة من أرمن حلب الذين كانوا يعيشون في بحبوحة من العيش إلى حد ما هاجروا أو هم في طريقهم للهجرة إلى أرمينيا التي فتحت لهم أبوابها رغم الظروف الاقتصادية التي تمر بها، و تدل المؤشرات على محدودية فرص العمل لهؤلاء المهاجرين والمعيشة القاسية التي خضعوا لها وتعرض بعضهم لخطر الموت في المجاهل. بالطبع لم تقتصر الهجرة على المسيحيين بل تناولت كل الفئات هرباً من العنف المتصاعد، لكن قلة عدد المسيحيين تجعل هجرتهم واضحة، وشملت الهجرة هذه أغلبية الذين لديهم جنسية أو إقامة في إحدى الدول الغربية وكان هؤلاء يعملون في سورية بعد تحسن أوضاعها الاقتصادية قبل الأحداث، كما شملت أعداداً من الذين توفرت لديهم أموال استطاعوا بها شراء سمات دخول أوربية غير مضمونة عن طريق سماسرة ومهربين بمبالغ زادت عن 1,5م- 2 مليون ليرة سورية للفرد الواحد بوعود وهمية ( دبر راسك ) وتعرض بعضهم لعمليات نصب أو لمشقات لا حدود لها .ومن بقي منهم هم من لم تتوفر لديهم مثل هذه الأموال أو ينتظرون ظروفاً أفضل. وبالتالي فإن نسبة المسيحيين على خلفية هذه الهجرة تناقصت حتى وصلت إلى 5 – 7 % من عدد السكان بعد أن كان بين 8 – 10 %. ومن المؤكد أنه قد لا يوجد مسيحيون في مخيمات اللاجئين السوريين بالدول المجاورة اللهم إلا عدد محدود جداً .
لماذا تصاعدت هذه الهجرة وما موقف المسيحيين من الأحداث الجارية ؟ .
عندما وضعت كتابي عن هجرة المسيحيين من الوطن العربي نهاية عام 2010 والذي بعث برسالة تحذير بمخاطر هجرتهم ، كان المسيحيون في سورية يعيشون حالة من القلق والخوف من مستقبلهم بعد عمليات القتل والتهجير والتضييق على الحريات التي تعرض لها مسيحيو العراق إثر الغزو الأمريكي عام 2003 والذين كان عددهم وقتها يزيد عن المليون لم يبقى منهم سوى 300 ألف خاصة بعد تفجير كنيسة النجاة في بغداد 31 /10 / 2010 وما تلاها ،وبعدها كنيسة القديسين في الإسكندرية بمصر 31 / 12 / 2010 ، ولو أضفنا لها شعور المسيحيين كغيرهم من المواطنين بثقل الاستبداد وخضوعهم له لفترة طويلة ثم تصاعد التطرف الديني والمذهبي ، وتجارب ثورات الربيع العربي واستعجال الحركات الإسلامية بالقفز على السلطة خاصة في مصر وتونس ، وتبنيهم إيديولوجيات وفتاوى تتناقض مع مفاهيم المواطنة رافقتها أحداث مقلقة في مصر ضد الأقباط ، ثم أوضاع المسيحيين في الدول الإسلامية كتركيا (العلمانية ) وإندونيسيا وماليزيا وغيرها حيث تعرض المسيحيون لاضطهاد غير معلن وصمت دولي أدى لهجرة صامتة واسعة في صفوفهم، كل ذلك جعل المسيحيين في سورية يشعرون بأن الأمان الظاهري و الوهمي الذي اعتقدت غالبيتهم أن الأنظمة الشمولية توفره لهم لم يعد كافياً لحمايتهم وحماية مصالحهم وحياتهم وإن كان ذلك لم يفقد قسماً منهم ثقتهم بموقف النظام تجاههم .
يقع المسيحيون في سورية ضمن الطبقة المتوسطة إلى حد ما من حيث المستوى التعليمي فالغالبية الساحقة منهم متعلمون ولا تزيد نسبة الأمية بينهم عن 2 % ونسبة كبيرة حصلت على شهادات عالية ، كذلك من حيث أوضاعهم الاقتصادية والمعيشية إذ يشغلون أعمالاً مهنية ووظيفية وحرفية توفر لهم دخلاً مادياً مقبولاً فضلاً عن تحويلات المهاجرين من أسر الكثير منهم المنتشرين في الخارج مستفيدين من فرق صرف العملة على الأقل كما أن التزايد السكاني عندهم أصبحت محدودة مع تطور سبل الحياة وتعقيداتها . وعلى الصعيد السياسي فإن الغالبية الشعبية لم تمارس العمل السياسي بشكل مباشر خاصة في العقود الأربعة الماضية ، وتمسكت بالحياد السياسي ( من أخذ أمي صار عمي ) لكن ذلك لم يمنعهم من توجيه انتقادات حادة لأساليب إدارة السلطة وشخصياتها في جلساتهم الخاصة متمسكين بموقف إيديولوجي ينطلق من مقولة ( العدل أساس الملك ) ورؤية خاصة عن الحرية الشخصية والعامة لا تخضع لفتاوى أو عقبات فكرية أو دينية تعيقها أو تحد منها وكان تعبيرهم عنها يتجسد بهجرتهم الصامتة دون ضجيج . إلا أن موقف المثقفين منهم تجاوز ذلك إلى ممارسة دور بارز في العمل السياسي المباشر وتأسيس الأحزاب وقيادتها كما كان لهم دور بارز أيضاً في مواجهة الاستبداد والفساد ، والنضال الديمقراطي انسجاماً مع تطلعات المواطنين ، وتعرضوا لمضايقات وملاحقات ومشقات بسبب هذه المواقف .
منذ الأيام الأولى لانطلاق الاحتجاجات في سورية ( كما سميت حينها ) لم ينخرط المسيحيون فيها بشكل مباشر وانقسموا بمواقفهم لثلاثة أقسام. التيار الشعبي الذي عززت هذه الأحداث من جديد لديه مشاعر الخوف بأنها قد تمس مصالح المسيحيين لكن هذا التيار رغم نقده للاحتجاجات ومطالبها وتأييده المعلن للنظام إلا أنه لم يشارك بفعالية في مسيرات التأييد التي انطلقت في بداية الأحداث وبقي يتمنى أن تنجز الإصلاحات المطلوبة علها توقف هذه الاحتجاجات. على هذه الخلفية فإن المعارضة بكل فصائلها أهملت دور هذا التيار ولم تتوجه له أو تبذل أي جهد نحوه كي يشكل مركز ثقل في وقف العنف طالما انه غير مشارك فيه أو متحمس له. أما المثقفين فإن قلة منهم شاركت في التظاهرات لكن الأغلبية منهم وقفت مع ثورة الشعب وتبنت مطالبه بالحرية والكرامة ودافعت عنها كما نددت بعمليات القمع التي تعرض لها المتظاهرون ولم تستثني عمليات العنف الأخرى، وبرهنت هذه الفئة أنها أمينة لوعيها وتطلعاتها الوطنية والديمقراطية كما بقيت أمينة لتبني الحلول السياسية والسلمية التي تحافظ على وحدة سورية أرضاً وشعباً ، ورفض التدخل الخارجي . وظهرت مواقفها واضحة بمشاركتها على صفحات التواصل الاجتماعي حيث تشارك نسبة كبيرة منهم خاصة من خارج الوطن في دعم المطالب الأساسية للثورة بإقامة نظام ديمقراطي يؤسس للدولة المدنية الديمقراطية دولة المواطنة والقانون .
ويأخذ رجال الدين موقعاً مهماً في الأحداث كان هاجسهم الخوف على مصير المسيحيين خاصة بعد تصاعد العنف وكانت دعوتهم الأساسية في إطار المحافظة على السلم الأهلي وتبني مقولتين هامتين ( الدين لله والوطن للجميع ) ، ( والعدل أساس الملك ) تلك المقولة التي ظهرت واضحة في كثير من مواعظهم، ومن الخطأ القول أن رجال الدين وقفوا مع هذا الطرف أو ذاك حتى لو بدا ذلك ظاهرياً ولا يغير من هذه الحقيقة مواقف للبعض هنا وهناك .
لم يحمل المسيحيون أي سلاح ورفض الكثيرون منهم اقتناءه حتى الفردي منه ولو في إطار الدفاع عن النفس و لم يؤسسوا لهم ميليشيات أو كتائب مسلحة تزيد العنف عنفاً، وخيراً فعلوا، كما أن الكنيسة التي لم تخرج منها تظاهرات مشاركة بالثورة لم تخرج منها أيضاً تظاهرات مؤيدة للنظام ، وبهذا الموقف علها احتفظت بورقة مهمة وهي قدرتها على الدخول بالوساطة بين السوريين لإيجاد حل سياسي يخفف من الاحتقان على كل الأصعدة ينهي الأزمة .
في عام 2003 شاركنا مع غيرنا بتأسيس لجنة عملت على الدعوة لوقف هجرة المسيحيين من الوطن العربي قامت بمقابلة عدد من رجالات الدين وكان رأيهم ينطلق من أن الهجرة هي شأن شخصي يصعب التدخل فيها رغم تأييدهم لهذه الدعوة . والآن فإن هجرة المسيحيين تتصاعد، لم تعد صامتة بل أصبحت مطلب للكثيرين وهي لا تخضع لمخططات دولية أو إقليمية كما يحب البعض أن يصفها بل هي وسيلة للخلاص الفردي فرضت الأحداث تصاعدها عليهم، طالما أنهم عاجزون عن مواجهة هذه الأحداث أو المشاركة فيها بعد النهاية المأساوية التي وصلت لها، ولا اعتقد أنه باستمرار الأزمة يمكن إيجاد أية وسيلة لوقف الهجرة، صحيح أن نسبة المهاجرين أو المهجرين من المسيحيين لا تشكل إلا نسبة محدودة من المهاجرين أو المهجرين من بقية فئات الشعب السوري لكنني أعتقد أن من هاجر منهم لم يضع في حسابه العودة مجدداً. وإذا استمرت هذه الهجرة على هذا المنوال فإنه بعد 10 سنوات لن يبقى من مسيحيي سورية إلا ذكراهم .
دمشق 1 / 6 / 2013