كان استاذنا المؤرخ السوري الكبير قسطنطين زريق، اول من اطلق الاسم على المسمى في كتابه “معنى النكبة،” الصادر عام 1948، اي في سنة النكبة الكبرى نفسها. واللافت ان من اطلق التسمية لم يكن فلسطينيا، لكنه رأى بحدس المؤرخ والمناضل القومي، الآثار المدمرة التي كانت تنذر بها نكبة الفلسطينيين.
واليوم، بعد اربعة وستين عاما، نكتشف كم كانت العبارة مطابقة، لأنها تحولت الى كلمة عصيّة على الترجمة، لأنها تجسّد الطبيعة الخاصة للكارثة الكبرى التي حلّت بالشعب الفلسطيني.
لكن ما فات مؤرخنا الكبير التنبّه اليه، هو ان النكبة ليست حدثا محددا انتهى عام 1948، بل هي مسار كارثي بدأ في ذلك العام، ولم يتوقف، لأن العرب والفلسطينيين لم يمتلكوا الوعي الملائم من اجل بناء القوة التي تستطيع ايقافه عند حدّ معين.
اليوم نرى النكبة ترتسم على اجساد الأسرى الفلسطينيين في اضرابهم البطولي عن الطعام، وفي حملهم وحدهم لراية المقاومة الشعبية للنكبة التي وصلت مع انهيار اوسلو الى ذروتها الوحشية الاستيطانية المدمرة.
ذكرى النكبة ليست مناسبة لتذكّر الماضي، لا لأننا فقدنا ذاكرتنا، بل لأن الماضي لم يمض، ولأن النكبة تنحفر كل يوم على الأرض وفي الأجساد، وتعلن خزي هذا الزمن وانحطاطه، زمن يتصدر فيه الانتهازيون والتافهون المشهد، حيث لا وحدة وطنية، ولا اي بحث جدي عن افق يكسر الحلقة الاحتلالية المقفلة بالعنف والحصار والسجون.
اعتقد ان عام النكبة هذا يجب ان يدفعنا الى التفكير بوطن قسطنطين زريق، الذي كان الوطن الأول الذي دفع ثمن النكبة عبر تلك الفكرة الحمقاء التي قادت الى الانقلابات العسكرية، بحيث تم دفن سورية تحت احذية ضباط اعتقدوا انهم يستطيعون حجب النكبة بالنجوم المعلقة على اكتافهم، فصاروا اداة النكبة وسبب استمرارها، ونكبوا وطنهم بالاستبداد والقمع. فبدلا من ان تكون سورية، وهي قلب بلاد الشام ومركزها، حصنا لوقف مسار النكبة الزاحف، نُكبت سورية نفسها بالاحتلال على ايدي من ادعوا انهم تسلموا السلطة من اجل بعث مجد الأمة، وتحولت سلطتهم العسكرية الحزبية الى شكل من اشكال الاحتلال والى اداة لتدمير الدولة والمجتمع.
يستحق هذا الدمشقي الكبير ان نتذكر مدينته وبلاده في يوم النكبة.صحيح ان زريق كان احد صنّاع الفكرة العربية الحديثة، وانه قضى حياته بين دمشق وبيروت، ولم يكن ليستسيغ الانتماءات الاقليمية، لذا كان فلسطينيا بمقدار ما كان سوريا، وكان لبنانيا بمقدار ما كان فلسطينيا، لكن هذا الدمشقي الكبير كان ابن بيئته التي حلمت بالحرية والاستقلال والديموقراطية، فوضع ثقافته وعلمه في خدمة قضية التحديث وبلورة فكر قومي علماني.
اليوم نكتشف كم كان زريق مصيبا حين صكّ كلمة جديدة/قديمة تستطيع ان تحمل دلالات الكارثة، وتشير الى طريق الخروج منها. فالنكبة التي لم يكن من الممكن، في ظل عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وفي عالم عربي يحكمه مزيج القمع والخيانة منعها، كان من الممكن صدها والحد من آثارها تمهيدا للتغلب الكامل عليها.
غير ان المشرق العربي الذي اصيب بمرض الانقلابات العسكرية، اضاع البوصلة، قبل ان تأتي الهزيمة الحزيرانية لتعلن تأسيس الاستبداد المطلق، عبر خلق الديكتاتور الكاريكاتوري، الذي هو صورة مشوهة لعبدالناصر، والذي صار يحكم بالحديد والنار وجنون العظمة والنهب.
النماذج الكاريكاتورية التي فرّخت على ضفاف الهزيمة الحزيرانية من جعفر النميري الى القـــــذافي الى صــــدام حسيـــن الى الثـــنائي السادات ومبارك وصولا الى الأسدين، كانت اعــــلانا بأن ظلام النكبة سوف يطفو فوق المشرق العربي، محيلا مركز النهضة العربية الى مركز للانحطاط، حيث يســـود القتــــل والخــوف، مما سمح للاحتلال الاسرائيلي بالعربدة، وحوّل بلادنا الى ملعب للقوى الاستعمارية.
في مدينة قسطنطين زريق تدور اليوم المعركة الحاسمة الأخيرة لعصر الظلام الاستبدادي. هنا يستنبط النظام اليأس كي يزرعه من جديد، محولا آلته العسكرية، وخبرته القمعية الى اداة لنحر ما تبقى من الدولة تمهيدا لتحطيم الوطن.
فعصر الجمهوريات الوراثية الذي تهاوى في مصر وتونس وليبيا واليمن، يقاتل معركته الأخيرة في المهد الذي انطلق منه. فالنموذج الوراثي بدأ في سورية ولن ينتهي الا اذا انتهى هناك. وهو نموذج يمزج العقلية المملوكية بأساليب المافيا، ويستعير التجربة الكورية الشمالية كي يفرض ما يشبه الحجر الكامل على الناس.
في “معنى النكبة” و”معنى النكبة مجددا،” اكتشف قسطنطين زريق الخلل الذي قاد الى الهزائم. لكنه ترك لنا ان نكتشف ان حجم الكارثة التي صنعها الاستبداد عممت النكبة الفلسطينية الى كل المحيط، وان مشروع النكبويين الجدد هو ابادة كل شيء، كي يسود الخراب، الذي يسمح لهم بأن يكونوا غربان الموت واسياده.
الوف الفلسطينيين في السجون يضربون عن الطعام، وعشرات الوف السوريين في السجون والمعتقلات. انتفاضة مجهضة في فلسطين تتحفز كي تبدأ من جديد، وانتفاضة في سورية تقاوم محاولات اجهاضها بالصبر والمواجهة.
شيء يثير الأسى، لكنه يثير الغضب ايضاً. كان ادوارد سعيد يلجأ الى كلمة الغضب كي يقاوم بها يأسه من مسارات اوسلو وما بعدها. الغضب اليوم صار عاما وشاملا. شعوب تقاوم اليأس بالغضب، والموت بمواجهة الموت.
هنا يبدأ الرد على زمن النكبة، وهنا سوف يتقرر المصير العربي.
في سورية وفلسطين معركة واحدة اسمها استعادة الحق في الوجود، واستعادة الكرامة الانسانية.
الرد على زمن النكبة يبدأ من عودة الروح واستعادة الوعي. والمنعطف صعب وخطر ومليء بالمنزلقات، لكن لا بد من عبوره كي تبدأ الحياة دورتها من جديد.