تشكل الطائفية كإيديولوجية، أو نزعة فكرية في وسط ديني، ظاهرة نفسية واجتماعية وسياسية الهدف منها إضافة لتقوقعها وانعزالها، شحن نفوس طائفة ما لكراهية طائفة أخرى بتشويه صورتها أو بث شائعات تفضي إلى هذه الكراهية .
الطوائف موجودة في جميع الأديان والمجتمعات وكثير منها لا تحكمها النزعة الطائفية، تلك النزعة التي تنمي روح الانعزالية العصبية وتحل النزعة العنصرية المنطوية محل اندماجها في هذا الدين أو ذاك وتعزز ولاء أفرادها لهذه النزعة بتخليهم عن الجماعات الأخرى سواء كانت متقاربة منها أو متباعدة. أما على الصعيد النفسي الاجتماعي فقد ظهرت الطائفية في سياقها التاريخي بأنها تقف في مواجهة التطور الطبيعي المنفتح لهذه الجماعات، هذا الانفتاح الذي يمنحها الاندماج في مجتمعاتها والتواصل معها لتطور الحالة السياسية الاجتماعية التي تخدم مجتمعها وترفع من شأنه .
لقد أثبت الواقع العام أن الطائفة كلما كانت كبيرة في عددها تصبح أكثر قابلية لتعدد الآراء والاتجاهات فيها وتتيح لهذه الآراء فرصة المنافسة والصراع في داخلها وتفسح مجالاً أوسع للحوار والمناقشة ، كما تسمح بتداول المسؤوليات وتفتح مجالاً للتقدم والنهضة. لقد أكدت نشرة الثورة العربية، اللسان المركزي لحزب العمال الثوري العربي على هذه القضية بالقول ” إن مسألة التقدم العربي تصبح أقل صعوبة بقدر ما تتجاوز النخبة الأكثرية وعيها الطائفي إلى وعي ديمقراطي بخاصة في حالة أمة تعاني نقصاً في الاندماج القومي ” ( العدد كانون أول 1976 ). بينما تميل الطائفة الصغيرة التي لا يصل وعي نخبتها إلى مستوى الوعي الديمقراطي وتنزع للطائفية لأن تتحول إلى طبقة مغلقة يحكمها النزوع الطائفي المبني على الخوف والقلق ، فتعمل على ( حماية نفسها ) ، وهذا ما يجعلها تسعى إلى نقض حق التساوي واستلاب الحكم كلما توفر لها ذلك ، كما أنها تسعى لمنع تكافل وطني اجتماعي يصبو إلى مجتمع متعاضد متكاتف أساسه الوطنية المتماسكة والاندماج القومي .
كي تمارس الطائفية نزوعها لا بد أن تستند إلى أمرين .
الأول. ضربها عرض الحائط لسلطة القانون وفرض قوانينها الخاصة التي تخدم توجهاتها ومصالحها حتى لو جاءت على حساب مصالح الآخرين.
والثاني . تعميم هذا النزوع في أوساط الطائفة نفسها ، لزرع الخوف في صفوفها بحيث تصور لهم أنهم في مرمى هجوم الآخرين ومخاطرهم ، حتى لو لم تكن هذه المخاطر موجودة أو حتى لو لم يكن هذا الآخر موجود أصلاً . وبالتالي فهي بشكل أو بآخر تضع نفسها كطائفة وأفراد في مواجهة المصلحة العامة لمجموع الشعب من خلال فرض نمط معين للسلوك والانتماء الذي يتجاوز الانتماء الوطني ويرتكز على الانتماء الطائفي ويعزز الولاء له.
لقد ارتبطت النزعات الطائفية بالمراحل التاريخية التي أنتجت الطوائف وارتهنت لها فتحكمت في أخلاقها الاجتماعية والسياسية ، كما حصل في موضوع الإمامة والخلافة بين الشيعة والسنة عند المسلمين ، والعقل والروح ( العلم والدين ) عند الأرثودوكس والكاثوليك والبروتستانت عند المسيحيين . ( حسب كاظم شبيب – مسار الأخبار 12 نيسان 2010 .
لكن هذا المزاج الطائفي يمكن أن ينزع للخروج من الواقع الأقلوي وينطوي على عنصر تمردي وديمقراطي ، وهذا ما يفسر وفرة العناصر التقدمية والثورية القادمة من صفوف الأقليات ، ( وفق نشرة الثورة العربية الوارد ذكرها سابقاً ) ، لكن طبيعة دور طائفي خاصة للأقليات الطائفية ( سلبي أو إيجابي ديمقراطي أو رجعي ) يتحدد على ضوء عاملين ، الأول مستوى التطور الإيديولوجي والثقافي والاجتماعي الذي أصابته هذه الطائفة ونخبتها ، والثاني . مدى اندراج منظورات هذه النخبة في التحرر والتقدم في منظورات قومية شاملة تعانق أهداف الأمة ككل وخاصة الأكثرية .
تمركزت الطوائف في الشرق عموماً منذ بدء الاختلافات الدينية لما لهذا الشرق من تأثير بوجود الميثيولوجيات الفكرية وخاصة في المجتمعات الزراعية ومنها المجتمعات العربية ، لذا فهي غير مرتبطة بالأديان بل بالنزعات الدينية البعيدة عموماً عن المباديء الدينية الأساسية . لقد حاولت المسيحية في نشأتها الأولى خلق مجتمعات إنسانية متسامحة قبل أن تنقسم إلى طوائف متناحرة بسبب سيادة النزعات الطائفية واستمرت عقود عدة قبل أن تصل لتسويات تاريخية متعايشة ، بينما استطاع الإسلام في عهدي الرسول الكريم والخلفاء الراشدين إلى توحيد الجزيرة العربية في مجتمع ديني موحد توحدت فيه قوانين الجماعات والقبائل وتساوت فيما بينها دون النظر لمناحي النسب او للغنى والفقر التي كانت سائدة واستطاع هذا الدين وفق هذه المبادئ أن ينتشر في بقاع واسعة من العالم وينشر أفكاره السمحة التي استندت أيضاً إلى مبدأ ” لا إكراه في الدين ” لكنه فيما بعد تلقى ضربات كبيرة من قبل الشعوبيين والتكوينات القومية أو العرقية التي لم تعتنق الإسلام كقناعة بهذه المبادئ بل لمآرب سياسية كرست النزعات الطائفية والعرقية و أدت لتفكك الدولة العربية لملل ونحل أدى بها وعيها ووضعها السياسي والاجتماعي إلى الانزلاق نحو النزعات المختلفة ومنها النزوع الطائفي كي تفصل لها ممالك وإمارات تتناسب ومقاسها .
لا يمكننا أيضاً أن نتجاهل الحروب الصليبية وهمجية المغول والتتار في تعزيز هذا النزوع في الأوساط المسيحية من خلال الاضطهاد الذي عانته الطوائف المسيحية في الشرق ، أو في الأوساط الإسلامية لما عانته طوائفه من تلك الهمجيات . لكن هناك عامل آخر وهو أن هذه المجتمعات لم تستطع أن تهجر نمطها الرعوي الزراعي إلى النمط الصناعي كما حصل في أوربا التي عانت طويلاً من الحروب الطائفية ، أو تؤسس لمبادئ وقيم تعزز حقوق الإنسان والديمقراطية وتكرس السياسة المشرعة للقانون وحقوق المواطن . أو تعطي الأكثرية والأقلية مفهومها السياسي بل بقي مفهوم القرية سائداً على مفهوم المدينة التي تسمح باستيعاب هذه المبادئ.
لقد برزت الظاهرة الطائفية واضحة في البلدان العربية من خلال التجمعات السكانية حتى في ( المدن الكبيرة ) إن افترضنا وجودها ، حيث تتجمع كل طائفة في واحدة من هذه التجمعات وتنعزل عن التجمعات الأخرى ، وكان هذا الانعزال سبباً هاماً في نقص الاندماج المجتمعي بعد أن أبقى هذه الطوائف تعيش هاجس أقليتها وخوفها الذي لم يكن ليبرره أي سبب قبل أن يجعل الاستبداد منه وسيلة لاستغلال هذا الخوف وتكريس مفاهيم الطائفية ليجعل منه وسيلة لمصادرة المجتمع والهيمنة عليه من خلال سياسة ( فرق تسد ) وكانت الطائفية إحدى أفضل الوسائل التي ساهمت فيها كمحاولة منها لتعزيز وجودها وفرض مصالحها بعد أن منحت الأنظمة بعضاً من متنفذيها مكاسب جزئية مالية أو معنوية لم تحصل منها الطائفة على شيء ذلك لأن للاستبداد مصالحه الخاصة التي لا تهمه فيها مصلحة الآخرين ؟
قلما تظهر النزعة الطائفية في مجتمع تسوده الديمقراطية وحكم القانون ، و على سبيل المثال ، تمثل سورية إحدى أهم الأمثلة على هذه الحقيقة وهناك مصر والعراق ودول عديدة أيضا ، إن عودة للنموذج السوري في الأعوام 1955 – 1958 يؤكد هذه الحقيقة ، لقد كانت سورية في تلك الفترة دولة ديمقراطية تحكمها مؤسسات مدنية ويسود فيها حكم القانون وتتنافس فيها أحزاب سياسية وحدها جسدت مفهوم الأكثرية والأقلية حيث يضم الحزب الواحد في صفوفه عناصر وأعضاء من جميع الديانات والطوائف والقوميات يجمعها الفكر النهضوي الحر وليس الفكر الطائفي وهذا ما جعلها تحقق مجتمعا موحداً قوياً قبل أن يسقطه الاستبداد ، بل مكنها من التحرر من الاستعمار وإسقاط مشاريعه كمشروع أيزنهاور وحلف بغداد ومكنها من مساندة مصر في مواجهة العدوان الثلاثي عام 1956 ، مثلها أيضاً العراق ومصر حتى في العهدين الملكيين . تلك حقيقة لم نكن ندركها أو نتجاهلها ونلعنها .
لم يحصل في سورية منذ بداية القرن العشرين أزمات طائفية رغم بعض الحوادث هنا وهناك ، ولا نعتقد أنها مهيأة لمثل هذه الأزمات إذا سارت بالطريق الديمقراطي مهما حاولت القوى المعادية جرها إلى هذا المنزلق .
دمشق 22 / 10 / 2012