في بداية الثمانينات، أخذت قلمي وبدأت أكتب عن الإسلام باللغة الفرنسية. كتبت كتابا” عنونته ” السلطة الإسلامية اليوم وغدا””. لم أنشر هذا الكتاب ولكن وضعت مؤخرا” نسخة منه بأربعة أجزاء على صفحتي الحديثة على فيسبوك “Dr. Toufic Hindi”، إبتداء من 15 تموز 2010.
أردت أن يشكل هذا الكتاب مقاربة معمقة لفهم الإسلام عموما”، خاصة وأن الأنظمة التي حكمت الدول التي أنشئت بعد تفكك السلطنة العثمانية ونهاية الخلافة الإسلامية، لم تتمكن من التحرر من “الغرب الإستعماري” وفيما بعد، فشلت في عملية تحرير فلسطين والسير على طريق التقدم والوحدة، كما لم تتمكن من الإنسياب في حركة تدخل العالمين العربي والإسلامي في الحداثة دون أن يفقدا شخصيتهما المميزة. ومع الظهور التدريجي لفشل هذه الأنظمة وتحولها إلى ديكتاتوريات وراثية فاسدة وظالمة، إزداد حراك وفعالية القوى والتتظيمات الإسلامية على تنوعها، من الإخوان المسلمين بألوانهم المتعددة إلى السلفيين التبشيرين أو التنظيميين أو التكفيرين أو الجهاديين…، طارحين فكرة أساسية : الإسلام هو الحل. وقد ترافق تصاعد هذا الحراك مع رفض لمفاهيم القومية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة… تلك المفاهيم التي إعتبرها الإسلاميون آنذاك غريبة عن حضارتهم وغربية المشأ، لا بل مدمرة للإسلام، دينا” وحضارة” ونظاما” كليا” في صراعه التاريخي الحضاري المرير مع الغرب المسيحي والمستعمر.
وقد كتبت هذا الكتاب إستنادا” إلى معرفة نابعة من تجربة سياسية دامت من سنة 1968 إلى بداية سنة 1977 في ما يمكن تسميته اليسار القومي. وكان لتجربتي هذه خصوصية أني خضتها “من فوق ومن تحت”، بالعمل الفكري والممارسة العملية في صفوف الشعب في آن معا”. فتسنى لي أن أتعرف على نظريات الأرسوزي وساطع الحصري وميشال عفلق وكارل ماركس ولينين وماو تسي تونغ، ولم يكن يزعجني قول عفلق “أن العروبة هو جسد روحه الإسلام”. ووضعت مع رفيق لي كتاب هام عنوانه “موضوعات الثورة العربية”، ولأن هذه المرحلة كانت زاخرة بالتطورات الدراماتيكية، تكثفت وتعمقت معرفتي بالواقع نتيجة سرعة التطورات، كثافتها وقصاوتها.
وهكذا، إختبرت المسلمين، سنة وشيعة، وراكمت المعرفة النظرية كما تلك النابعة من الممارسة العملية، ولكن حتى ذلك الحين، لم أصل إلى إعتبار نفسي عالما” في الإسلام (islamologue )، غير أنني إكتسبت في هذه المرحلة القدرة على فهمه بالعمق في مرحلة لاحقة.
وأتت الثورة الخمينية في إيران محدثة زلزالا” في العالمين الإسلامي والعربي، وقد رأيت بعض رفاق الأمس يدخلون التنظيمات ذات الطابع الديني والمذهبي والبعض المسيحي منهم يعتنق الدين الإسلامي. فأثارت هذه الظاهرة فضولي، فقررت أن أنكب على دراسة الإسلام، فأقمت بعض جلسات الحوار مع بعض الشيوخ المتنورين، أذكر منهم الشيخ عبد الله العليلي، رحمه الله. كما قرأت بعض كتب المرجع الأعلى الخوئي وبعض كتب الإمام الخميني حيث تعرفت على نظرية “ولاية الفقيه”، وكتب غيرهم من علماء المسلميين الأجلاء، وتعمقت بالعلوم الإسلامية عبر قراءة بعض المؤلفات القيمة لعلماء غربيين في الإسلام. بعد ذلك، أردت أن أركز وأمنطق معرفتي بالإسلام فكتبت كتاب “السلطة الإسلامية اليوم وغدا”.
في هذا الكتاب، أعرف الإسلام، والشريعة الإسلامية ومصادر التشريع والمذاهب الإسلامية وولاية الفقيه ونشأة الإسلام وتاريخه، وتحديد عوامل صعود الحركات الإسلامية المتشددة وتأثيرها على إستقرار المنطقة والعالم، كما أتحدث عن دور الجوامع وعن صدام الحضارات (إستعملت هذا التعبير قبل هنتيغتون)…وأقول بما معناه أن الإسلام دين ودنيا، نظام كلي ينظم علاقة الإنسان بربه كما علاقة الإنسان بالإنسان، وأن فكرة “الوحدانية” أكثر من أساسية في الإسلام: فالله واحد لا شريك له، والإسلام هو في آن واحد دين وفلسفة حياة ونظام سياسي وإقتصادي وإجتماعي، لا فصل بين هذه المجالات المختلفة بل ثمة إندماج كامل فيما بينها، والإسلام منتظم في شريعة وقوانين، وبفرادته هذه، له مفاهيمه وقيمه الإنسانية والسياسية… الخاصة به، وبالتالي يصعب عليه التأقلم مع القيم الإنسانية والسياسية (حرية، ديمقراطية، حقوق الإنسان،…) التي باتت معتمدة اليوم في غالبية المجتمعات على تعدد ثقافتها وأديانها.
غير أن الثورة المستمرة في تكنولوجيا الإتصالات والمواصلات بشكل خاص، والعولمة بشكل عام، أحدثت تطورا” في مقاربات بعض الجماعات الإسلامية، تبلورت بالإسلام التركي الحديث الديمقراطي اللاعنفي والإسلام التونسي وظواهر الحداثة في قطر ودبي وعمان و..،..
من ناحية أخرى، يمكن القول أن الجماعات الإسلامية العنفية هي نتاج للأنظمة القمعية التي أتت بها الإنقلابات العسكرية في الخمسينات والستينات والسبعينات.
ومع بروز التيارات الإسلامية المتنوعة كقوى مهمة في الربيع العربي ونجاحها في إنتخابات ديمقراطية حرة، إعتبرت في حينه أنه ثمة ثلاثة معايير تسمح بتحديد إذا كانت منظمة إسلامية متنورة منفتحة تفهم الإسلام بطريقة معاصرة تتلاقى مع القيم والأنظمة السياسية والمجتمعية والإنسانية العالمية التي باتت كافة حضارات العالم تعتمدها، أعني مفاهيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان… ، هي:
أولا”، عدم فرض الشريعة الإسلامية كأحد مصادر التشريع أو مصدره الرئيسي أو الوحيد.
ثانيا”، إعتبار نظام “أهل الذمة” من أحكام الإسلام الظرفية وليس من صلب الشريعة الإسلامية.
ثالثا”، عدم فرض الدولة مظاهر وقواعد “الحياة الإسلامية” في الإجتماع والإقتصاد كما في العادات الفردية (حجاب، بيع وأحتساء الخمرة، الإختلاط بين الرجل والمرأة، …)، بل إعتبارها خيارا” فرديا” لكل مواكن مسلما” كان أو غير مسلم.
وبتاريخ 20 حزيران 2010 صدرت وثيقة الأزهر حول مستقبل مصر وأستعاد الأزهر مكانته الأساسية كمرجع أعلى للإسلام في مصر ومنها إلى العالمين العربي والإسلامي. وطرحت الوثيقة ثوابت ومبادئ يمكن إعتبارها تأسيسية لدولة مدنية في مصر، ومما جاء في خاتمة الوثيقة ما يلي:
“اعتبار الأزهر الشريف هو الجهة المختصة التي يُرجع إليها في شؤون الإسلام وعلومه وتراثه واجتهاداته الفقهية والفكرية الحديثة ، مع عدم مصادرة حق الجميع في إبداء الرأي متى تحققت فيه الشروط العلمية اللازمة، وبشرط الالتزام بآداب الحوار، واحترام ما توافق عليه علماء الأمة.”
وبتاريخ 10 كانون الثاني 2011، أعلنت وثيقة الأزهر حول الحريات الأساسية لتحدد بشكل رائع موقف الإسلام من حرية العقيدة وحرية الرأي والتعبير وحرية البحث العلمي وحرية الإبداع الأدبي والفني.
فهذه الوثيقة الصادرة من أكبر مرجع إسلامي تبرز حقيقة أن الإسلام يمكنه التخلي عن “فرادته” بالمعنى السلبي للكلمة، أي عدم تقبله من حيث أنه “دين ودولة”، لملاقات المفاهيم والمسلمات الحضارية المعاصرة (حرية، ديمقراطية، حق الإختلاف، حقوق الإنسان، الأولوية لحرية الإنسان كفرد وصيانة كرامته، وإحترام الآخر المختلف جماعات وأفراد، التسامح الديني خارج إطار الذمية…) التي باتت معتمدة في غالبية المجتمعات في عصر العولمة.
إن هذه الوثيقة فائقة الأهمية لما لها من تأثير على مسار المجتمعات العربية في حراكها الثوري: إنها تنير الطريق وتحدد طبيعة المجتمع والنظام السياسي التي يجب أن ينحو إليه الربيع العربي. إنها نقلة نوعية في مسار الدين الإسلامي تخرج من دائرة الإسلام الحركات الإسلامية العنفية والظلامية التي شوهت الدين الحنيف. الوثيقة فائقة الأهمية لما لها من تأثير على مسار المجتمعات العربية في حركتها الثورية: إنها تنير الطريق وتحدد طبيعة المجتمع والنظام السياسي التي يجب أن ينحو إليه الربيع العربي.
أحث الجميع على قراءة و”درسة” هذه الوثيقة. إنها نقلة نوعية في مسار الدين الإسلامي تضع حدا” فاصلا” لكل الحركات الإسلامية الظلامية التي شوهت الين الحنيف.
آمل بأن تكون تعليقاتكم على الوثيقة كثيرة وعميقة ! الوثيقة فائقة الأهمية لما لها من تأثير على مسار المجتمعات العربية في حركتها الثورية: إنها تنير الطريق وتحدد طبيعة المجتمع والنظام السياسي التي يجب أن ينحو إليه الربيع العربي.
أحث الجميع على قراءة و”درسة” هذه الوثيقة. إنها نقلة نوعية في مسار الدين الإسلامي تضع حدا” فاصلا” لكل الحركات الإسلامية الظلامية التي شوهت الين الحنيف.
آمل بأن تكون تعليقاتكم على الوثيقة كثيرة وعميقة !
وبالختام، أقول أن للربيع العربي ثلاثة أوجه: أولا”، الحرية والديمقراطية، ثانيا”، محاربة الفساد وتحقيق العدالة الإجتماعية، وثالثا”، دخول الإسلام في عصر الأنوار بالمحافظة على أصالته.
إذن، الربيع العربي هو عملية سياسية في غاية العمق ومحتواها الأساسي تحرري وتحديثي والمهم أن يعي الجميع أنه لا يمكن إيقاف هذه العملية وبالتالي يتوجب على الفاعلين داخل الجماعات الأقلوية في العالم العربي، ولا سيما المسيحيين منهم، أن لا يبثوا روح الريبة والخوف والقلق لدى جماهيرهم وصولا” إلى تخويفهم من الحركات الإسلامية دون أي تمييز فيما بينها، بل يتوجب عليهم إتخاذ موقف إيجابي من الربيع العربي على أن يكون عقلانيا”، حذرا” ومحذرا” من أية إنزلاقات قد تحدث في مسار هذه العملية المعقدة والمحفوفة بمخاطر عدة.
كلامي هذا ليس شعرا”. وأظن أن الثورات في عصرنا، عصر السرعة والتواصل، لن تأخذ عشرات السنيين لكي تستقر، بل بضعة سنوات معدودة، وقد تسلك هذه الثورات مسارات متعرجة قبل أن تستقر .
لكل هذه الأسباب يبدو لي أن الأهم في هذه المرحلة البناء على خطوة الأزهر الجبارة كحجر زاوية لمسيرة الإسلام المتجدد، وذلك من خلال إجماع أئمة وعلماء الدين من كافة المذاهب الإسلامية على وثيقتي الأزهر، إذ أن الإجماع هو أحد مصادر التشريع في الإسلام.
ولربما أن دولة قطر ذات التأثير والدور الكبيرين والتي تحتضن وترعى أعلم أئممة المسلمين وأفعلهم، هي بموقع يسمح لها بإتخاذ المبادرة لتحقيق الإجماع الضروري لإنبعاث إسلام القرن الواحد والعشرين! عسى أن تفعل!