تعلم بديهيات السياسة أن الذي يحسم الصراعات في الحرب والمفاوضات هو ميزان القوى . كما تعلم أن هناك علاقة جدلية بين ميزان القوى الداخلي والخارجي ، بحيث عندما يضعف الأول يتيح للثاني أن يتحكم بالأمور وفق مصالحه. هذه الحقيقة أغفلتها أو لم تدركها المعارضة السورية منذ بداية الأزمة ولم تلتزم بها رغم أنها في صلب وعيها وتوجهاتها وأدبياتها أو هكذا يجب أن تكون، فأتاحت منذ البداية للعامل الخارجي والتجاذب الدولي أن يلعب دوره في تعريب أو أقلمة و تدويل الأزمة السورية. وإذا تجاوزنا دور النظام في الدفع نحو التدخل الخارجي كي يبرر نظرية المؤامرة، إلا ان المعارضة انجرت إلى ما أراد لها النظام أن تنجر إليه وهو اللجوء للخارج لحسم الحل وتجاهلت أن لهذا الخارج مصالحه الخاصة التي قد تتناقض مع المصلحة الوطنية، فاتجه بعضها بنشاطه من خلال هذا الخارج مستدعياً تدخله أو مستجدياً دعمه، بينما اتجه بعض آخر إلى إغفال دور الكتل الشعبية التي بقيت مترددة أو صامتة، ولم تعمل على تحييدها على الأقل، وبذلك تركت الثورة الشعبية على الأرض تواجه مصيرها دون سند سياسي فاعل كانت بحاجة له. وفوق ذلك راحت تبحث في الخارج عن المكان الذي تعقد فيه مؤتمراتها وهي تعلم (أن من يأكل من خبز السلطان سيضرب بسيفه)، ونظرت للمؤتمرات التي تعقد في الداخل نظرة غير ودية فيها بعض التوجس والتشكيك، مثل مؤتمر السمير أميس، أو حتى المؤتمر العام لهيئة التنسيق الوطنية للتغيير الديمقراطي الذي لم يسلم من هذا التشكيك، بل واتهمت أو أي مؤتمر أو لقاء يعقد في الداخل ولا يتعرض له النظام بأنه تحت سقفه، وتخوين القائمين به دون أن يشفع لهم تاريخهم النضالي والطويل في المعارضة، مع أن الثقة يجب أن تكون العامل الهام في مثل هذه التجارب، والغريب أن تلجأ المعارضة نفسها لدعوة أغلب هؤلاء للمشاركة في مؤتمراتها. وهكذا ومنذ بداية الثورة انقسمت المعارضة إلى داخلية وخارجية و ترافق هذا الانقسام مع سلسلة من الاتهامات والتشكيك بين بعضها على قضايا لا يملك أي طرف وسائل التأثير فيها، ما سهل على النظام استمراره بممارسة الحل الأمني كحل وحيد للأزمة بحجة حماية البلد من (المؤامرة الخارجية) وهو يقارن بين ما جرى في العراق وما جرى في ليبيا أو في بلدان أخرى تعرضت لمشاكل مماثلة .
لقد أفرزت ألأزمة السورية خلال الأشهر الماضية قوى وفعاليات وكفاءات سياسية وفكرية، لها أهمية فائقة لا زالت المعارضة تغفلها أو تتجاهلها، ولا تدرك فعاليتها، كما تتجاهل منظمات المجتمع المدني والأهلي وكل القوى والفئات التي لا زالت مترددة أو صامتة مما يجعل المعارضة أمام هذا الواقع تسبح في تيار آخر وموضع نقد شديد، وهي لم تستطع رغم مرور أكثر من عام على المواجهة أن تتخلص من مبرراتها التي تسوقها عن تأثير سنوات الاستبداد الطويل التي ولدت عجزها وفرضت عليها هذا الواقع .
إن إدراك هذا الوضع يتطلب من المعارضة بأن تعيد النظر في آليات عملها وأن تسعى لنقل نشاطها السياسي إلى الداخل كي تعمل على تقديم الدعم المباشر للحراك الشعبي السلمي والتفاعل مع المعارضة الداخلية سواء من كان منها موجوداً أو من نشأ منها خلال الأزمة، دون تخوين أو اتهام، وأن تسعى لعقد لقاءاتها ومؤتمراتها في الداخل رغم المخاطر الكبيرة التي قد تتعرض لها .
إن قدرة المعارضة على نقل نشاطها السياسي ومؤتمراتها إلى الداخل وفي ظل ما يطرح من تسويات دولية وخاصة مبادرة كوفي عنان سيكون له تداعيات إيجابية كبيرة على مجمل الثورة السورية فهي .
- ستعزز المكانة السياسية للحراك الشعبي السلمي على الأرض وتجنبه الانزلاق نحو العسكرة وما تحمله من مخاطر على الوطن والشعب . ويمنحها الثقة بالنفس لأنه هو الذي سيحدد مسار العمل السياسي وينقذ البلد من الكوارث المحتملة وليس العكس .
- سيجعلها تتلمس ما نشأ في المجتمع من قوى معارضة فعالة تعمل معها بدل أن تدور حولها .
- سيعيد الأزمة السورية من التدويل والتجاذب الدولي الذي لا يهدد مستقبل النظام بل مستقبل سورية برمته ، ويعيد هذه الأزمة إلى إطارها الشعبي الذي يسعى الشعب من خلالها تحقيق مطالبه المشروعة ويجعل من مواقف القوى الخارجية مهما كانت طبيعتها مجرد سنداً داعماً وليس اللاعب الرئيسي فيها .
- سيمنحها الشرعية الحقيقية على الأرض سياسياً وشعبياً، شرعية نابعة من اعتراف الشعب بها بدل الاعتراف الدولي .
- سيخفف من الضغوط التي تمارسها القوى والدول الخارجية التي لها مصلحة في استمرار الأزمة على هذه المعارضة، تحقيقاً لمصالحها .
- يلغي حملة التخوين والهجوم بين بعضها البعض بسبب هذا الموقف أو ذاك في الوقت الذي عجزت حتى الآن عن تحقيق مواقف مؤثرة وفعالة، وسيعزز بشكل واضح من هي القوى التي تمتلك وجوداً فاعلاً على الأرض.
- سيحقق التواصل والحوار بين بعضها البعض من جهة وبين قوى المجتمع الأخرى، كما سيعزز الاتفاق فيما بينها على أهدافها دون وسطاء أو ضغوط خارجية .
لا شك أن هناك قوى وأفراد عديدة لا تستطيع القدوم إلى سورية والعمل من الداخل أو المشاركة في المؤتمرات المزمعة بسبب الملاحقات الأمنية، لكن من البديهي أن يكون لهذه القوى تواجد يمثلها على الأرض ويحل محلها وإلا لماذا تعارض وبمن؟ وبالقدر الذي يوجد بين هؤلاء من لا يستطيع القدوم أو سيحتاج لضمانات، فإن هناك في الداخل عناصر لا تستطيع الخروج من الداخل إذا ما دعيت للمشاركة في مؤتمرات الخارج بسبب منع السفر وقد تحتاج عودتها أيضاً لمثل هذه الضمانات .
ومع احترامنا الشديد فإنه من السهل على المعارضة أن تتحرك وتتحدث بحرية في الخارج لكن تأثيرها سيبقى محدوداً طالما ليس له مفاعيل على الأرض، ولا يكفي للمعارضة أي كان نوعها أن تقول أنها تمتلك هذا القدر من القوة والفاعلية طالما أن القوى الخارجية لا زالت حتى الآن هي التي تتحكم بالأزمة وتقرر مسارها ومستقبلها، لكن إعادة بناء ميزان قوى لصالح الداخل سيعيد الأزمة لصالح الثورة من جديد ويسحب بساط التأثير الخارجي .