لا يكاد يمر أسبوع إلاّ ونشهد أحد احتفالين أو الاحتفالين معا: احتفال بالحملة على الإسلام المتشدد والتكفيري والإرهابي، واحتفالٌ آخر بمفكر «تنويري» عربي ما ترك على جسد الإسلام الظلامي والتكفيري لحما ولا شحما. وهذه التنويرية ما حدثت الآن، بل إنها مستمرةٌ منذ ثلاثين أو أربعين عاما! ولو تأملْنا دخائل هذه الحملات الإدانية للموروث أو الأُصولية الجديدة، والأخرى الثنائية على عظمة التنويرية والتنوير، لوجدْنا عجبا دون الاضطرار لانتظار حضور رجب!
لنبدأ بفحص الحملات على الإسلام، تحت عنوان مكافحة التشدد والإرهاب. إنّ معظم الحاملين عليهما لا يتعاطون مع تصرفات هؤلاء وأولئك إلاّ في خاتمة مقالاتهم أو بحوثهم العلمية العميقة جدا. أمّا جوهر هذه الأُطروحات الضخمة، فهو الحملةُ على إسلام العصر الوسيط، أو الأرثوذكسية السنية، أو التقليد الأسود والجامد، أو بصراحة الإسلام السني. وهذا الفنُّ أو الأدب الإداني يزدهر الآن. أمّا أبوه الشرعي فهو الراحل محمد أركون. فقد أراد أولا تحطيم كل الأرثوذكسيات لأنها حجبت عنا القرآن والإسلام الأول. ثم قرر أنّ المهمة التحريرية تنقضي أو تتحقق بضرب الأرثوذكسية السنية، كما قال. أما الأرثوذكسية أو الأرثوذكسيات الأخرى المسيحية أو الشيعية فيجب تحطيمها أيضا، لكنّ المهمة معها أسَهل، ثم إن فيها باطنية وفيها خيالات وأساطير زاهية تبعث على البهجة، وليست حروفيةً نصوصيةً قاتمة مثلما هي عند السنة. وفي النهاية فإنّ الأصوليات الإسلامية الحاضرة تستند إلى تلك الأرثوذكسية القديمة لا غير. وقد ذكرتُ له في أواسط الثمانينات أنه لا علاقة حقيقية بين التقليد الإسلامي القديم، والإحيائيات الحاضرة، وإنما هو انتماءٌ رمزي وتأويل تأصيلي. وهناك فرقٌ كبيرٌ بين الاستمرارية التي يقتضيها التقليد، وبين التأصيل الذي تلجأ إليه حركةٌ جديدةٌ للشرعنة والتسويغ: فكيف تقول يا رجل بالاستمرارية، وأنت من أتباع قطائع فوكو، وبنيويات فلان وعِلاّن؟ وبالفعل فقد سارع الرجل إلى وضع كتاب باسم: استحالة التأصيل! ثم ما لبث أن نسي كلَّ شيء، ولجأ هو وتلامذته حتى اليوم (توفي أركون عام 2010) إلى تصفية حساباتهم مع الإسلام السني القديم (من القرآن وإلى محمد عبده) بحجتين: التقليد المتجمد، والأُصوليات القائمة اليوم على ذلك التقليد. ومن هؤلاء على سبيل المثال عبد المجيد الشرفي، الذي نشر كتابا قبل ثلاثة شهور لمناقضة الإسلام السياسي، وإذا به يزعم أنّ الإسلام السياسي فاسد لأنه يستند إلى التقليد الفاسد، والتقليد (في الفقه والتفسير) فاسد في فهمه للقرآن، ثم إنّ القرآن والسنة فيهما وفيهما، ففي النهاية: الكل فاسد! وظهر لدينا أيضا قبل الثورات وبعدها فريقٌ تنويري يريد اجتراح إصلاح ديني، يشبه تماما ما فعله الأوروبيون مع تراثهم الديني في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ولذلك انصرف عشراتٌ من هؤلاء لاصطناع قراءات تنويرية وتحريرية للقرآن والسنة، والتيارات الفكرية والدينية السلفية والأشعرية، والخروج بعد كتبٍ ممتدةٍ، إلى أنهم تمكنوا من تحطيم الإسلام السني. وكانوا في زمن العسكريين والأمنيين الطويل، يحصلون على جوائز منهم بسبب العقلانية التي اشتهر بها حافظ الأسد وبشار الأسد ومعمر القذافي. وهم يجدون اليوم وسط المخاضات الفظيعة التي دخل فيها الجهاديون الحزبيون فُرَصا جمةً للإشادة من جديد بالتنوير الذي عليه الأسد وصدّام قبله، وإيرانيو الخامنئي ونصر الله من بعد (!)
ولا يظنّنّ قارئٌ أنني أصطنع هذا النقاش للاستطراف والاستظراف. فبين يدي 17 كتابا كلّها صادرة بعد عام 2010 همُّها تحرير العرب والمسلمين من الإسلام السني على وجه الخصوص، بحجة صدور الجهاديين والإخوان منه وعنه. ويصارحك البعض الآخر بالانحياز إلى الأصولية الشيعية تارةً بحجة المقاومة، وطورا بأنّ الدين الشيعي متحرر أكثر من السني. وعندي أربعة كتب واحدٌ منها يربط آشور بانيبال بحسن نصر الله في معمعة القصير، والإسلام السياسي السني والعربي بجيفري فيلتمان، وثالث يركّز على العلائق الدينية الوثيقة بين الاثني عشرية والعلويين، ورابع يعتبر أنّ القومية العربية هي صناعة الأقليات الشيعية والعلوية والمسيحية، وعندما دخلتها الأكثرية فسدت؛ ولذلك لجأ القوميون السابقون واليساريون، ويلجأون، إلى «تحالف الأقليات» الذي يناضل باسمه اليوم حسن نصر الله والقوميون السوريون! أمّا الكتب الأُخرى (الأكثر جدية!) فتدخل في أبواب التحرير والتنوير والتطهير وضدَّ الإسلام السني فقط! ومن الفظائع التي روَّجها حسن نصر الله عندما أراده الخامنئي على الذهاب إلى سوريا لمقاتلة الشعب السوري لصالح بشار الأسد وإيران، زعمه أنّ خصومه هم التكفيريون، أي المسلمون السنة، إذ كيف سيفرّق مدفعُهُ بين من يكفّر الشيعة ومن لا يكفّرهم (!) ولستُ آخُذُ ذلك عليه فقد فعل دائما ما هو بهذه المثابة أو أفظع؛ بل الفظيع أنّ وسائل الإعلام العربية (والمصرية على وجه الخصوص) صارت تُسمّي كلَّ الداخلين في الأعمال الإرهابية: تكفيريين، في سيناء وغيرها! وهذا الأمر كمن يتهم نفسه ودينه. بل القتلة في سيناء وغير سيناء هم انتحاريون وإرهابيون ومُحاربون (كما سمّاهم القرآن)، ولا داعي لاستخدام مصطلحاتٍ ابتدعها غيرنا لإدانتنا. وها هو الخامنئي والمالكي والآخرون من ذاك المعسكر يعرضون على الأميركيين والدوليين القتال معهم ضد الإرهاب (السني بالطبع)، وهم يتقربون إليهم بأنهم يقومون بذلك في العراق وسوريا ولبنان واليمن وأفغانستان!
هناك إذن مخاضٌ عظيم بداخل الإسلام. وقد دخلت فيه ضدَّ الدين فئتان: فئة باسم التنوير والتحرير، وفئة باسم الإسلام الشيعي ضد الإسلام السني. وإذا كان الإيرانيون وأتباعهم يفعلون ذلك من أجل مصالح عاجلة دونما تفكيرٍ بالعواقب، فلستُ أدري ما هي مصلحةُ الكاتبين العرب في الحملة على الدين بحجة الإصلاح، وقد كان بوسعهم إذا شاءوا أن يكافحوا الأصوليات والشموليات مباشرةً، ودونما حاجة لإثبات «سنية» هؤلاء أولا، ثم الحملة على أهل السنة منذ كانوا، وهم اليوم 90 في المائة من المسلمين في العالم!
ثم إنّ هؤلاء يقرنون تحرريتهم تجاه الإسلام السني، وإرادتهم الخلاص منه؛ بالانتصار للإيرانيين ولتنظيماتهم المسلَّحة، وحلفائهم الطائفيين في العراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين. ولستُ أدري ما العلاقة بين انزعاج جورج طرابيشي مثلا من الأرثوذكسية وأهل الحديث في القديم، وتأييده لبشار الأسد، وانزعاجه من فظائع الأصوليين، وعدم انزعاجه من بشار وفظائعه؛ وهو وأدونيس وعزيز العظمة وأشباههم! كل المعارضين الذين هم ضد مذابح بشار (بمن فيهم ميشيل كيلو المسيحي الماركسي) هم في نظر طرابيشي والعظمة: طائفيون! أما الأسد ونصر الله فهم علمانيون تنويريون، وإلاّ فَلِمَ لم يحملوا عليهم كما حملوا على كل المعارضين لبشار بالداخل والخارج إمّا بحجة الإرهاب أو بحجة الطائفية!
لا أعرف – إلا فيما ندر- قوميا أو بعثيا أو يساريا إلاّ وهو اليوم مع بشار الأسد وخامنئي ونصر الله والمالكي. ويضاف لذلك المعسكر المصري الذي لا يمكن تصنيفه سابقا ولا لاحقا. وهذا المعسكر الكاره للعرب في مصر وسوريا ولبنان والأردن والعراق ما صار مع بشار وإيران عندما ظهر العنيفون في سوريا مثلا، بل هو منذ بداية الثورة في سوريا على هذا الموقف. وبعض هؤلاء طائفيون بالفعل – كما يحب طرابيشي أن يسمي كل خصومه الفكريين ومنهم محمد عابد الجابري – بمعنى أنهم من أصول شيعية أو علوية أو مسيحية؛ لكن منهم أُناسا من أُصول عربية سنية، وهم يتشرفون بزيارة الأسد أو أحد مسؤولي حزب الله أو يذهبون إلى طهران، دوريا. وإذا دقّقت معهم ناحوا على صدام، كأنما إيران كانت أصدق أصدقائه، أو قالوا إنهم منزعجون لتفكيك جيش الممانعة السوري، كأنما هو يتفكك في مواجهة إسرائيل وليس في مواجهة شعبه!
هناك مخاضٌ عظيمٌ يمرُّ به العرب بشرا ودينا ومجتمعاتٍ ودُوَلا. وقد قال لنا رسولُ الله صلواتُ الله وسلامُهُ عليه إنه يأتي على الناس زمانٌ يكونُ فيه القابضُ على دينه كالقابض على الجمر. إنه زمانُ القبض على جمر الدين وجمر العربية والعروبة. نعم، نحن مسؤولون ولسنا مسؤولين وحدنا: «وإنه لذكرٌ لك ولقومك وسوف تُسألون».