العـقـل واللاعـقـل والسيـاسـة العربـية بقلم بهنان يامين

لم يكن ياسين الحافظ على خطأ عندما عنون احد أهم كتبه بـ " اللاعقلانية في السياسة العربية،" وهو ما مارسته السياسية خلال أكثر من نصف قرن، والتي قادت الى هزيمة حزيران 1967 وهزيمة 1970 بالحركة التصحيحية وهزيمة 1973 في حرب تشرين التي سميت زورا بحرب التحرير ومجمل الهزائم ومنها ما نعيشه اليوم حيث تدمر هذه الانظمة كل الاوطان من أجل ان تحافظ على كرسيها.

العـقـل واللاعـقـل والسيـاسـة العربـية

                                                     بقلم  بهنان يامين

بهنان يامين جديدة    لمدة أكثر من نصف قرن من الزمن لم تعرف المنطقة العربية الا أنظمة ديكتاتورية، باشكالها المختلفة، سواء القومية منها أو الملكية أو الامارتية أو المشيخية، وكلها أفرزت سياسة كانت سمتها الاساسية المشتركة هي سياسة لا عقلانية وتصحر سياسي. ألغت هذه الأنظمة العمل السياسي بشكل شبه كامل، فلم تكن تسمح بقيام أحزاب سياسية على أسس صحيحة وسليمة، حتى الأحزاب التي كانت موجودة، خلال فترة الانتداب وفترة الديموقراطية الواعدة كما يسميها جورج طرابيشي، كان أغلبها متأثرة بالخارج غرباً او شرقاً، هذه الأحزاب ونتيجة الاستنقاع السياسي، تجمدت في فكرها فلم تتطور بل على العكس جمودها سهل للأجهزة الأمنية لهذه الانظمة ان تشق هذه الاحزاب الى أكثر من حزب.

    عندما قامت ثورات الربيع العربي، من تونس الى سورية، حركت هذا المستنقع السياسي واستيقظت كل الاحزاب من أجل الادلاء بدلوها في المساهمة في هذه الثورات، وهذه الحركة لم يتحكم بها العقل، بل كانت اللاعقلانية هي المسيطرة، ولقد أعتبرت العديد من هذه الاحزاب، عن خطأ، بأن هذه الثورات كانت نتيجة نشاطها، من هنا ايضا اعتقدت عن خطأ، بانها قد تؤثر على هذه الثورات وتقودها، فوجدت بأن لا وجود لها وبالتالي لا أثر لها في رسم سياسة هذه الثورات، بل كانت تلحق الشعوب الثائرة والتنسيقيات التي كانت هي التي تقود وتحرك الجماهير الثائرة.

    هناك سؤال مشروع يطرح، لماذا استطاعت هذه الأنظمة الديكتاتورية بأن تسيطر تقريبا على كل هذه الاحزاب وتجمدها وتمزقها، رغم ان هذه الأنظمة لم تستخدم العقل في مجمل سياساتها؟ الحقيقة المرة، والتي يجب ان نقر بها، ان هذه الانظمة قد استخدمت عقلها في وضع هذه الاحزاب على الرف تنزلها متى تريد ان تستخدمها، وعندما تقتضي ضرورة إضعافها كانت يسهل لها شقها وذلك لسببين أساسيين، الاول الجمود العقائدي والتنظيمي والثاني الطموحات الشخصية لقيادات هذه الاحزاب التي لم تصل الى هذه المناصب نتيجة عملية ديموقراطية في هذه الاحزاب، بل نتيجة مدى بعد او قرب هذه الشخصيات من هذا القائد او ذاك، من هنا عرفت هذه الانظمة كيف تعتصر هذه الاحزاب لتصفيتها، وفي أفضل الحالات تجمدها.

    هذه الانظمة التي نجحت في منع العمل السياسي، نتيجة استخدامها العقل، فلقد فشلت هي ايضا بان تؤثر بالناس، وذلك لانها استخدمت اللاعقلانية عوضا عن العقلانية، فشعوب المنطقة لم تكن مؤيدة لهذه الانظمة، بل كانت مرهوبة من هذه الانظمة، من هنا طاعتها العمياء الى ان وصلت الى الحد الذي لم تعد تتحمل هذا الارهاب، من هنا كانت ثورتها. الطاعة العمياء للانظمة الديكتاتورية أغرى هذه الانظمة ان لا تستخدم العقل في سياستها بل دفعها غرورها وعنجهيتها الى سياسة لاعقلانية أدت الى المزيد من الخوف والمزيد من الافقار والذل، من هنا كان شعار تظاهرة الحريقة في قلب دمشق، 15 شباط 2011، والتي يعتبرها الكثيرون بداية الثورة، " الشعب السوري ما بينذل،" وهو الشعار الذي لو فهمه النظام وأصلح ما يمكن اصلاحه، لأنقذ نفسه بالدرجة الاولى وانقذ البلد بالدرجة الثانية.

    هذه الانظمة فشلت في كبح جماح هذه الثورات، كونها لم تستخدم العقل ولم تدرس سبب هذه الثورات، ولماذا ثار الشعب الذي خضع لهم واعتقدوا بأنه قد تروض؟ بل على العكس خضعت هذه الأنظمة للاجهزة الامنية، التي أخذت تقودهم عوضا عن ان يقودوها، وهذه الاجهزة عملت المستحيل من أجل القضاء على ثورة شعوب بلدانها، ولقد فشلت في ذلك، فازيح كابوس بن علي في تونس ومبارك في مصر والقذافي في ليبيا وعلي صالح في اليمن وهي قد دمرت سورية في سبيل بقائها، ومصير شعب سورية ان ينتصر في النهاية.

    بالطبع افرزت هذه الانظمة بسقوطها أنظمة بديلة لم تتبلور هيكليتها ومكوناتها كونها لا زالت متأثرة بالنظام القديم، ولكي تنجح في ذلك عليها ان تستخدم العقل، لكي تعقلن ثورتها وبالتالي تفرز نظاماً جديداً يبني وطناً على اسس تستخدم العقل من أجل دعم حسها الوطني لمطالبها التي قد يطول الوقت لتحقيقها، فالثورة ليست نزهة، واسقاط النظام ليس نهاية الثورة بل بدايتها، فالثورة هي  التغيير، وهذا التغيير يلزمها الوقت والصبر وأهم نقطة هو وعي الواقع بشكل صحيح، من أجل فهم هذا الواقع لايجاد الحلول السليمة والواقعية والعقلانية للمشاكل التي ورثتها من الانظمة الساقطة والايلة للسقوط.