في التعارض والتضاد… من أجل انتقال سلمي إلى الديمقراطية بقلم جاد الكريم الجباعي

تعلمت من المفكر الراحل، الياس مرقص، أن مذاهب الفكر ومناهجه كثيرة ومختلفة، كثرة فروع المعرفة واختلافها. ولكن، ثمة، في النهاية، منهجان ومذهبان: الوضعية الإيجابية والديالكتيك، على صعيد المنهج؛ والليبرالية والديمقراطية، على صعيد المذهب، (من ذهب يذهب ذهاباً ومذهباً. المذهب، هنا، غير العقيدة. “وللناس في ما يعشقون مذاهب”).

الديالكتيك وحده ينصف الوضعية الإيجابية مرتين: مرة لأنه يتضمنها بالضرورة، إذ يشتمل على جميع مراحل عملية المعرفة، بدءاً من الإدراك الحسي وصولاً إلى العقل، أو “الفكرة الشاملة”، بتعبير هيغل، مروراً بالفهم، أو المعرفة العلمية. ومرة أخرى حين يستمد مقدماته ومقولاته وقضاياه من أحدث منجزاتها وآخر فتوحاتها، أي مما صارت إليه عملية / عمليات التشكُّل والتبنين والانتظام، على كل صعيد.

والديمقراطية وحدها تنصف الليبرالية (مذهب الحرية) مرتين أيضاً: مرة لأنها تتضمنها بالضرورة، إذ لا ديمقراطية بلا ليبرالية؛ ومرة أخرى حين تعيد إنتاج مبادئها وقيمها في فضائها المعرفي والأخلاقي. وتجدر الإشارة هنا إلى أن علاقة الديمقراطية بالليبرالية هي علاقة جدلية يمكن التعبير عنها بجدل الحرية الذاتية والحرية الموضوعية، أو بجدل الحرية والقانون، بوصف الأخير تعبيراً عن الحرية الموضوعية.

ومن ثم، فإن “على المفكرين العرب، ولا سيما التقدميين منهم، أن يختاروا اختياراً مبدئياً ونهائياً (بتعبير الياس مرقص): إما الليبرالية والوضعانية، وإما الديمقراطية والديالكتيك”. (الديالكتيك أسبق من الماركسية، وغير مستنفد فيها، ولا ينتمي إلى مذهب بعينه. هذا لمن يتحسس مسدسه أو خنجره حين يسمع كلمة ديالكتيك، ولمن تعلم الديالكتيك في المدرسة الستالينية أيضاً، وللمعجبين بالليبرالية الجديدة أخيراً).

الوضعية الإيجابية، قابلة للتمذهب الدوغمائي، حين تدَّعي استنفاد الحقيقة، (أوغست كونت مثالاً)؛ بخلاف الديالكتيك، الذي لا يقبل التمذهب، ولا يستنفد في أي مذهب: أفلاطوني أو كنطي أو هيغلي أو ماركسي أو صوفي. والليبرالية، التي لا تتعدى حدود الوضعية الإيجابية المزهوة بيقينها العلمي، يمكن أن تصير هي الأخرى عقيدة دوغمائية (فلسفة نهاية التاريخ، وصراع الحضارات، مثالاً)، بخلاف الديمقراطية، التي لا تقبل التمذهب، ولا تستنفد في نظام بعينه، ولا في أي نظام قائم أو ممكن. الديمقراطية نظام ناقص دوماً، ونقصه هو أساس قابليته للنمو والتحسن، بنسبة تحسن شروط الحياة الإنسانية، بخلاف أنظمة الاستبداد والاحتكار، أنظمة العصمة والقداسة والتمامية والكمال.

علمت “الماركسية اللينينية الستالينية” مريديها أن الديالكتيك هو “صراع الأضداد” أو “صراع الطبقات”: “البروليتاريا الثورية”، ممثلة بحزبها الثوري، تصارع البورجوازية، وينبغي أن تصرعها، وقد صرعتها في غير مكان؛ والقوى التقدمية، الثورية، وفق القاموس السياسي القومي العربي، تصارع القوى الرجعية العميلة للاستعمار والإمبريالية، وينبغي أن تصرعها، وقد صرعتها في غير مكان؛ فأنتجت كل منهما الشمولية والاستبداد. لا يمكن فصل هذه النتيجة عن أطرها المرجعية ومقدماتها النظرية والأخلاقية، حيثما جرت عملية تقلدة الماركسية أو الاشتراكية، أي إخضاعها لمنطق التقليد، وحيثما جرى تسييسها، بل تحزيبها، وجعلها عقيدة أو ديناً يخضع لمبادئ المعرفة الدينية.

الثنوية، الضدية، من أبرز مبادئ “المعرفة الدينية”، ومن أهم أركان الأيديولوجيات “الثورية” و”الجهادية” الشهيرة. الثنوية هي مبدأ التضاد المؤسس على قصور الحواس وجنوح الخيال وتأجج العواطف (نور وظلمة، سواد وبياض، طهارة ونجاسة، ملائكة وشياطين، فسطاط الخير وفسطاط الشر، الإيمان والكفر، دار الإسلام ودار الحرب، البروليتاريا والبورجوازية، المادية والمثالية، الاشتراكية والرأسمالية، الالتزام والحرية، حزب الله وحزب الشيطان، تقدميون ورجعيون، وطنيون وخونة …). وهو مبدأ ذاتي خالص، قوامه الإيمان أو الاقتناع الذاتي؛ فليس في الواقع من تضاد، لأن جميع الصفات، التي تبدو متضادة هي صفات قابلة للتفاوت، لاقترانها بالكم، وتنطوي كل منها على جملة من الفروق الدقيقة مما تدركه حواسنا وفاهماتنا ومما لا تدركه. فبين الأسود والأبيض، على سبيل المثال، ما لا حصر له من الألوان؛ والسواد ذاته درجات، وكذلك البياض، (فأي أسود منها هو ضد الأبيض، وأي أبيض هو ضد الأسود؟)، وكذلك جميع الصفات التي تبدو لنا متضادة، ما يقتضي عدم الثقة بالحواس وعدم الركون إلى الأحكام التي تبنى عليها وعلى العاطفة والخيال.

التضاد، مرة أخرى، ليس من صفات الواقع وليس من خصائصه. ليس من تضاد سوى في اللغة / المجاز، التي تتعدى حدود المواضعة والاصطلاح، وتتعدى حدود الواقع. ومن ثم، فإن جميع الأيديولوجيات، ولا سيما الدينية منها، وجميع النصوص المقدسة، الدينية منها وغير الدينية، تقع في نطاق اللغة / المجاز، لا في نطاق اللغة / الحقيقة، لغة الواقع ومفاتيح معرفة العالم؛ وهي مما يعترض بين الذات العارفة وموضوعها، فيشوش عملية المعرفة أو يحرفها، ويحل أوهام الذات وأباطيلها محل حقائق الواقع؛ فتصير الذات مؤسسة في اللغة المجازية المقدسة، وعالمها الوهمي، الانفعالي، لا في العالم الواقعي، الفعلي.

الأضداد المفترضة كل منها قائم بذاته ولذاته، لا تربطه بضده أي رابطة ضرورية، فهي لا تلتقي، ولا تتَّحد، ولا يتوقف وجود أي منها على وجود الآخر، ولا يقوم أي منها بالآخر لا يستغني عنه، وينفي أي منها الآخر من دون أن ينفي ذاته، بل إنه ينفي ضده أو يعدمه أو يبدده، كما يبدد النور الظلام.

لعل العلاقة الملتبسة، التلفيقية، بين الوضعية الإيجابية والدين (افتراض وحدة العلم والدين أو عدم تناقضهما)، وهما ضدان ينتمي تضادهما إلى التضاد الوحيد بين العالم الفعلي والعالم الوهمي، أي بين اللغة / الحقيقة واللغة / المجاز، يسوغها تمذهب الأولى ويقينيتها، مع أن تطور العلوم كان ولا يزال يشير إلى هشاشة اليقين الديني، وإلى هشاشة اليقين بوجه عام. فالتيولوجيا المحتاجة إلى الوضعية الإيجابية لتبرير مزاعمها لا تفطن إلى أن هذا التبرير ذاته شهادة على هشاشتها، في حين لا تحتاج الوضعية الإيجابية إلى أي شهادة من خارج حقلها.

ندعي أن الأضداد المفترضة تقتصر على الصفات، التي يتحتم على كل منها أن تتبع الموصوف في جميع أحواله، لأنها حدود وفروق قطعية ومتناهية ومقرونة بالكم، أي لأنها صفات الأشياء والأفراد والظواهر المتناهية، وليست مصادر أو أسماء معان غير متناهية، ومجردة من الكم، كالعلم والجهل، والخير والشر، والحق والباطل، والفكر والواقع، والوعي والوجود، والذات والموضوع، والحرية والضرورة، والمطلق والنسبي… إلخ.

افتراض التضاد في الصفات يحيل على تقليد يفصل الماهية عن الوجود، ويحوِّل الصفات إلى جواهر أو ماهيات؛ فحين يقول هذا التقليد: الثقافة العربية، أو الثقافة الإسلامية، على سبيل المثال، يحول الصفة (العربية أو الإسلامية) إلى ماهية تلتهم الثقافة وتجوهرها، فتكف عن كونها صفة للثقافة وتعييناً لها يميزها من الثقافة غير العربية أو غير الإسلامية، وتلغي حقيقة أن الثقافة حد يحد الثقافة العربية أو الثقافة الإسلامية، وأن الثقافة (الإنسانية) أشمل وأعم من الثقافة العربية أو الإسلامية وأعظم منهما، وأن الأخيرتين مستغرقتان في الثقافة الإنسانية ومحكومتان بها محكومية الجزء بالكل.

الأضداد، بوجيز القول، هي صفات مجردة من النوع والكم معاً، هي عدم، لا ينتج من تضادها سوى العدم، والعدم دوماً هو عدم وجود ما.(عدم الاستقلال، عدم الحرية، عدم المساواة، عدم القانون، عدم الحق، عدم المعرفة وعدم العلم… إلخ). الأضداد هي قوام العالم الوهمي المجرد من النوع والكم، كعالم القوميين والإسلاميين و”الثوريين” و”الجهاديين”، من جميع الأصناف، العالم الوهمي المتسلط على العالم الفعلي والمسيطر عليه سيطرة الأوهام على حامليها، لأن (هذا) العالم الفعلي، عالم العرب والمسلمين، عالم العصمة والقداسة والتمام والكمال، أي عالم التطرف والكراهية، الذي هو نفسه عالم الفقر والجهل والمرض والعجز والتواكل، عالم الحرمان والمحرمات، لا يزال في حاجة إلى أوهام.

المصادر أو أسماء المعاني، أي المفاهيم، المتعارضة جدلياً، التي يظنها بعضنا أزواجاً أو ثنائيات متضادة، على خلاف ذلك؛ فهي تعارضات جدلية، لا يقوم أي منها، ولا يوجد، إلا بالآخر. لأن وجود أي منها يتوقف على وجود نقيضه، كالسالب والموجب في المغنطيس، أو كالوجود والعدم، والحياة والموت، والخير والشر، والحق والباطل، والعلم والجهل، والله والإنسان، والفكر والواقع والوعي والوجود والذات والموضوع … و”الأنا” و”الآخر”…؛ ولأن كلاً منها يتحدد بالآخر، ويحدده؛ ويفرض كل منها الآخر ويستدعيه ضرورة، ولا يستغني عنه، لأنه قائم فيه شرطاً من شروط وجوده واقعاً وإمكاناً؛ وينفي كل منها الآخر بقدر ما ينفي ذاته (النفي هنا هو نفي وانتفاء في الوقت عينه). ولا يكونان إلا متحدين ومتضامنين، في الجملة الحية المعنية، يذهب كل منهما في الآخر ويذهبان معاً في تركيب جديد ليس أياً منهما. الديالكتيك هو منطق الفكر، لأنه منطق الواقع، ومنطق الوجود.

جدل الحياة والموت يقدم مثالاً ساطعاً؛ فلا حياة بلا موت، ولا موت بلا حياة. الحياة شرط وجود الموت؛ والموت شرط استمرار الحياة وتجددها وتغير أشكالها. الموت مبثوث في جميع ثنايا الحياة، أو في جميع خلاياها، إذا جاز التعبير، لا ينفصل عنها ولا ينفك. “موت الفرد هو حياة النوع”. الحياة بلا موت موت مطلق، ذلكم هو “الخلود”، أي السكون المطلق وموت الزمن وانعدامه (الزمن هو شكل حركة المادة). الموت هو عامل السلب والنفي، الذي يولد الحركة، حركة النتوج والصير، التي من دونها تتوقف الحياة وتكف عن كونها حياة.

الكائن الحي والجملة الحية هما في كل لحظة غير ما كانا عليه في لحظة سابقة، بسبب ديالكتيك الحياة والموت. وكذلك الكائنات غير الحية، بحكم منطق التشكل. منطق الحياة هو منطق الصيرورة، أو منطق التشكل وتحول ما هو موجود بالقوة إلى موجود بالفعل، وفق مبدأ الإمكان ومبدأ الاحتمال؛ حياة الكائن، الفرد، الناتج والصائر، لحظة من لحظات الصيرورة. وهذا معنى أن “الكينونة لحظة من لحظات الصيرورة، أو لحظة من لحظات الديالكتيك”. الكينونة هي موضوع (العلم)، بل الفهم؛ أي مجال عمل الوضعية الإيجابية. والصيرورة هي موضوع العقل، أي مجال عمل الديالكتيك. الديالكتيك إذاً هو منطق الموضوع ذاته، منطق الواقع، وليس شيئاً مقحماً عليه من خارجه.

“الصراع الطبقي”، (ونفضل تعبير التعارضات الاجتماعية / السياسية)، استطراداً، يحيل على الفكر، وليس سوى مقولة تفسيرية، كأي مقولة أخرى، لا تستنفد الحقيقة، ولا تستنفد الواقع والتاريخ، مقولة تفسر تطور تقسيم العمل وتوزيع عوامل الإنتاج، بدلالة تطور أشكال الملكية، ولا سيما الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وتبين أن تطرف الملكية الخاصة، لا الملكية الخاصة ذاتها، هو أساس استغلال الإنسان للإنسان واستعباده وإهدار كرامته الإنسانية، ولا سيما حين يبلغ هذا التطرف درجة الاحتكار المؤدي إلى الاستبداد، وتؤسس نقد الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج بدلالة نقيضها الجدلي، أعني الملكية العامة، الاجتماعية، وتضعها تحت جدلية الخاص والعام، التي تؤكد أن انتفاء أحد هذين الحدين هو انتفاء الآخر بالضرورة، إذ لا وجود للعام إلا في الخاص والفردي …. مقولة الصراع الطبقي لا تحيل على حرب متاريس (حرب أهلية) بين الطبقة العاملة والبورجوازية في هذا البلد أو ذاك. ولا يغيبنّ عن الذهن أن عملية “التحويل الاشتراكي، في روسيا القيصرية بدأت بحرب أهلية انتقدها لينين نفسه في معرض انتقاد “اشتراكية الحرب”، وحاول تلافي نتائجها بما سمي “سياسة النيب”. وكذلك سائر عمليات “التحويل الاشتراكي” في غير مكان، العمليات التي حولت “ملكية المجتمع” أو ملكية الدولة، إلى ملكية خاصة لمن يملك المجتمع، ويملك الدولة، أو إلى ملكية لا أحد، صارت أساساً للفوضى والاعتباط والتعسف وأساساً للفساد والإفساد.

المشكلة إذاً في تطرف الملكية الخاصة، لا في الملكية الخاصة ذاتها، وفي تطرف المصلحة الخاصة، لا في المصلحة الخاصة ذاتها، وفي تطرف السلطة، التي لا تعدو كونها سلطة الملكية الخاصة المتطرفة وسلطة المصلحة الخاصة المتطرفة. التطرف هو المعادل الأخلاقي للاستبداد والاحتكار. الديمقراطية، كما نفترض، نظام يحد من التطرف، شيئاً فشيئاً ومرة تلو مرة، على كل صعيد. فالاعتدال هو المعادل الأخلاقي للديمقراطية، ولنقل إنه فضيلتها الأخلاقية. ومن ثم فالديمقراطية لا يمكن أن تبنيها قوى متطرفة، ولا يمكن أن تبنى بأساليب متطرفة، انقلابية أو عنيفة، لأن إسقاط السلطة أو القضاء عليها بالقوة هو إسقاط المعارضة أو القضاء عليها بالقوة ذاتها. فما بني بالسيف بالسف يهدم.

وإذ نفضل تعبير التعارضات الاجتماعية / السياسية فلكي نشير إلى أن “الصراع الطبقي” بين قطبين محكوم بجملة من التعارضات الاجتماعية الأخرى، التي تمنحه معنى واتجاهاً؛ ولكي نعيد تأسيس مفهوم المعارضة السياسية بإزاء السلطة السياسية، مع تأكيد صفة السياسية للطرفين، ونؤكد أن هذا التعارض جدلي بامتياز؛ فإن نفي المعارضة السياسية لا ينفي السلطة، بل ينفي عنها صفتها السياسية، وينفي السياسة، ويكشف النقاب عن المشروعية الفعلية للاستبداد، أعني مشروعية القوة والغلبة والقهر والاحتكار، التي تقوم عليها وبها أي سلطة غير سياسية، كسلطة العشيرة أو الطائفة أو الطغمة أو سلطة الحزب الواحد، ويحدد طابع المعارضة، في الوقت ذاته، ويفسر الطابع الأيديولوجي، المذهبي أو العقائدي، للسلطة والمعارضة معاً.

السلطة بلا معارضة هي أي شيء سوى السلطة السياسية. ما يقتضي إعادة بناء مفهوم السياسة على أنها حقل عام مشترك بين جميع مواطني الدولة المعنية، قوامه جدل السلطة والمعارضة، على كل صعيد، قبل أن تكون السياسة، ولكي تكون، علم الدولة (الحديثة) وعلم إدارة الشؤون العامة. فإن جدل أو ديالكتيك السلطة والمعارضة هو شرط الانتقال السلمي إلى الديمقراطية، وشرط الديمقراطية ذاتها.

الطريق السلمي إلى الديمقراطية يشترط، قبل أي شيء آخر، أن تكون المعارضة (الديمقراطية) معارضة سياسية، لا أيدبولوجية، كما هي الحال في أوضاعنا، أي أن تكون مختلفة نوعياً عن السلطة التي تعارضها. فمعارضة قوميين لقوميين أو إسلاميين لإسلاميين أو اشتراكيين لاشتراكيين (وهي من قبيل التضاد) كانت، في التجربة العملية المعروفة، كمعارضة الأسماك الصغيرة للأسماك الكبيرة، الأسماك الكبيرة تأكل الأسماك الصغيرة دوماً، فلا ينتج من ذلك نوع جديد من السمك. السلطات المستبدة تتطيَّر من أي معارضة، ولا سيما من تلك التي تنافسها على مصادر مشروعيتها الأيديولوجية، فليس من سبيل، والحالة هذه، سوى التطرف والعنف.

المعارضة الديمقراطية ليست معنية بتعريف نفسها بأنها ديمقراطية فقط، وليست معنية بنشر وعي ديمقراطي مناسب فحسب، بل هي معنية، أساساً، بتعريف نفسها بأنها معارضة سياسية، وبإعادة تعريف السياسة، بوصفها حقلاً وطنياً عاماً مشتركاً بين جميع المواطنين، ليس من حق أحد أن يقصي الآخرين عنه أو يستبعدهم منه. ومعنية بإعادة تعريف الوطنية، أيضاً، بأنها انتماء إلى الدولة الوطنية. فإن من شأن هذا التعريف أن يكشف عدم جدوى العنف وعبثيته، ومن شأنه أيضاً أن يستبعد العقائد من الحياة السياسية، أو أن يطردها من حقل السياسة مكللة بالورد، وذلك باحترام جميع العقائد والأيديولوجيات بالتساوي.