أثناء الحرب العالمية الثانية وبروز شخصية النازي الألماني هتلر، وإشاعته الخوف والرعب في قلوب شعوب القارة الأوروبية بعد اجتياحه لها، تنبّه ونستون تشرشل وهو الحائز على جائزة نوبل للآداب، أنّه لا بدّ من تحطيم تلك الهالة والتخفيف من سطوتها، فقام بدعوة رسّامي الكاريكاتير في الصحف البريطانية وطلب إليهم السُخرية من الفوهرر النازي عبر رسوماتهم الكاريكاتورية وتعليقاتهم، وقد نجح بهذه الطريقة النبيهة في التهكّم على أقوى طاغية وإنزاله عن عرشه المرعب.
اهتمّ جميع الطغاة في العالم، قديماً وحديثاً، بإشاعة الرعب في نفوس العامة من خلال رسم شخصية أسطورية لهم بواسطة إعلامهم، وعبر العقاب الشديد الذي يتلقاه كل من تجرّأ على الاقتراب من شخص الطاغية بالنقد أو التجريح أو السخرية، فذلك خط أحمر، قد يتسبب بقتل أو سجن أو التنكيل بكل من اقترب منه أو حاول تجاوزه.
وهنا بعض الأمثلة والدلالات على خوف الحاكم ورعبه من تهكّم وسخرية الناس أو الشعراء والفنانين من أي خطوة حمقاء يرتكبها هذا الحاكم. ففي عام 1955، أثناء إنشاء حلف بغداد المعروف لمواجهة الخطر السوفياتي، قدِم جون فوستر دالاس وزير الخارجية الأميركي لإقناع عبد الناصر بالانضمام للحلف، فبادره الأخير مستغربا: “كيف أدخل في حلف لمواجهة ما تقولونه خطر يبعد عن مصر آلاف الأميال في وقت ما زال فيه العلم البريطاني مرفوعاً على الأرض المصرية…؟”. أجابه دالاس، “المسألة بسيطة، في حين تنضم إلى الحلف، نقوم بإنزال العلم البريطاني ورفع علم الحلف مكانه”…! قال له عبد الناصر، “أتعرِف، لو أنني فعلتُ ذلك لأماتني الشعب المصري في اليوم التالي من النُكات تهكّماً وسخرية“.
ولا ننسى أن رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي الذي اغتيل، قد تلقّى العديد من التحذيرات والتهديد بالقتل من قِبل العديد من الرؤساء العرب بسبب سخريته منهم والتهكّم عليهم من خلال رسوماته الكاريكاتورية اللاذعة.
قديماً، سيّما في العصرين الأموي والعباسي، تعرّض الكثير من الشعراء والأدباء إلى التعذيب والموت الزؤام جرّاء نقدهم أو هجائهم للخلفاء. المعتزلي غيلان الدمشقي، وبعد فضحهِ لخلفاء وأمراء بني أُميّة واتهامهم بإفقار الناس وسرقة مال المسلمين ثم تقريعهم على مرأى ومسمع أحد أمرائهم هشام بن عبد الملك، قبل أن يتولى هذا الخلافة، ثم ما لبث أن أصبح هشام الخليفة بعد موت عمر بن عبد العزيز اغتيالاً بالسُم، فسارع هشام للانتقام من غيلان الدمشقي فأمر بقطع يديه ثم رجليه ثم لسانه وصلبه على أحد أسوار دمشق حتى مات.
أمّا في العصر العباسي تم قتل الأديب ابن المقفّع بعد تعذيبه والتنكيل به وتقطيع يديه ورجليه ورميه بالنار، من قِبل سفيان بن معاوية والي البصرة من قِبل المنصور. وسبب مقتله، كتاب وجّهه ابن المقفع لأبي جعفر المنصور، اعتبره المنصور تطاولاً يستحق عليه الموت.
الشاعر العباسي العكوك “علي بن جبلة”، كان الخليفة المأمون قد أمر بسلّ لسانه من قفاه بسبب بيتين من الشعر أغاظا الخليفة المأمون.
طاغية سوريا حافظ الأسد، أسّس منذ انقلابه عام 1970 نظاماً أمنياً وعسكرياً ومخابراتياً، ناشرا الرعب والخوف في قلوب الشعب السوري ومناوئيه من خلال السَجن وأقسى أنواع التعذيب السادية، واعتمد أسلوب الاغتيالات والتصفيات الجسدية لمعارضيه دون رحمة أو هوادة، بدءاً برفاقه بحزب البعث.
في العام 1980 وُجِدَ ألمع الصحفيين اللبنانيين سليم اللوزي، الذي كان يهاجم نظام الأسد عبر مقالاته مقتولاً في منطقة مهجورة، وقد أُذيبت يده اليمنى بالأسيد وغُرِست أقلام الحبر في أحشائه من المؤخّرة.
في نفس العام ولذات الأسباب، عُثر على نقيب الصحافة اللبنانية رياض طه وقد اخترقت ست رصاصات رأسه وعنقه. ولا ننسى قائمة الاغتيالات الطويلة التي نفّذها عملاء الأسد ومخابراته منذ كمال جنبلاط ورينه معوّض مروراً بـ سمير قصير وجبران التويني وجورج حاوي وسواهم، مِما يصعب حصرهم. كان هذا أسلوب حافظ الأسد ووريثه للتخلّص من كل مَن وقف في وجه طغيانهما واستبدادهما في الداخل السوري وخارجه.
مع بدء الثورة في سوريا حاول الطاغية الابن بشار الأسد أن يستخدم كل هذه التَرِكة الأمنية الإرهابية لقمع الثورة وإخمادها، جاهلاً أو مُتجاهلاً تبدّل الزمن والظروف، لكنه فوجِئ بما لم يكن بحسبانه وصُعِق من حجم الإصرار والتحدّي الذي أبداه المنتفضون عليه وعلى عصابته الشرِسة، فكان كلما بالغ بالقتل والتعذيب والقمع ازداد المتظاهرون تحدّياً وعنفواناً، وقد أذاقوه وأبيه كؤوساً مُترعة بالذل والمهانة لم يسبق أن أُلحِقت برئيس أو زعيم عبر التاريخين القديم والحديث، وأشبعوه سخرية وتهكّماً وقذعا وسباباً وهِجاء يلوذ منه الفرزدق وجرير والحطيئة. ولم يوفّروا أمّه وأباه وأخته وزوجته وعمّه وعمّته وخاله وخالته وأولادهم، ولم ينجو أحد من عائلته ومعاونيه ورموز النظام إلا وطاله نصيب. وقد أظهر السوريون ذكاءً حادّا ومواهب فذّةً في أساليب سخريتهم وتهكمهم، فحوّلوا الأغاني التراثية خدمة لتلك الأهداف، وصاغوا أغانٍ وهتافات ولافتات ومجسمّات كلّها سُخرية لاذعة لا تقوى على الصمود في سماعها ومشاهدتها الصخور البكماء، فجُنّ جنونه وارتفع منسوب السادية لديه ولدى أركان عصابته، فحاول الانتقام بأشدّ الوسائل الهمجية التي ربما تُرهب أو تردع الثائرين، فقام بالقصاص من شحرور الثورة إبراهيم القاشوش صاحب أغنية “يلا ارحل يا بشار” والتي يقول فيها، “…ويا بشار وطز فيك………” بأن حزّوا حنجرته وقتلوه. ثم حاول الانتقام من رسام الكاريكاتير الفنان علي فرزات، فقاموا بضربه وتحطيم جسده وتكسير يديه وأصابعه التي يرسم بها، لكن ردّ علي فرزات لاحقاً كان سُخرية أدهى وأمرّ من كل ما سبق، بحيث نشر كاريكاتيراً يظهر فيه بجسده ويديه المُضمضة، حاملاً ريشته بأصابع قدمه اليسرى وهو يرسم بشار الأسد.
يقول الشاعر الهندي طاغور، إن المشكلة ليست في الجهل والتخلف والفقر، إنما هي في الخوف. لقد أهال هذا الشعب السوري الصابر العنيد العظيم جدار الخوف والرعب وأسقطه بضربة فنّية قاضية على أصحابه الذين شيّدوه على مدى نصف قرن، فكانت هذي أسطورة الثورة ومعجزتها الحقيقية. لقد تمّ إسقاط تلك الهالة والعظمة التي كان يدّعيها نظام الأسد وسحقوا هيبته وعنجهيته ومرّغوها بالسُخام وأراقوا ماء وجه الطاغية وعصابته قبل أن يريقوا دَمَه.
الجولان السوري المحتل